فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ظاهرة الإستئناس السياسي في حياتنا الصحفية

      قال لي صاحبي وهو يحاورني في دور الصحافي وحدوده: إن دور الصحافي المستقل الحرّ في أيامنا هذه هو محاولة صياغة رأي عام يضغط لصالح الحرية ومطاردة الفساد ومستقبل أفضل للأجيال القادمة والسبيل إلى ذلك هو نقل الأخبار بأمانة ودون تمييز، إلا إن هناك حسابات تفرضها الظروف يجب أن تراعي، مما يمنع أن يكون هناك توجّه عقدي أو سياسيّ محدد للصحافيّ قد يخلّ التلوّن به بسلامة العمل و سلامة القائمين عليه.

      قلت لصاحبي: كلام طيب ومعقول في ظاهره، إلا إنه يعكس ظاهرة في العمل الصحافي نمت في بلادنا منذ عقود عدة يمكن أن نطلق عليها ظاهرة "الإستئناس السياسي"! بمعنى أن هناك حسابات عديدة تتدخل في عمل الصحافي فتجعله يستأنس فلا يفترق عن الصحافي المأجور إلا في "دخله الشهري"، منها ذلك العقد غير الرسمي بين الجهات "المعنيّة" وبين الصحافيون والكتاب الأحرار يحدد لهم خطوطا حمراء لا يتجاوزونها كالمساس بشخصيات معينة أو تحليل موضوعات محددة أو التعليق على أخبار بعينها، وطالما أن الكاتب أو الصحافي يعمل داخل هذه الدائرة فلا بأس عليه وعلى عمله الصحافي! ذلك هو القيد الأول.

      ثم هناك حسابات أخرى تتعلق بالعامة وما يتقبلون من آراء وما يوافق مزاجهم من تصورات تكوّنت من واقع صحافة سيئة موجّهة أو جهل عام بحقيقة ما يجرى على أرض الواقع، فإن الصحافي إن عرض أخباراً تعارض ما استقر في عقول العامة بالباطل تعرّض لفسادِ عمله وازورارِ الناس عن كتابته أو صحيفته، وذلك هو القيد الثاني.

      والحقّ، قلت لصاحبي، إنّ محصلة ذلك هو أن يتقيد الصحفيّ الحرّ بتلك القيود المفروضة ويسير وفق هذه الحسابات المدققة فيعرض أنصاف الحقائق، ثم لا يشفعها بما يبيّن طبيعتها من تحليل يضعها موضعها من التصور العام الحقيقي للواقع، بل يترك قارئها ذو العين البصيرة ليقوم بهذا الدور بنفسه دون تدخل من الصحافي حتى لا يخلّ هذا الأخير بتلك الحسابات المفروضة. ولكن الأمر الخطير هنا أن المرء يتعوّد ذكر شطر الحقيقة حتى تصبح بالنسبة له هي كامل الحقيقة فينحرف عن الحقّ إن عاجلا أو آجلا، والصحافي أو الكاتب كذلك، رجل يفترض أنّ له توجّه محدد سواء في العقيدة أو السياسة، وأن يتعود هذا الرجل أن ينحرف بقلمه عن بيان ما تعني تلك الأنباء التي تصنعها الأحداث فالأولى به أن يكسر قلمه، وأن يلزم داره وأن يطبق شفتاه كما عبّر شيخنا العلامة محمود شاكر من قبل، فإن المرء إما أن يقول خيرا أو ليصمت كما قال رسول الله صلة الله عليه وسلم. ثم إن مراعاة توجّهات العامة أمر لا يجب أن يدخل في حساب الكاتب أو الصحافي إلا فيما استقرت عليه الأعراف التي لا تخالف شرعا. أما عن تلك الآراء التي تنشأ بين الناس وتمثل خللا وانحرافا عن التصور السديد للواقع فهذا أمر لا يوافقه صحافي شريف وهو الدور الذي يجب أن تلعبه الصحافة الأمينة لتصحيح فكر العامة وتصوراتهم عن واقعهم ومن ثمّ مستقبل أجيالهم، إذ إن مهمة الكاتب أن يوجّه الجمهور لا أن يوجهه الجمهور، كما عبّر أحد الأصحاب.

      ثم كيف يخلع الصحافي توجهه العقدي أو ميوله السياسية حين يكتب في صحيفة من الصحف، ثم يتدثر بهذه العقيدة وهذا التوجه حين يكتب في موضع آخر! أهكذا تملي الصحافة "الحرّة" على ممارسيها أن يبدوا ما في أنفسهم تارة ويخفوه تارات! وهل يساوى علو الذكر أو سعة الإنتشار أن يخلع المسلم رداء عقيدته مراعاة للحسابات، وكيف يفترق الصحافي الحرّ إذن عن عملاء السلطة إلا في أن العملاء فُطروا على ذلك وأنّ الشرفاء استؤنسوا لاحقاً! لا أعتقد أنّ هذا من خلق المسلم جملة واحدة، ومن هنا ذمّ السياسة من علمائنا من ذمّها.

      قلت لصاحبي، نعم، لا أشك في أن هناك حسابات يجب مراعاتها، فنحن لا نعيش في عالم المثالية ولكن التحدي الذي يواجه الكاتب والصحافي المستقل الحر هو تحدي تلك الحسابات المفروضة والمغامرة وراء تلك الحدود المرسومة وأن يذكر دائما أن الحسابات التي لا يمكن مغالطتها هي حسابات أخرى من وراء هذه الحياة.