الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما ذَكَرتُ، أو ذُكِرَ لي ابنى، إلا وانتفض قلبي بين أضلعى وكأنه يريد أن يقفز منها هَرباً من الألم، وإلا وصَعد الدم في رأسي يكاد يفجُرُها حزناً وكمداً. وهو ما لا أكاد أجد له دواءاً إلا أن أردّد "حَسبىَ الله ونِعم الوَكيل".
فالعـيـنُ بعـدهُـم كــأن جفونـهـا كُحلت بشوكٍ فهـي عـُور تــَــدمـعُ
منذ أن وصَل ولدى إلى مَحلّ سجنه في مونتريال، وهو يحدثنى على التليفون كل يومين أو يزيد. يُجدّد الألَم ويَنكأ الجُرح. يسْألني عما يَجرى في مِصر، وفي بلاد العرب، وكيف أنه مُتشوقٌ لأن تتحرّر هذه البلاد، حتى لو لم يستمْتع بها. يخبرني عن أصحابه ورفاق حَبسه، من المُسلمين، وكيف يقضون وقتهم، بين قِراءة الكتب التي أرسلنا، وتلاوة القرآن، والإستماع إلى شَرائط التجويد.
أقام بها مُستوطناً غـَــير أنّه على طـــول أيّام الــمُقام غريبُ
يحدثنى إبنى إنه، ومن مَعه، قد وطّنوا النفسَ على أن تلك هي حياتهم من الآن فصاعدا، نُزلاء في هذا المَكان، لا يغادِرون ولا يبرَحون، وأنّهم راضون بما قسَمَ الله لَهم، وأنهم لا يَكادون يَفتقدون شيئاً من الحياة خَارج الأسوار، وما خارج هذه الأسوار إلا أسواراً أعلى وأقسى، لا يراها إلا من استبدل مِنظار العَقل بمنظار الحِسّ. إجتمعَ همُّهم على أمر واحد، هو قبول المَصير والتسليم به.
إبني في شأنٍ، وأنا في شأن، هو في حياته المقبلة وراء أسوار عالية، يحاول أن يتلاءم معها، وأن يتقبلها ويتعايش معها، وأنا في شأن حرماني منه، من ابني الأكبر، أن أراه قادماً علىّ، زائراً ومؤنساً، أرى فيه ست وثلاثون عاماً قضيتها أرعى وأربي، أعتنى وأحوط، منذ أن دّرَجَ في شهوره الأولى في السعودية، ثم حادثة السيارة في رحلة العودة من الحج عام 1976، والتي تركت جراحها أثراً على وجهه إلى يومنا، ثم أيامه في مدارس عمان الأردن، ثم بمصر، ثم بإنجلترا، ومتابعة دراسته العربية بالسفارة المصرية بلندن، حيث رعاه فيها الصديق الفاضل محمد رفاعة الطهطاوى، ثم نزوحا إلى كندا، إلى القدر المعلوم. رحلة طويلة، تمرّ أمام عينىّ في لحظاتٍ، لتنتهى إلى ذلك الصوت القادم عبر أسلاك الهاتف، أعود بعدها لأستمع إلى ما يقول، ودمعى يشرق بي دون هوادة.
الحَمد لله ثم الحَمد لله، ثم الحَمد لله. تتقطعُ نفس الأب حُزناً وألماً، ويعاني العَذاب ضِعفين، ضِعفاً لنفسِه، وضِعفاً لولده. وما كان بُكاء يعقوب، وفقده البصر، على ابنه يوسف عليهما السلام، إلا ثمرة ما في نفسه، مما لا يعلمه، ولا قريباً منه، إلا من مرّ بمثله.
اللهم هوّن، وأزِح الغمّة، بأي الطريقين أحبُ اليك، إما أن يأتي إلي، أو أن آتي إليك.