فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      العقلية الإسلامية بين الواقع والخيال

      يرتبط العلم " الطبيعيّ" – إن صح التعبير – في الفكر الإنسانيّ على وجه العموم، وفي الفكر الإسلامي على وجه الخصوص، بالواقعية التجريبية التي تبحث في الموجودات من حيث نشأتها وتطورها في مراحل الحياة، وما ينبني على ذلك من استنباط نظريّ لقواعد تحكم الواقع العمليّ، سواء في الناحية الإنسانية كعلم الاجتماع، أو الناحية الطبيعية كالرياضيات، أو من استخراج نتائج عملية تُسفر عن استخدام للموجودات بطريق أكثر فائدة لبني الإنسان كما في علم البصريات وما تبعه من تصنيع العدسات المقرّبة وخلافها. وقد أذكى هذا المنحى في البحث العلميّ لدى الباحثين المسلمين ما قرره القرآن الكريم من الحث على النظر في الآفاق الكونية وفي الآفاق الذاتية على السواء، قال تعالى:"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" فصلت 53. وقال تعالى"قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق" العنكبوت 20. فالواقية العلمية قد دفعت وقادت الباحثين المسلمين على مر العصور لأن ينحوا ذلك المنحى التجريبيّ، وهو ما أملاه عليهم دينهم من رفض للخرافات والأساطير التي شاعت في "الميثولوجيا" الخاصة بشعوب أخرى كاليونان.

      إلا أن تلك الواقعية تحتاج إلى قليل من الخيال المبدع، كما يحتاج الطعام إلى القليل من الملح. فالحياة في الواقع ودراسة الواقع والشغل بالواقع أمرٌ محمود، إلا أن ذلك لا يمنع، بل إنه يستدعي، إذكاء الواقع بالخيال الذي يستنفر من الإنسان طاقاته الدفينة ويستشف ما وراء إمكاناته الظاهرة ليرسم طرقا جديدة في خياله المبدع توطئة لنقل هذا الخيال إلى حيز الواقع وحدود التنفيذ والإمكان. بهذا الخيال ارتقت الحضارة الغربية واستشرفت آفاقا في الكون والحياة لم تكن - في واقعها المجرد – لتظن أنها ترقـي إليها، فصعدت إلى القمر بخيال كتابها العلميين قبل أن تطأه بقدمها وغاصت في لُـجِيّ البحار دون أن تفارق شواطئه، وساير الواقعُ الخيالَ فكان التقدم في كل مجال تابعا لخيال أمثال "جول فيرن" و "ه.ج.ويلز".

      والعجب كل العجب من العرب، الذين عُرِفَ عن كتّابهم وشعرائهم الخيالَ البديع والقدرةَ على التصورِ الشفافِ مما لم يُعرف لغيرهم من كُتّابِ الأمم، العجب وهم حين حان استنفار ذلك الخيال ليصفوا الكون والحياة وصفا يستنفر الطاقات العلمية ويشحذها، إذا هم يعيشون نوع آخر من الخيال؛ خيال أقرب إلى المخدر العقلي الذي ينبش صاحبه صفحات الماضي لا ليتخذ منه زادا ووقودا للحاضر، بل ليجعل ماضيه مسرحا لخياله يعيد فيه أمجاده كما كانت يوم أن كانت دون أن يتكلف عناء إحياء الحاضر بالعلم والعمل، فعاشوا واقعهم في خيالهم، وباعوا مجد حاضرهم بخيال ماضيهم، وما أتعسه من خيال!.

      والمسلمون اليوم، إذ لم يستفيدوا بما دل عليه القرآن من حث على الواقعية العلمية ولا ما سمح به الدين من خيال مبدع، مطالبون بإعادة النظر في منظومة الحياة والكون بعين الواقع المشهود والخيال اللامحدود ليلحقوا بركب الحضارة ثم يتجاوزوها إلى مركز القيادة ومكان الصدارة من قافلة البشرية كما أراد لهم خالقها.