لا شك أنّ حب الذات وإيثار النفس وتقديم المصلحة الشخصية على العامة هي مما غُرِس في نفس بني آدم منذ خلق الله الخلق، وليس أدلّ على ذلك من فعل ابني آدم، حين قتل أحدهما الآخر لتقديم مصلحته إذ تعلرضت مع مصلحة أخيه ولو كان ذلك بغير الحقّ. ولهذا، ولأن الله سبحانه لا يكلّف إلا بما هو مستطاع، فقد أمر سبحانه بالعدل، ونهى عن الظلم، قال: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان" فبيّن بهذا أنّ العدلَ هو عدم الظلم، وهو يعنى عدم التعدى على حق الآخرين، وفرّق سبحانه بين العدل وبين الإيثار الذي هو أن يقدّم المرء الغير على نفسه، بل جعل هذا الإيثار من أفعال المحسنين دون أن يكون من تكاليف الشريعة ولهذا جاء وصفا للفضلاء وليس أمراً من الأوامر، كما في قوله تعالى: "ويأثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة". وفي الصحيح عن أبي هريرة: أن رجلا من الأنصار نزل به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه , فقال لامرأته : نومي الصبية، وأطفئي السراج، وقربي للضيف ما عندك، فنزلت هذه الآية.
إذا فإن الله سبحانه قد أمر المسلم بأن يقاوم تلك الغريزة الدفينة في النفس والتي لا تكاد تخلو منها نسمة على الأرض إلا من عصم الله من انبيائه ورسله، بأن يطبق معايير العدل أولا فإن نجح في هذا القدر فلا بأس من أن يعلو إلى أفق الإيثار والتضحية، ولكن لايقبل منه دون العدل أو، إن شئت، دون الكفّ عن الظلم. ولا يحسبن أحد أن هذا أمر ميسور، فإنه لولا مشقته على النفس لما كان تكليفا، إذ التكليف يحمل معنى المشقة. وانظر إن شئت حولك بل وفي ذات نفسك، إن قدرت على ذلك، لتري مصداق ما نقول. ولكن عليك بالنصفة والتقوى إذ لا يمكن بغيرهما أن يدرك المرء عيب نفسه.
والعجب أن الظالم لا يظلم وهو يعلم أن ما يقوم به ظلم، أو أنه مجانب للعدل، بل غالبا ما ترى الظالم يتمحك بأعذار لا حصر لها يمليها عليه شيطان نفسه، كي يسهّل عليه أمر الظلم، إذ إن مخالفة الفطرة صعب شاق لابد له من غطاء ومن تزيين للمخالفة.
أنظر إن شئت إلى الزوج الذي يظلم أهله بإيذائهم أوسلبهم حقهم في ابداء الرأى أو المشورة في الأمر، ويزين لنفسه ذلك بأنه هو ربّ البيت ولا أحد له حقّ الحديث إلا هو! ويعلم الله أنّه وإن كانت الكلمة الأخيرة هي كلمة الرجل إلا أن هذا لا يعني تقييد حرية أهله في التعبير عما يجيش في صدورهن أو إبداء آرائهن.
ثم انظر يا رعاك الله إلى الشريك الذي يعطى نفسه حقّ البت في الأمور دون شريكه والذي يقتطع لنفسه من عملهما أكثر مما لشريكه بل قد ينكر على شريكه غالب حقه بدعوى أنه هو صاحب الخبرة أو صاحب الفكرة أو صاحب ما شئت من الأوصاف، ثم تراه يقلل من جهد شريكه ويضخّم من جهد نفسه في المقابل، فجهدُه يستحق أكثر من جهد شريكه ولو استطاع لسولت له نفسه أن ماله أفضل من مال شريكه! والنتيجة أنّ الرجل يتعدى على حق شريكه مع أن الله سبحانه أمره بأن يحفظ هذا الحق ويرعاه وإن كانت نسبته واحد إلى مائة، وليست آية "لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه" ببعيد عما نحن فيه.
ثم إنظر إلى الأخ الذي يتعدى على مال أخيه الموروث سواء قلّ أو كثر، فإن حبّ النفس يكبّر الصغير المحتقر من المال، فيجعل الأخ لا يرى أنّ ما يغتصبه من حقّ أخيه لعاعة لا تغنى من جوع ولكن النفس تجعلها ذات قيمة لما ركّب فيها من حبّ الإقتناء ولو ظلماً.
آن الأوان أن يعود المسلمون إلى رشدهم وأن يجعلوا العدل ميزانهم وأن يحرموا الظلم على أنفسهم كما حرمه الله سبحانه على نفسه، فإن أمة تفقد ميزان العدل لجديرة أن يخبو إشعاعها وأن ينطفأ سراجها بين الأمم.