الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعد أن كَشَفنا، في مقالنا عن "الإسلام .. بين إستفزازالكنيسة وراديكالية اللادينيين"، ما تدور حوله رَحى العِلمَانيين اللادينيين، من نشرٍ للفوضَى الإجتماعية والتفلت الخلقيّ والفساد الأسرىّ، دون أن يكون لأطروحاتهم أية إضافة حَضَارية يمكن أن تسَاهِم في تقدّمِ البلاد ورُقيّ العباد، رأينا أن نبيّن مَصدرَ هذا التوجّه وموقِفه الحَقيقيّ من القرآن على وجه الخُصوص.
القرآن هو خصيم أولئك العِلمانيين اللادينيين، إذ يصِفُهم بأوصافٍ، ويصِفونَه بأوصاف. قالوا:
- إن القرآن لا يَصلحُ أن يقود حياة الناسِ في عَصرنا،
- وإنه تَخَلفٌ ورجعية،
- وإنه عائقٌ أمام التقدم والحضارة،
- وإنه مانِعٌ من الحُرية
- وإنه عدوٌ للمرأة، ونصيرٌ للرجل
- وإنهم يناصِرون كَّلِ عدو للقرآن، ويحادون كل مُحبٍ للقرآن، متابعٍ له، يستهزؤن به وبهديه الظاهر والباطن.
وما إلى ذلك مِمّا بيّنا من قبل. وهم في هذه الدعاوى لم يقدموا عليها دليلاً واحداً، لا من تاريخٍ ولا من واقعٍ، إلا اللغو الباطل، و قياس شَبَهٍ مريضٍ بين الدينيّة النصرانية في العصور المظلمة، والإسلام، "وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ لَا تَسْمَعُوا۟ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْا۟ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ" فصلت 26. واللغو هو الكلام الباطل الذي يُشَوّش دون دليل. فهم إذن لا يسمعون الحقّ ليظلّوا على الضَلال من ناحية، ويشوشون عليه ليُضِّلوا غيرهم من ناحية أخرى. ولسَنا من أطلق عليهم وصف الكفر، بل يدينهم القرآن من صريح قولهم، بصريح قوله. ولا أظن أنه يجب أن يزعجهم هذا الإطلاق، إذ القرآن، وتعبيراته ومصطلحاته، قديم عقيم بالنسبة لهم! فالكفر والإسلام، بالنسبة لهم أمران من محض التاريخ العتيق.
- ويقرر القرآن في حقِّ هؤلاء أنهم لا يريدون الإستماع إلى القرآن، بقلب منفتح للهُدى وتلقى الحق، "وَقَالُوا۟ قُلُوبُنَا غُلْفٌۢ ۚ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًۭا مَّا يُؤْمِنُونَ" البقرة 88 ،
- ويقرر إنهم ما إتخذوا هذا الموقف إلا من خلفية عدم الإيمان بالآخرة "وَقَالُوٓا۟ إِنْ هِىَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ" الأنعام 29. فإنه لا يمكن لأحد يؤمن بآخرة أنْ يردّ كلام الله ويرفض الدين بهذا الإصرار والعناد. والعناد والإستكبار هو باب من أبواب الكفر، فالإسلام بابه واحد وهو توحيد الله المُتضمّن لطاعة أمره ونهيه، والكفر ابوابه لا تحصى، فردّ كل أمر من أوامر الله كفرٌ به (الرّد هو عدم القبول لا التنفيذ)، والإعراض عن آيات الله كفر به، والجهل بوحدانية الله كفرٌ به، والتكذيب بالله وكتبه ورسله كفرٌ به. وهؤلاء قد أعرضوا عن الله، وإن لم يكذبوا به تصريحاً، فكفرُهم كفرُ إعراض، وقد ذكر الله حَالهم في الدنيا"وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍۢ فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ" يوسف 105، وأنه مع أنهم "يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَـٰبِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌۭ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ" آل عمران 23، وإذا تحدث اليهم المسلمون في سبيل المادة الثانية فإذا حالهم "وَإِذَا دُعُوٓا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌۭ مِّنْهُم مُّعْرِضُون" النور 48، وبإختصار معجزٍ شديدٍ: "وَٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ عَمَّآ أُنذِرُوا۟ مُعْرِضُونَ" الأحقاف 3 .
- ويقرر القرآن أن أولئك لا يريدون حُرّية، ولا كرامَة، بل هي الفاحِشة التي يريدون إشاعتها باسم الحرية والتقدم، فيقول القرآن عنهم "إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَـٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا۟ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌۭ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْءَاخِرَةِ" النور 18.
- وهم لا يحبّون هذا القرآن، ويعشقون الحديث عن أحرار العالم الغربيّ ودعاتهم ومذاهبهم، بديلا عنه، فوصف القرآن حالهم بأنهم "وَإِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ ٱشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ ٱلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِٱلْاخِرَةِ ۖ وَإِذَا ذُكِرَ ٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦٓ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ"الزمر 45.
- وهم يوادون كلّ من عادى القرآن، يستضيفونه في بَرامجهم، ويُحاورونه في أحاديثهم، ويكتتبونه في صُحُفِهم، ولا يعتنون بإظهار الرأى الذي ينصر القرآن، أو إستضافة من ينصره، حتى تجدهم يُسقِطَون اسم المعتدى المُجرم، إن كان من غير المسلمين، ويشهّرون به إن كان من المُسلمين، فكانوا من "ٱلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ ۚ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلْعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًۭا" النساء 139.
- فإذا حاورهُم المُسلمون، تجدهم يعترِضون على أحْكام القرآن، ويريدون إما أن تُرفَع، أو تُستبدل، لتكون على مُرادهم مما أسموه ديناً، فكان لسانُهم ناطقاً بمَا وَصَفه القرآن "ٱئْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَـٰذَآ أَوْ بَدِّلْهُ ۚ" يونس 15.
هذا، إذن، حالُ هؤلاء العِلمانيين، الليبراليين، اللادينيين، في رؤيتهم للقرآن، وفي تصوير القرآن لهم، لا تجنياً عليهم، بل تأصيلاً على أقوالهم. مَهما تحدثت معهم، ومهما حاورتهم، ومهما توجّهت بحديثك إلى قلوبهم مرة، وإلى عقولهم مرة، لا يستمعون إليك، بل يوهِمون الجاهل أنهم على شيئ، فإنك "وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا۟ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌۭ مُّسَنَّدَةٌۭ" المنافقون 4. فإذا سَألتهم: قالوا "مَا نَفْقَهُ كَثِيرًۭا مِّمَّا تَقُولُ" هود 91. ثم يُتبِعون ذلك بنظرات تنطق بلسان حالهم "وَقَالُوا۟ قُلُوبُنَا فِىٓ أَكِنَّةٍۢ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِىٓ ءَاذَانِنَا وَقْرٌۭ وَمِنۢ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌۭ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَـٰمِلُون"َ فصلت5.
ولو ذهبنا نستقرأُ الأسماء التي تدعو لهذه اللادينية، من إعلاميين وفنانين وكتاب وصحافيين وسياسيين، بل وشباب ثائرين، لطالت القائمة. إلا ان هؤلاء، كلهم، ينتمون إلى الأقلية، من دعاة الثقافة، المبتوتة الصلة بالشهب وأعرافه وخُلقه ودينه. وهؤلاء، في حقيقة الأمر، هم أعداء الديموقراطية، الذين يرون أنفسهم أعلم وأذكى من "العوام الجهلة"، كما يصنفون الشعب، وكلّ من ينحدث بالقرآن.
فسنعمل إذن، بإذن الله وهَديِه، وليعمل هؤلاء، "وَسَيَعْلَمُ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓا۟ أَىَّ مُنقَلَبٍۢ يَنقَلِبُونَ" الشعراء 227.