الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا شكّ أن هناك تغييرٌ حدث في البنية السياسية المصرية، ولاشك أن الإنسان المصريّ لم يعد ذلك الخانع الخاضِع الذليل، الذي يتقبل الضيم والذلة بإبتسامة الحائر اليائس، بل أصبح واعياً فاعلاً رافضاً. كشَفَ الشَعبُ عن مَعدنه الأصيل الذي، وإن ران عليه الكبت والخوف عقوداً، ظل نقياً وفياً علياً، موفور الكرامة. وهذا في حدِّ ذاته، للمُنصِف، كسبٌ هائل لا يستهان به.
لكنه حديث يؤلم النفس، ويَجرح الروح، أن نتحدّث عن العَودة إلى مُربع الصفر ولمّا يمضى على الثورة غير أربعة أشهر إلا عشرا. ذلك أنّ رَصيد الثورة بكاملها قد توجّه إلى حساب طائفتيّ الأقلية في البلاد، القبط واللادينيين. أما المسلمون، فقد خسروا خسارة مؤكدة في الحساب النهائيّ لهذه الثورة. ولعل البيان القادم، رقم 52، للمجلس العسكرى أن ينصّ على "إلغاء دين الإسلام ومنع مُمارسته في مصر، وتحذير كافة المسلمين أنْ لا داع لزعزعة الأمن بممارسته، من أجل مِصرنا العزيزة"!!
فإن الأمر يتعلق بالإنجازات الثورية المَادية على الأرض، وإنعاكاسات صَحوة الإنسانية المِصرية في كافة مؤسساته، من رأسها الحاكم إلى أخمصها، بل وفي حدود هامش الحرية المسموح لهم بممارسته في حياتهم، وفي تحقيق العدالة ورفع المظالم. في هذا الإطار، رسبت الثورة، ورسبت نتائجها، وعدنا إلى ما كنا فيه.
على صَعيد الدولة ومؤسّسَاتها، فإن الحقيقة الأولى، القائمة على الأرض، أن المَجلس العَسكريّ الحَاكم هو ذاته مجلس مبارك وربيبه، فكيف يحمى الذئبُ الحَمَل؟ ومن هذه الحقيقة تتداعى كلّ مظاهر إجهاض الثورة والإلتغاف حول مطالبها. الإلتفاف حول تفكيك جِهاز أمن الدولة، وإعادة تركيبه تحت مُسمّى الأمن الوطنيّ، الذي هو استغباءٌ باردٌ للشعب المصريّ، وعودة إلى نقطة الصفر. التأكيد والتصميم على تعيينات المُحَافظين من مُخَلفات الحِزب الوطنى ومن الجيش على التحديد، يعكس نفس سياسات مبارك. ثم ترْك المَحليات كما هي رغم كافة المُطالبات بحلها، لتقوم بدورها في تزييف الإنتخابات القادمة. ثم الجَامعات ومجالسها، التي لا تزال تحمل الخبث كما زَرَعه مبارك ونظامه. والطامّة التي زرعها المجلس العسكرى في مجلس الوزراء بتعيين يحي الجَمل الأجرب نائباّ لرئيس الوزراء، لضَمان عِلمانية الدستور، والصدّ عن سبيل الله ما أمكن.
إذا فالنظام "السابق-الحاليّ" قد ترك صِمامات أمن عديدة في كافة أجهزة الدولة، لضَمان سَيطرته التامة على الأوضاع، على رأسها المجلس العسكرىّ الحاكم، صاحب الإنقلاب، وفي مجلس الوزراء، المحافظين، الجامعات، البنوك، الداخلية، الإعلام .. وكلّ أجهزة الدولة الحيوية والمِفصلية. الثورة المضادة إذن لا تعمل من خارج النظام، بل من داخله. الثورة المُضادة على رأسها المَجلس العَسكرىّ، يدير مُحاكمات الأشباح الذين لا تُرى صورهم ولا تُسمع أصواتهم، بشكل المُسَلسَلات الدِرامية، ثم يُصدِر البيانات التي تحَذر الشعبَ من نفاذِ صَبره!
وعلى صَعيد التوجّهات الإسلامية، فإن المُسلمين هم الخاسرُ الأوّل في هذه المُعَادلة كلها، إلا في التصوّر الإخوانيّ الذي يتعامل من جَانب المَصْلحية المؤسّسية لجَمَاعتهم على حِساب الإسلام. الهُجوم على الإسلام أصبَح سِمة النظام الحاليّ والتغوّل القبطىً أصبح أشرس ما يكون لدرجة التهديد بغزو خارجيّ لصالح القبط، تصريحاً لا تلميحاً. والسّلفية أصبحت الشَمّاعة التي يُعلق عليها الكلّ أية اخطاء أو فتن، فَهم كما يقال "الحيطة المَايلة"، وهم السبب وراء الفتن الطائفية، لأنهم طالبوا بعدم حجز وإختطاف النِساء المُسلمات ضد إرادتهن.
الخوف كل الخوف من أن العسكريين كلهم ملةٌ واحدة، في مصر، وفي ليبيا، وفي اليمن، وفي سوريا. لا إختلاف على الإطلاق، نفس أسلوب التعامل مع الشعب، والنظر إلى المواطنين، مجرد كائناتٍ صغيرة تعيش في ظل نعمة أوليائها، حاكِماً فردا من ورائه الجيش، أو مجلسا عسكرياً. وقد عبر أعضاء المجلس العسكريّ عن ذلك بالإشارة إلى شباب الثورة الذى لا يزال في السجون، من أنهم (شوية العيال..!). هذا بالضبط هو منطق مبارك، ونظام مبارك، وفكر مبارك، الذي يتكبرُ على الناس، فهم حُثالة لا يُساوون، طالما أنهم لا يحملون تلك القطع المعدنية اللامعة على أكتافهم، والتي منها يستمد هؤلاء قوتهم، ويقهرون بها شعوبهم.