فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الطريق إلى إنقاذ الأمة - بين محمود شاكر و سيّد قطب

      سيد قطب ومحمود شاكر – رحمة الله عليهما – عملاقان غنيان عن التعريف ، فهما من عمالقة فكرنا الإسلامي الحديث لا يكاد يضاهيهما أحد في مكانتهما في الفكر واللغة والأدب ، وإثراء المكتبة الإسلامية وتغذية عقول أبناء الإسلام في عصرنا ، لا ينازع في هذا إلا مكابر معاند ركبه الهوى والحسد لمكانتهما أو جاهل غرّير ليس من العلم في كثير أو قليل .

      وقد كان السجال بين الرجلين حول أدبيات ذينك الزمن معروفاً في الأربعينيات من القرن الماضي ، ولا أظن أنه أفسد ما بينهما إذ إن كلا الرجلين أكبر من أن تفسد نفسه لخلاف أدبي كان من سيماء العصر المنصرم . ولسنا بصدد الحديث عن تلك المعارك الأدبية التي احتدّت بين الرجلين حول العقاد وأدبه وشعره ، وإن كان ذلك مما يجب التصدى له في موضع آخر لأهميته في فهم منطلقات الرجلين وتطورهما الفكري خاصة فيما يخص الأستاذ سيد رحمة الله عليه .

      إنما نريد أن نتقصّى في هذا الموضع أمر آخر ، إنعكس في كتابات الرجلين ونحسب أنه من أهم ما يمكن أن يرجع اليه المسلمون في عصرنا هذا إذ هو يتعلق برؤية كلا منهما في الطريق الناجع إلى إحياء الأمة وإعادة مجدها والنهوض بأبنائها لتحتل مكان الصدارة كما ينبغي لها في قيادة البشرية .

      يذهب الأستاذ محمود شاكر فيما كتب إلى أن الطريق إلى تحقيق ذلك الأمر يكون من خلال انبعاث "رجل" من عامة الناس يعاني معاناتهم ويتفهم مشكلاتهم ليرتفع فوق الواقع ويجدد للأمة مجدها . يقول الأستاذ محمود في نصّ لا يحتاج إلى مزيد بيان في غرضه هذا: "إن هذا الإصلاح الآن موقوف على شيئ واحد ، على ظهور "الرجل" الذي ينبعث من زحام الشعب المسكين الفقير المظلوم يحمل في رجولته السراج الوهاج المشتعل من كل نواحيه ، الرجل المصبوب في أجلاده من الثورة والعنف والإحساس بآلام الأمة كله ، وآلام الأجيال الصارخة من وراء البنيان الحي المتحرك على هذه الأرض الذي يسمى "الإنسان"[1] . ثم يبين الأستاذ أن "ظهور هذا الرجل ليس بالأمر الهيّن ، ولا إعداده بالذي يترك حتى يكون" . ثم يبيّن الأستاذ شاكر أن وسيلة ظهور مثل هذا الرجل لا تكون إلا بأن يمهّد الأدباء والعلماء والإصلاحيين في هذه الأمة لهذا الظهور بأن "يرموا بما يكتبون إلى إيقاظ كل كامنة من نار الهداية المحاربة التي لا تخمد ، . . . .فهو يمشى بها في كل عمل ولو في نقل البريد من مكان إلى مكان . إذن فأول الإصلاح الإجتماعي هو إدماج عواطف الفرد في مصالح الجماعة" . ثم يخلص إلى أنّ تهيئة هذه الظروف الإجتماعية قمين بأن "يبعث الرجل الذي سوف يضيئ للحياة الإجتماعية سُدَف الجهل والبغي والإستبداد"[2] .

      فمذهب الأستاذ محمود إذن ينبني على أن الإصلاح موقوف على "رجل" يقود الشعب ، وهو مستلهم في هذا للمنهج الرباني في إرسال "رجل" نبي أو رسول إلى قومه ثم إن هذا الرجل - في غير حالة الرسول أو النبي - لينشأ من براعم ذلك الخليط المتجانس من النخبة العالية التي تتربى على أرفع المبادئ وأقوم الأخلاق .

      والأستاذ سيد يذهب في هذا الأمر مذهباً آخر ، إذ يرى أن الفرد الملهم ليس بحتمية تاريخية يتوقفُ عليها إنقاذ الأمة ، بل على العكس من ذلك ، فإن النجاة تتحقق بمجموع الأفراد ذوى المبادئ والأخلاق الذين يقوم علي جهدهم المجتمع المثالي . وفي هذا الصدد يتحدث الأستاذ سيد عن تلك "الفئة" أو "الطليعة" التي تستعلي بالإيمان و"تقود البشرية" . يقول الأستاذ سيد: " لقد خرّجت هذه الدعوة جيلا من الناس - جيل الصحابة رضوان الله عليهم - جيلا مميزا في تاريخ الإسلام كله وفى تاريخ البشرية جميعه . ثم لم تعد تخرج هذا الطراز مرة أخرى . . نعم وُجد أفراد من ذلك الطراز على مدار التاريخ . ولكن لم يحدث قط أن تجمع مثل ذلك العدد الضخم ، في مكان واحد ، كما وقع في الفترة الأولى من حياة هذه الدعوة" معالم في الطريق . . وهذا الأمر – أمر هذه الفئة – هوما يجب أن يستلهمه المؤمنون إذ إن هذه الظاهرة " ذات أثر حاسم في منهج الدعوة واتجاهها"المعالم [3] . وحقيقة أن الله سبحانه يرسل إلى البشرية رجلاً فرداً ليقودها من ظلماء الجاهلية إلى ضياء الحق لا دلالة لها على أن هذا هو المنهج الذي تسير عليه حتميات التقدم ، فإنه لو كان ذلك هو المنهج لكان وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم لازم لإنتشار الدعوة ، ولكان هذا أمر خارج عن نطاق القدرة البشرية إذ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم – بأبي هو وأمي ونفسي - بشر يموت كما يموت البشر ، والله سبحانه لا يكلف المؤمنين بالنهوض ويأمرهم بالإستعلاء ثم يحرمهم الأداة اللازمة لذلك النهوض . يقول الأستاذ سيد: " لو كان وجود شخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتميا لقيام هذه الدعوة ، وإيتائها ثمراتها ، ما جعلها الله دعوة للناس كافة ، وما جعلها آخر رسالة ، وما وكل إليها أمر الناس في هذه الأرض ، إلى آخر الزمان . ." المعالم [4] . إذن فإن أمر النهوض بالأمة موكول إلى الفئة المؤمنة ولا يرتبط بظهور رجل من الرجال ليخرج الناس من الظلام إلى النور .

      قلنا إن الأستاذ سيد قطب ، إذن ، يرتقب ظهور تلك الفئة المستعلية بإيمانها ، والتي يمكن أن تعلو حتى تقترب من جيل الصحابة الأبرار ، وليس هناك ما يمنع ذلك . بينما يرجو الأستاذ محمود شاكر أن يظهر رجلا من بين الناس ، يشعر بشعورهم ويألم لألمهم ويكون هو المنقذ المنتظر والأمل المرتقب .

      والحق أنّ الشيخ الجليل جعفر شيخ إدريس – أطال الله عمره – لم يأت بدليل شاف على ما افترضه[5] من أنّ سيدا رحمة الله عليه يرى إمكان أن يأتي جيل مماثل لجيل الصحابة ، بل إن كلّ ما ذكره الأستاذ سيد أنّ جيل الصحابة لم يتكرر في الواقع العملي ، وأنّ غياب شخص رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يمكن أن يكون هو العنصر الأوحد في هذه الظاهرة ، وهذه المقدمات لا يلزم عنها أنه يمكن أن ينشأ جيلا مماثلا للصحابة ، وهو مالم يصرّح به الأستاذ سيد ، بل أظن أن المقصود هو أن إيمان الصحابة واستعلائهم هو العنصر الحاسم في عدم تكرار جيلهم ، ولكن مثل هذا الإيمان لا يمكن أن يتكرر ، وبالفعل لم يتكرر ، لأنه مرتبط بما استقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن لا يمتنع أن يخرج جيل قريب من أولئك المصطفين من الناس طالما أنّ الكتاب والسنة محفوظين الى يوم القيامة . ولتقرأ إن شئت فصل "جيل قرآني فريد" فلن تجد فيه كلمة واحدة يدعي فيها المؤلف أن جيل الصحابة ، الجيل المميز الفريد على حدّ قوله ، يمكن أن يتكرر تكرر المثليّة ، وهذا هو مربط الفرس ، المثلية ، ولكن تكرر الجيل الذي يعلو على الأجيال ويكون من جيلٍ "أمثل" كما في حديث "ثم الأمثل فالأمثل" فهو ما لا يمتنع عقلا ولا شرع .

      منهاجان ظاهرهما الإختلاف والتضاد ، إلا إنهما فيما أحسب ، ليسا بهذا القدر من التباعد والتجافي ، بل إنهما يتباعدا حتى نظنّ أنهما ضدان لا يلتقيان ، ويتقاربا حتى نظن أنهما توأمان لا يكادان يختلفان . وإليك شرح هذه الجملة بما فتح الله سبحانه عند التأمل في كلا المنهاجين ، وفي شخصية صاحبيهما ، إذ إن المنهج لا ينفصل عن صاحبه .

      ومفتاح ذلك الأمر في أن "الرجل" و "الفئة" كما يسميها سيد رحمة الله عليه هما خليط بعضه من بعض ، فالرجل الذي يرتقب إمامنا محمود شاكر ظهوره لا يخرج إلا في فئة علت بنفسها وارتفعت بإيمانها حتى تنبت مثل هذا الرجل ، ثم إنه يتميز بصفات شخصية كريمة تجعل محله في القلب من تلك الفئة . وهو يعرف مشكلاتها ويعيش ثقافتها ويكتوى بآلامها فهي منه وهو منه . ومن كانت هذه صفاته لا يكون إلا قائدا مقدما في هذه الجماعة ، يفخر بها وتفخر به .

      ثم إن الفئة التي تتربى على معالى الأخلاق والشرف والتضحية والكرامة وكلّ ما يقدمه الإسلام لأبنائه من علوّ لابد لها من قائد يقود مسيرتها إذ إنه لا جماعة بلا أمير كما إنه لا جسد بلا رأس ، فحين تنضج الجماعة وتصل إلى مرتقاها الأعلى فلابد أن تتخذ لها رئيساً مقدماً تسلمه قيادها ليحدوها إلى ما شاء الله لها من قيادة البشرية إلى خيرها وفلاحها . ولا نحسب أن سيداً قصد إلى أنّ هذه الفئة التي يرتقب ظهورها لا تتخذ لها رئيساً قائداً ، فإن هذا مما يخالف قواعد الإجتماع ومبادئ العقل جميعا .

      إذن ، فإن المنهاجين يلتقيان ، وإن ظهر أنهما يبدآن من نقطتين متباينتين . "الرجل" لا يظهر إلا من "فئة" يصلح أن تنبت فيها القيادة ، و"الفئة" لا تتقدم دون أن تتخذ "رجلا" قائد . وإفتعال "الرجل" لا يصلح أن تقوم عليه أمة ، ومن هنا فإن أمتنا لا تزال جاهدة في سعيها إلى أن تجد الرجل المناسب لقيادتها ، كما أن أمة لا ترتقي بنفسها فتتمخّض عن رجل صالح بكل معاني الصلاح لن يكون من نصيبها أي تقدم أو فلاح ، ولهذا فإن أمتنا أمامها طريق شاق لتنشأ فيها فئة ٌ ينشأ منها رجل ، أو ينشأ فيها رجل يقود الفئة المستعلية ، أيهما تختار ، فهما أمران متحدان في المنتهى و إن اختلفا في المبدأ .

      ثم إن المتأمل في معالم شخصية سيدٍ رحمة الله عليه ، وتجربته في العمل الإسلامي التي أثمرت ، على قصرها ، أشجارا يافعة في العمل الإسلامي وأحدثت ظلالا مباركة جنّبت الكثير من أبناء العمل الإسلامي لوافح الشرك وهجير البدع ، وجدها قد اختلطت منذ بدايتها بتجربة "الإخوان المسلمون" التي كانت ، ولا زالت ، تعيش منهج "الرجل" القائد الذي تمثلته في شخصية حسن البنا رحمة الله عليه ، إلى حدّ يقرب من التقديس ويرفع مكانة الرجل إلى من لا يجوز عليه الخطأ أو المراجعة ، ثم نجد سيداً وقد خالف الإخوان نظرياً وعملياً ولم يقنع بما قدّموه من مناهج بعد رحيل القائد "الرجل" ، وهذا مما لا شك فيه كان له أثر حاسم على إختياره مذهباً يلقى بتبعة التقدم على عاتق "الفئة" المؤمنة لا على الرجل الفرد .

      كذلك فإن الله سبحانه قيّض لسيد رحمه الله فئة من الرجال المخلصين الصابرين العاملين[6] ممن تتلمذوا له وأخذوا عنه ولازموه سنيه العجاف في السجن والحبس ، فرأي فيهم أملا منشودا ولواءاً معقوداً ، وكانت تلك الفئة[7] ، معه وبه ، هي طليعة الفئة المؤمنة التي رأى حبال النجاة بها موصولة وبشائر الخير بنواصيها معقودة . ولا شك أنّ هذا التمازج بين الأستاذ وطلابه قد صاغ توجهاته ، وهيأ له تبني هذا الإتجاه ، فإن واقع الحال له قوة مؤثرة على الفكر الحركي وإتجاه النظر ، وكأن حركة الفكر وفكر الحركة قد تمازجا لينشأ عنهما مذهب وليد ، هو مذهب "الفئة المؤمنة" المرتقبة في حالتنا هذه .

      ثم إذا تأمل الناظر في شخصية إمامنا وإمام العربية محمود شاكر وجده قد تفرّد عن الأخلاط وابتعد جّلّ عمره عن الموافق والمخالف ، ولزم بيته سنين عددا يعرف عنها القاصي والداني ولا مجال لسرد تفاصيلها ، وهو مما لا شك فيه يقوى إتجاه النظر إلى ذلك الفرد الذي تجتمع فيه كلّ ميّزات عصره ومحاسن أخلاق قومه ما يؤهله لأن يكون القائد المقدم والسيد المطاع ، خاصة إن كان صاحب هذا النظر هو من طبقة علامتنا الإمام من حدة الذكاء وشدة النباهة وقوة النفس ، فهو يتمثل هذا الرجل ، في خلواته التي طال أمده ، ويرى فيه صورته إن اكتملت وهُيّأ لها أن تخرج إلى الناس لتنفعهم وتوجههم لما فيه صلاحهم .

      إذن فإن مذهب الرجلين هو قطعة من حياتهما قد اختلطت بفكرهما وتمازجت بتجربتهما العملية فأنتجت ما رأيت من مذاهب يهتدى بها رجالات العمل الإسلامي في هذا العصر حين يرتبون لأمتهم ما يرتفع بها عن حضيض التخلف وبلاء التبعية .

      نسأل الله أن يفسح لنا من العمر ما نتقصى فيه هذا المذهب في النظر إلى فكر الإئمة واستخراج مكنونات أصولهم فنربط الفكر وحركته بمعالم الشخصية وكُنْه النفس ، وهو المذهب الذي ارتضيناه في كتابنا "مقدمة في أسباب اختلاف المسلمين وتفرقهم" منذ نيّف وعشرين عاما مضت .

      رحم الله الإمامين فإن الأمة قد فقدتهما في زمن – يعلم الله - هي أشد ما تكون حاجة إليهما .

      [1] مجلة الرسالة ، السنة الثامنة – عدد 340 ، 1940 ،تحت عنوان "الإصلاح الإجتماعي" ، عن كتاب "جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر" جمع الدكتور عادل سليمان جمال ، نشر مكتبة الخانجي ، ج1ص52
      [2] المصدر السابق .
      [3] معالم في الطريق ، الفصل الأول
      [4] ولا نغفل هنا عن ذكر ما كتبه الدكتور جعفر شيخ إدريس مدّ الله في عمره المبارك في كتابه "نظرات في منهج العمل الإسلامي" عن هذا الموضوع وقد كان موفقا فيما كتب إلا في بعض النقاط التي تخصّ موضوع تعليقه على الأستاذ سيّد في أن الأمة الإسلامية إنقطع وجودها . ." فإن هذه النقطة تحتاج إلى مزيد من التحقيق .
      [5] "معالم في منهج العمل الإسلامي" ، الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس
      [6] منهم على سبيل المثال الشيخ عبد المجيد الشاذلي والشيخ مجدى عبد العزيز والشيخ أحمد عبد المجيد بارك الله أعمارهم جميعا .
      [7] وقد أسعدني الله سبحانه بأن قضيت سنوات من العمر رفيقاً لتلك الفئة وهو أمر أسأل الله أن يمهدّ في العمر حتى أدون منه ما بقي مما حفظته الذاكرة المتداعية .