فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مُشكِلتنا مع العِلمانيين .. قائمة ما قاموا!

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      على الرغم من وضوح الإسلام وبساطة رسالته، التي تتلخص في وحدانيتة ربوبيته، ووحدانية عبادته وطاعته، والخضوع له وحده لا شريك له، إلا إنها كثيرة هي الرؤى والآراء التي يتبناها أفراد الناس فيما يتعلق بإطار الدين ومَعناه وحدوده. فمن الناس، ممّن يؤمن به على الجُملة دون التفصيل، من يقيّد حُدوده ويضيّق إطاره ليجعّل الخُضوع لله مَطلوبٌ داخل حُدودِ المَسجد لا غير، ومِنهم من يقبله بشُروطٍ مُحَددة تلائِم نُظماً إجتماعِية، أو أطراً سِياسية يتبناها سلفاً، ومنهم من يكفر به مطلقاً ويراه عارٌ على العقل وقيدٌ على الحياة!

      والعلمانيون ليسوا بِدعاً من ذلك، فمُشكلتهم مع الإسلام هى إنهم يتعاملون مع النصّ القرآني من منظورين، أحدهما أن القرآن نصٌّ بشريّ تاريخيّ، نشأ في بيئة معينة، حكمتها عوامل إجتماعية وسياسية وإقتصادية محددة، فاستجاب النصّ لهذه العوامل، في ضوء القوى الداخلية والخارجية التى كانت تسود المنطقة العربية آنذاك. والمنظور الآخر أن القرآن نصٌّ إلهىّ تاريخيٌّ، أنزِل بوحىٍ على أمّة معينة، فى فترة زَمنية مُعينة، عَالجَ أوَضَاعها آنذاك، إلا إنه لا يتعدّى أثره هذا المَجال الزمانيّ والمكانيّ، ولم يقصَد أن يمتد عَمله قروناً بعد قرون.

      وأصحاب المَنظور الأول، هم من لا يدّعون الإسلام إبتداءاً، ولا يدفعون من يَنعتهم بالخروج عليه، إذ هم من الثقافة العلمانية اللادينية بمكان غفلت فيه قلوبهم وسُكّرت أبصارهم، وهم الذى ينطبق عليهم لفظ "اللاديني" معبراً عن هويتهم، إذ هم لا يؤمنون بدينٍ أو بوحيّ أو بنبوةٍ، فالأمر بالنسبة اليهم أمر تطورٍ تاريخيّ، لأفكارٍ سياسية أو إجتماعية، ظهرت في مراحل التاريخ بأشكالٍ وأسماء متعددة، وصبغتها العامة صبغة شعورية عاطفية أطلقت عليها الدين.

      أما أصحاب المنظور الثاني، فهم ممن تأثر بالفكر الغربيّ الحديث، الذي تكوّن منذ عهد فرانسيس باكون صاحب المذهب التجريبيّ وديكارت صاحب نظرية الشكّ، اللذين حاصَراً الفكر الكنسيّ الإرهابيّ في مجاليّ العلم واللاهوت. فتابع هؤلاء هذا الفكر في ثورته على الكنيسة، سواء في مجال الخرافة التي سادت العقائد الكنسية مضادة للعلم، أو ما سادها من خُرافات عقدية تتعلق بالثالوث والكهنوت مضادة للفِطرة الإنسانية والعقل جميعاً. فكان أن ثاروا على الإسلام، كدين، لشدة جَهلِهم بِطبيعته، حيث ركزت دِراستهم بعيدا عن الوحي إبتداءاً، فكان جَهلهم بالإسلام ظُلمَات مُتراكبة، ولإتباعِهم الهوى والرغبة في التفلت من التكاليف، إذ الإلتزام بها عبءٌ يحتاج إلى عَزمٍ غالبٍ أقوى من إندفاع الغريزة، وقد قال تعالى عن الصّلاة، مُعبراً عن التكاليف كلها "وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلْخَـٰشِعِينَ" البقرة 45.

       وهؤلاء "لادينيون" بمعنى أنهم لا يؤمنون بالدين كسلطة عليا ثابتة لا تتبدل، وبالله كآمر ناهٍ في شأن الناس، كلّ الناس، كلّ الزمان. فتجدهم يتحدثون عن إتباع "روح الإسلام"، و"جوهر الإسلام"، ليس "الإسلام"، إذ الإسلام لديهم عفى عليه الزمن وانتهت "صلاحيته"! لكن ذلك ليس ذلك هو الدين الذي من يؤمن به كان "دينياً" لأنه الدين الحقّ، ومن لا يؤمن به كان "لادينياً"، وإن آمن بوحى محدود الأثر، وبإله يعمل خارج دائرة البشر!

      ويلحظُ المُسلم الفرق بين أصحاب المنظورين في غضبِ أصحابِ المنظورِ الثاني حين يُرمى بالكفر أو اللادينية، إذ يقول له شيطانه "ولكنك مؤمن بأن هناك إلهاً خالقا رازقاً، وأنه أرسل وحياّ من السماء، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسولٌ منه، فكيف أكون لادينيّ؟ وينسى هذا الغافل أن ما يؤمن به هو جزء من رسالة الإسلام، آمن ببعضها وكفر ببعض، وإن عتاولة قريشٍ كانوا يؤمنون بالله رباً خالقاً رازقاً "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ‌ٰتِ وَٱلْأَرْضَ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ الله" العنكبوت 61، "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءًۭ فَأَحْيَا بِهِ ٱلْأَرْضَ مِنۢ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ" العنكبوت 63، "وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ " الزخرف 87. فأي فضل له على هؤلاء إذن؟ وقد آمن أبو طالب بنبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وأمر أولاده بإتباعه، ونَصَره بنفسه وأهله، فلم يغنى عنه شيئاً، إذ لم يعلن طاعته غير المشروطة له، رغم تصديقه بنبوته.

      هذه هي مشكلتنا مع العِلمانيين "اللادينيين"، بشقيهما. نحن، المُسلمون، نؤمن بأزلية الوحيّ، وبأن في القرآن الكريم، كلمة الله الأخيرة للبشر، وفي سنة خاتمِ المُرسلين صلى الله عليه وسلم ، من الأحكام الجزئية والقواعد الكلية والأصول العامة ما يشمل كلّ ما يطرؤ على أحوال البشر من حوادثٍ واشكال الحياة من تجدد، وأن هذه كلها تقدمُ للبشر ضَماناً من خالقهم عز وجلّ، بعزّة الدنيا ونجاةِ الآخرة "أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ" الملك 14. وليس بعد هذين لإمرءٍ مَطمحٌ.

      مُشكلتنا مع اللادينيين إذن لا حلّ لها ، إذ هي متعلقةٌ بالنظر الأصليّ إلى الحياة، مبدؤها ومَعادها، ومصدر التلقى فيها، وحقيقة الوحى وأزليته. ليس خلافنا حول مفهوم الحرية أو العدالة أو غيرها، فما هذه إلا آثارٌ جانبية لهذه الهوّة الفارقة بيننا. نحن المُسلمون نؤمن بذاتِ المَعاني، لكن تحت ظلالِ القرآنِ، وبتوجيهٍ من الخالق، وبهدايةٍ من رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء يؤمنون بها كما تُسولُ لكلٍ منهم نفسه في تفسيرها وتطبيقها، فتجدهم تفرقوا فيها شيعاً. 

      وليس مَثلُ من إسْتند إلى الحَق ولجَأ إلى رُكنٍ شديدٍ، كمثلِ من إتبع هواهُ وأخلدَ إلى الأرضِ، وراح يلهث وراء نظرياتٍ وضعية. لا يستويان.