الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخشى أن يكون قرائى الأعزاء قد مَلوا من المعاني التي لا أزال أكرر مرة تلو المرة، عن الثورة، نجاحها أو فشلها، وما يراد بها، وما يحاك حولها، ومن يتربّص بها، وما أرصُد من ذلك فيما يستجد من أخبار يومية تكاد على إختلافها تتشابه في الدلالة على ما ذهبت اليه ونَصَرته، من أن الثورة، بحالها اليوم، مَاضيةٌ إلى هَلاك. ولا على القارئ أن يَملّ، فأنا شخصياً قد مَللت، أو كِدت.
لكن عُذرى إلى القارئ العزيز هو أن مَوضوع الصّراع أكبر من أن يُلتفت عنه، أو أن يُخاضُ في حديثٍ غيره، فهو الأهمّ في وقتنا هذا من أي موضوع آخر قد يحاول الكاتب طرقه. بل ليس من الأمانة أن يُقّدّم المهم على الأهم بحالٍ. وأُشهد الله أني قد حاولت، لكن إستعصَى علىّ القلم، وانحرف بي الفكر، وعدت من حيث أتيت، إلى الثورة.
أمر الثورة المصرية، ونجاحها، هو أمر تاريخٍ لا أقل، إما صناعةّ أو إضاعة، لأن نجاح الثورة صناعة للتاريخ، ليس في مصر فحسب، بل في المنطقة العربية كلها، ولا أبالغ إن قلتَ في الساحة العالمية كلها. فمصرُ قلب العرب وحامية الإسلام والعروبة منذ قرون، لم تتخلّ عن دورها إلا في عهد المأفون الساقط، فكان أن نفش الصغير، واضمحل الكبير، وتكرّس الإنقسام، وصَخَبَت ضِباع الصُهيونية، لمّا تنحّتْ السِباعُ عن عرشها.
في نجاح الثورةِ المصريةِ أملٌ معقودٌ يتطلع اليه كلً عربيّ مسلم، بل وكلّ قبطيّ مُخلص للأرض الذي تأويه وتحميه وتُحسن اليه. وكل ما نخشاه أن يكون الأمل مَعقوداً بالسّحاب، يبقى حينا يَستظِل به الناس، ثم يمضى لشأنه، ومعه الأمل المفقود!
ذلك أنّ هناك، مع هذا الأمل المعقود، شرٌ مَرصود، شرٌ يمنع الخير أن يبقى، ورياحٌ تدفع سُحُب الرّحمة أن تسْكن، وتمطر رُخاءاً وحُرية حيث تصيب. هذا الشرّ نعرفه ونترصده، لكنه عتيٌّ لا يَبرح، قوىٌّ لا يَنزَح، أخذ بزمام الأمور، وترك فراخ الفساد تعبث بالشارع المصرىّ، وبالعدالة المصرية، وهيئ الجو للعبث بالإنتخابات القادمة، ليضمن إفسادها، ويعلم الله أين يريد الشرُّ بهذا البلد أن تذهب؟ وقد يظن بعض السذج ممن لا يقرؤون الأحداث على وجهها، من المنتمين لبعض التيارات الإسلامية، أنّ السكوت والسكون في هذه المرحلة، سيؤدى بنا إلى تَجاوزها، وإلى إنتخابات تجرى كما جَرت في الإستفتاء، قوية آمنة نظيفة، وهيهات، فليس اليوم كالأمس.
اليوم، قد إستعادت قوى الشرّ رُشدها، وآبت إليها قواها، بعد هَولِ الضَربة الأولى، ولَعبَ المالُ دوره في تجنيد وتسليح البلطجية بمئات الآلاف، وخرجت أفاعي الظلام من جحورها في كلّ مؤسسة وإدارة وهيئة، تعيد مكانتها، وتؤسس دورها الجديد، وترك الشرُّ القائمُ في هذا المشهد يتكامل. بل إن حكومة عصام شرف قد إتخذت رأس الأفعى، الجمل، نائباً لوزرائها! وباع عصام ما وعده الثوار أن يعتصم به من صِدق وعَدل، وذهب "شرفُ" الوزارة وغَاضَت مِصداقيتُها.
كيف يتصورُ العاقل أن تكون الإنتخابات القادمة، في هذا الجوّ الذي غابت فيه قوات الأمن، وظهرت فيه قوى البلطجة والإفساد، واستعدّت المَحليات التابعة للحُكم الفاسد بالمَال والعتاد؟ أحسب، ولعل الله سبحانه أن يخيّب ظنى، أنها ستكون كارثة محققة، سِمَتها العنف والدموية، ومصيرها الفشل، وتابعها إنقلابٌ عسكريٌّ جديدٌ لا يبقى ولا يذر، بذريعة الفوضى المُفرطة، التي تُركت خِصيصاً لهذا الغرض.
الثورة المصرية، في مرحلتها الثانية، إما أن تصنع تاريخ مستقبلٍ حضارىٍّ وارفٍ، أو أن تضيع تاريخ آلاف السنين، وكأنها لم تغن بالأمس. ولو إعتقد العاقلون في مصر أن حبس مبارك أو حتى شنقه، هو غاية ما تصبو اليه الثورة، فإننا نكون في مأزق حقيقيّ. إذ إعدام مبارك يجب أن يكون نتيجة لزوال الفساد وظهور العدل، لا غاية في ذاته يستفاد منها أن الفساد قد رحل وأن العدل قد ساد!
اللهم لطفك بمصر، وبأهلها.