فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      كلُّ يُؤخَذُ من كَلامِهِ ويُتْرك

      صدق إمامنا مالك رحمه الله تعالى: "كلُّ يُؤخَذُ من كَلامِهِ ويُتْرك إلا صَاحبِ هذا المَقام صلى الله عليه وسلم".

      الفتوى الباطلة كالطعام الفاسد، يحمل في ظاهره الفائدة وفي باطنه المرض وانحراف الصحة عن المقصود، والفتوى الباطلة تغرى المسلم العامي بهيأة الصواب ومظهر الصدق وسمعة المفتى، ولا تكاد تسكن عقله حتى تحرفه عن الحق وتبعد به عن المحجة.

      وكلُّ بن آدم خَطّاء، عالماً أو عاميّا، والأمر الذي يجب أن يتَفَطّنُ له المُسْلم هو ذلك الفرقُ الدقيقُ بين خطأ العاميّ وزلّة العالم، فخطأ العامي كثير ولكنه محدودُ الأثر، لا يكاد يتجاوزُ حدود دائرة الفرد الضيقة، ولا يُنعت بالخطأ في الشريعة إلا مجازاً إذ ليس من حقّ العامي الإفتاء، أخطأ أم أصاب، ولكنّ زلة العالم، وإن قلّت، يزِلّ بها آلاف وملايين من الناس ممن تعوّد اتّباعَ العالِمِ بحقٍ أو باطل دون تمحيص أو رويّة. العالم، مهما جلّ قدره، عرضة للخطأ بسبب من أسبابه، بقصد أو بغير قصد. فقد يُصْدر العالم فتوى باطلة عن خطأ فى النظر والإستدلال غير مقصود، أو عن هوى كامن وفكر مسبق يلتوى بالدليل ليصل إلى غاية ونهاية مرغوبة إبتداءا، وقد لا يخدم هذا الهوى المستخفي طرفا معيّنا إلا صاحبه، أو أن يكون في خدمة سلطان من السلاطين أو حاكم من الحكام رغبة في منصب أو جاه، أو رِضا السلطان، لا أكثر ولا أقل! ومصدر الخطأ ليس مما يعنينا أو يعنى المسلم المقلّد لهذا العالم، فهذا أمرٌ بين العالمِ وبين ربّه سبحانه، وإن كانت هناك دلائل وقرائن تدلّ عليه مثل رجوع العالم عن قوله إن جوبه بالغالبية من علماء عصره تعتبر دليلا مختلفا ونظرا مخالفاً، مما يدل على أن الخطأ ناشئٌ عن الطبيعة البشرية الخطّاءة دون قصد أو ملاحاة. وإنما يعنينا أن ينتبه الناس إلى حقيقة أنه ليس كل ما يقول فلان أو علان ممن عرف عنهم العلم، هو مما لا يُقدَح فيه، وأنه هو القول الأخير الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهذه العقيدة ذاتها ليس فيها من الإسلام شيئ، وهذا الفكر لا يروّج له إلا بعض من اسْتَخَفّ بعقولِ العوامِ منْ أشباهِ أصحابِ التصوّفِ، أو من مروّجيِ بضاعة السلطانِ من أدعياءِ السلفية "المدخلية"، أو من أصحاب المناصب الأزهرية العليّة!

      والعالم الرباني يخطئ ويصيب، ولكنه إن أخطأ أقرّ بخطئِه ومَحّص دليلَ المخالفِ دون هوىً أو رغبة في الإنتصار، فإن رأى أنه إلى الحق أقرب وبالصواب أشبه، ترك ما هو عليه إلى الحق دون كِبْرِ أو مهاترة، وإن لم يتبين له ذلك بعد تمحيص وتدقيق، تمسّك بما هو عليه وإن ترك الباب مفتوحا لغيره أن ينظر ويمحص لعله يهتدى إلا ما أُغلق عليه.

      يُعْرَفُ العالمَ الرباني من العالمِ السلطاني من مثل هذا الخُلُق، وقد والله سمعتُ عن بعض من وُصِفَ بصفة العلم في غفلة من الزمن وقد رَكَلَ بقدمه رجلاً تجرّأ أمامه على إبداء رأي مخالف له! وهذا آخر ممن تقلّد أعلى المناصِب الدينية المرموقة قد سبّ أُمّ رجل تجاوز الحدّ مع ذاته العليّة فسأله عن دليل ما قال! هؤلاء البشر المتكثِرين بما ليس فيهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عارٌ على الشريعة وعلى متّبعيها. ومن العلماء من عُرف عنه حبّ الترخص والفتوى بالإباحة فيما يحقّ وما لا يحقّ على أن ذلك مما يسهل على الناس أمورَ حياتهم، ونسي أو تناسى أنّ ذلك يؤدى إلى رفع معنى التكليف رأسا، إذ أن كلمة التكليف تحمل في طياتها معنى العبئ والعنت، وقد يكون في بعض الأحوال هذا العنت مقصودٌ للشارع ليعلم الله من يصدق الوعد ممن يخلفه. وهذا المنحى قد يكون بسبب أن تشيع شعبية هذا العالم ويكثر متبعيه، فالعوام أتبع لمن يبيح عمّن يُحرّم، دون ملاحظة أين يقع الحق في تلك الإباحة أو ذاك التحريم.

      والحقّ أحقُ أن يُتَّبع، وليس لأحد دلالٌ على الحق أن يتجاوزه ثم يظل متبوعا في باطله، وليس أحد بمعصوم عن الخطأ إلا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.