فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      نظرات في فكر سيد قطب : هوية الفرد وهوية المجتمع في الميزان

      إلى هؤلاء النفر من أصحاب الدعوة ، ممن انتسب إلى السلفية أو الإخوانية أو غيرها من الدعوات والحركات ، الذين خلطوا الأوراق وزيفوا المعاني فجعلوا الحق باطلا أو أشبه بالباطل والباطل حقا أو أشبه بالحق ، فأضرّوا وما نفعوا ، إلى أؤلئك أتوجه بهذه السطور .

      إختلفت الآراء حول سيد قطب ، الكاتب الشهيد الذى شكّل جانبا هاما من الفكر الإسلامي المعاصر وانعكس فكره على كافة الإتجاهات الحركية منذ أُعدم بعد محاكمة صورية عام 1966 . وقد ناصر سيداً العديدُ من العلماء والمفكرين الإسلاميين ، كما اختلف معه بعض منتسبي الدعوة كذلك . وسبب هذا الإختلاف أو الإتفاق يرجع فيما نرى إلى سيد قطب وما كتب من ناحية ، وإلى الشخصية الذي تقيّم سيداً وتختلف معه أو تتفق من ناحية أخرى . ويشهد الله أننا لا نوافق سيداً في كل ما ذهب اليه ، بل نرى أن له زلات هي من طبيعة البشر الخطّاء ، ولكن ما للرجل – يشهد الله – هو أكبر فضلا وأعمق أثراً في الدعوة الإسلامية مما عليه ، لا ينكر هذا إلا مكابر لا يعرف الرجل ولا يعرف الإسلام على حد سواء .

      ولست أقصد هنا إلى تتبع إحصائي لمن خالف سيداً أو من وافقه ، فإن هذا أمر قليل النفع أو عديمه . ولكن القصد هو النظر في طبيعة الموافقة ممن وافق وطبيعة المخالفة ممن خالف .

      وحتى يكون الحديث موضوعياً ، فسنحاول أن نلقي الضوء على ذلك الجانب من فكر سيد رحمة الله عليه ، الذي تضاربت حوله الآراء وتشعبت فيه الأقوال ، خاصة التهمة التي يشيعها عنه مخالفوه والتي تمثلت في قول من قال أن سيدأً كان يكفّر أعيان الناس ، بل هو رائد "التكفيريين" في هذا العصر !

      يمكن أن ننظر إلى فكر سيد رحمه الله في ضوء هذه الأقسام الثلاثة :

      أولها : فكر عقدي يرجع إلى فهم طبيعة التوحيد وحدوده وضوابطه .
      وثانيها : فكر تقييميّ يعود إلى تمييز الواقع وتحديد معالمه على ضوء ذلك الفهم .
      وثالثها : فكر حركيّ ينبنى على ذلك التقييم ، ويتناول ما يراه مناسبا لتأدية الحق العقديّ .

      وسنقوم في الفقرات التالية بالحديث عن كل قسم من هذه الأقسام كما تناولها سيد ، ونعضد ذلك بنصوص مما كتب[1] ، ثم نعرج على ما يوافق قوله – أو يخالفه – من مذاهب أهل السنة في العقيدة من خلال أقوال علماء السنة وقواعد الأصول والتفسير ما استطعنا إلى ذلك سبيلا . وسيتببن من خلال ذلك أن ما رماه به بعض منتسبي الدعوة من تكفير الناس عامة إن هو إلا خلط في الفهم من البعض وإغراض أو حسد لمكانة الرجل من البعض الآخر .

      البعد العقدي في فكر سيد قطب :

      وقضية التوحيد وضوابطه وأبعاده هي القضية التي شغلت الحيّز الأكبر في فكر سيد رحمة الله عليه . والتوحيد كما قرر أهل السنة والجماعة هو توحيدان : توحيد الربوبية والأسماء والصفات ، وبه يثبت ما لله من أسماء عليّة وصفات جليلة ، نثبتها كما جاءت بلا كيف . وسنتجاوز في هذا المقال عمّا نسب لسيد من تجاوزات في هذا الأمر – أمر الأسماء والصفات – لا لقلّة شأنه – حاشا لله من ذلك – ولكن لأننا قصدنا إلى مناقشة أمر محدد في فكر سيد وهو قضية التكفير خاصة . وقد نسب البعض إلى سيد القول بتأويل الإستواء بالإستعلاء[2] ، كما نسبوا له القول بإنكار صفة الكلام وصفة اليد وأنه قال بأن القرآن مخلوق . بل تعدى الأمر بالبعض ممن هو غالٍ في عدائه لسيد أن نسب إليه القول بوحدة الوجود ![3] وهو أمر ناقشه العديد من العلماء وبينوا زيف أكثره ، وأن جلّه مما هو من قبيل تصاريف الكلام الأدبي حمّال الأوجه .

      أما توحيد الألوهية أو توحيد العبادة الذي هو مقتضى كلمة "لا إله إلا الله" ، فهو ما دافع عنه سيد وبيّنه أحسن بيان . وسنعرض في الفقرات القادمة ما يلقي الضوء على فكر سيد في هذا الأمر مما هو من قبيل المحكمات التي لا يجب أن ينتطح فيها عنزان أو يختلف عليها عاقلان ، وما يعضد ذلك ، أو يخالفه ، من أقوال أهل السنة ، ونترك ما هو من قبيل المتشابه من كلامه مما يجب أن يفهم في ضوء المحكم الذي لا يحتمل تأويلا ولا صرفا عن معناه .

      وقضية الألوهية مرتبطة بقضية العبادة والرجوع إلى حكم الله سبحانه في حياة الناس . قال تعالى في سورة يوسف : "إن الحكم إلا لله ، أمر ألا تعبدوا إلا إياه ، ذلك الدين القيّم" فبين في هذه الآية وحدها كل ما يتضمنه مقتضى العبادة ، إذ أن فيها أن الحكم بما أنزل اله هو العبادة ، وأن ذلك هو الدين بمعناه الشامل العام أي نظام الحياة المتكامل المبني على شريعة الله وعقيدة التوحيد .

      ومما يجب أن يلاحظ في هذا الصدد أن سيداً حين يتحدث عن قضية الألوهية ، فإنه لا يناقشها من جانبها النظري ، ولا يأصّلها من الناحية الأكاديمية البحتة ، بل ولا يناقش معارضيها أو مخالفيها لا في جزء ولا في كلّ . بل هو يربطها ربطا مباشرا بأثرها في الحياة ، وبما يجب أن تنشأ من حسّ ضميريّ وحسّ ماديّ في حياة المسلم ، ويبين أنّ هذا المعنى هو الذي تقوم به الحياة كما أرادها الله سبحانه للناس في الأرض .

      يقول سيد في معرض الحديث عن "لا إله إلا الله" : " وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو فارسي ، إلى طاغوت عربي . فالطاغوت كله طاغوت ! إن النـاس عبيد لله وحده ، ولا يكونون عبيداً لله وحده إلا أن ترتفع راية : " لا إله إلا الله " - لا إله إلا الله كما يدركهـا العربي العارف بمدلولات لغته ، : لا حاكمية إلا الله ، ولا شريعة إلا من الله ، ولا سلطان لأحد على أحد ، لأن السلطان كله لله ، ولأن " الجنسية " التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة ، التي يتساوى فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله . وهذا هو الطريق . ." المعالم .

      ويقول ، بعد أن يقرر أن لا إله إلا الله كلمة يجب أن يدركها الناس بما تحمل من معان وأن يعيشوا بها ولها " فلمَّا تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة . . لَمَّا عرف الناس ربهم وعبدوه وحده . . لَمَّا تحرر الناس من سلطان العبيد ومن سلطان الشهوات سواء . . لَمَّا تقررت في القلوب " لا إله إلا الله " . . صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون . . تطهرت الأرض من " الرومان والفرس " . . لا ليتقرر فيها سلطان " العرب " . ولكن ليتقرر فيها سلطان " الله " . . لقد تطهرت من سلطان " الطاغوت " كله . . رومانياً ، وفارسياً ، وعربياً ، على السواء ." .

      ويقرر كذلك أن هذا هو الإسلام ، ولا إسلام سواه . يقول في تفسير سورة المائدة من الظلال : " ولم يكن بد أن يكون "دين الله" هو الحكم بما أنزل الله دون سواه . فهذا هو مظهر سلطان الله . مظهر حاكمية الله . مظهر أن لا إله إلا الله . وهذه الحتمية : حتمية هذا التلازم بين "دين الله" و"الحكم بما أنزل الله" لا تنشأ فحسب من أن ما أنزل الله خير مما يصنع البشر لأنفسهم من مناهج وشرائع وأنظمة وأوضاع . فهذا سبب واحد من أسباب هذه الحتمية . وليس هو السبب الأول ولا الرئيسي . إنما السبب الأول والرئيسي . والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله , ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه . وهذا هو "الإسلام" بمعناه اللغوي :"الاستسلام" وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان . . الإسلام لله . . والتجرد عن ادعاء الألوهية معه ، وادعاء أخص خصائص الألوهية ، وهي السلطان والحاكمية ، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون " .

      ثم يقرر كذلك أنّ مدلولات هذه الكلمة يجب أن تكون في ضمائر القائمين عليها والمنتسبين لها بقدر ما تكون نظاما ودولة ومجتما يعيشون فيه ويديرون بها شؤون حياتهم اليومية . يقول رحمه الله : " ولقد تم هذا كله لأن الذين أقاموا هذا الدين في صورة دولة ونظام وشرائع وأحكام ، كانوا قد أقاموا هذا الدين من قبل في ضمائرهم وفي حياتهم ، في صورة عقيدة وخلق وعبادة وسلوك . وكانوا قد وُعِدُوا على إقامة هذا الدين وعداً واحداً ، لا يدخل فيه الغلب والسلطان . . ولا حتى لهذا الدين على أيديهم . . وعداً واحداً لا يتعلق بشيء في هذه الدنيا . . وعداً واحداً هو الجنة . هذا كل وعدوه على الجهاد المضني ، والابتلاء الشاق ، والمضي في الدعوة ، ومواجهة الجاهلية بالأمر الذي يكرهه أصحاب السلطان في كل زمان وفي كل مكان ، وهو : " لا إله إلا الله " ! " .

      من هذه النصوص – التي تغطي – على قلتها - جلّ مساحة ما تحدث عنه سيد في أمر العقيدة ، نرى أنه قرر :

      1. أنّ كلمة "لا إله إلا الله" لها حقيقة ومضمون كان العرب يدركونه حين صدع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم .
      2.  أن معناها الخروج من طغيان أيّ طاغية من بشر أو شيطان أو هيئة أو حكومة إلى مظلة الخضوع لله والإستسلام له وحده لا شريك له .
      3. أن هناك تلازم وحتمية بين فهم هذه القضية وبين إقامتها في حياة الناس ، وأن الأمر ليس أمر اختيار بل هو أمر اضطرار لمن أراد القبول بهذه الكلمة والدخول تحت مضمونها .
      4. وأن هؤلاء الذين يقبلونها في حياتهم ، إنما يقيمونها في ضمائرهم ووجدانهم كما هي قائمة في حياتهم وتعاملاتهم ، حذرا من النفاق وحرصا على صحة الخُلُق المبني على العقيدة .

      ترى هل جانب سيداً الصواب في هذا التقرير ؟ فلنرجع إلى أئمة الإسلام من أهل السنة والجماعة وإلى قواعد الأصول ومقررات التفسير نستشف منها الحقيقة في ذلك الأمر .

      يقول بن القيّم في حديثه عن وفد نجران ، شارحا حقيقة الإسلام التي هي من وراء النطق بالشهادتين : " ومَن تأمَّل ما فى السير والأخبار الثابتة من شهادة كثير من أهل الكتاب والمشركين له صلى الله عليه وسلم بالرسالة ، وأنه صادق ، فلم تدخلهم هذه الشهادة فى الإسلام ، علم أنَّ الإسلامَ أمرٌ وراء ذلك ، وأنه ليس هو المعرفة فقط ، ولا المعرفة والإقرار فقط ، بل المعرفةُ والإقرارُ ، والانقيادُ ، والتزامُ طاعته ودينه ظاهراً وباطناً . " زاد المعاد جـ3 . إذن فحقيقة الشهادتين هي الخضوع والطاعة والإنقياد ظاهرا وباطنا ، ليست هي النطق المجرد ، وليست هي الإقرار القلبي وحده . وقد يقول قائل ، نعم ، ولكن هذا معنى الإسلام الذي يشمل مجال العمل والطاعات كذلك ، فنقول : هذا صحيح من جهة وغير صحيح من جهة أخرى ، فإن أعمال الطاعات ليست من لبّ التوحيد بل هي تدخل فيه من باب الوجوب والكمال فتزيد الإيمان أو تنقص به ، ولكن ما يناقشه بن القيّم هنا هو أمر محدد ، وهو دخول الإنسان إلى الإسلام واعتباره مسلماً ، ليس ما يتعلق بأفعاله في حياته بعامة ، وهو ما يستلزم أن يكون إقراره والتزام طاعته خاليا مما يشوب حقيقته كارتكاب عمل من الأعمال التي بيّن الله سبحانه كفر فاعلها ، مثل هؤلاء الذين استهزؤا بالرسول والصحابة على سبيل الدعابة والمزح ، فبيّن الله في محكم تنزيله أن هذا إعتذار غير مقبول ، وأن هناك من الأعمال ما تدل على الكفر بظاهرها رغم قول فاعليها بخلاف ذلك ، وذلك بشهادة الله سبحانه " لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم" . ومثل هذا كثير في أقوال الإئمة قديما وحديثا ، وإليك طائفة منه ، تقرر كما قرر سيداً أن الحكم بالشريعة هو مدار هذا الدين :

      يقول بن تيمية : " فإن الحاكم إذا كان ديناً لكنه حكم بغير علم كان من أهل النار ، وإن كان عالماً لكنه حكم بخلاف الحق الذي يعلمه كان من أهل النار ، وإذا حكم بلا عدل ولا علم أولى أن يكون من أهل النار ، وهذا إذا حكم في قضية لشخص ، وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين فجعل الحق باطلاً والباطل حقاً والسنة بدعة ، والبدعة سنة ، والمعروف منكراً والمنكر معروفاً ، ونهى عما أمر الله به ورسوله ، وأمر بما نهى عنه ورسوله فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين ، وإله المرسلين مالك يوم الدين الذي له الحمد في الأولى والآخرة : {وله الحكم وإليه ترجعون} . . {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً} " .

      وقال أيضاً : " ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن استحل[4] أن يحـكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل ، وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم ، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسواليف البادية (أي عادات من سلفهم) والأمراء المطاعون ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر ، فإن كثيراً من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون . فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار " .

      يقول ابن كثير في تفسير قوله تعالى ( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خيرٍ الناهي عن كل شر ، وعدل عما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق ، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها الكثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكّم سواه في قليل أو كثير " كما أن بن كثير قد ذكر نفس الكلام في تاريخه عن موضوع الحكم بالياسق وأمثاله قال : " فمن ترك شرع الله المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة – كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين "

      ويعلّق أحمد شاكر في "عمدة التفسير : " أقول : أفيجوز – مع هذا – في شرع الله أن يحكم المسلمون في بلادهم بتشريع مقتبس عن تشريعات أروربه الوثنية الملحدة ؟ بل بتشريع تدخله الأهواء والآراء الباطلة ، يغيرونه ويبدلونه كما يشاؤون ، لا يبالى واضعه أوافق شرعة الإسلام أم خالفها ؟

      إن المسلمين لم يُبْلوَا بهذا قط - فيما نعلم من تاريخهم – إلا في ذلك العهد ، ، عهد التتار ، وكان من أسوأ عهود الظلم والظلام ، ومع هذا فإنهم لم يخضعوا له ، بل غلب الإسلام التتار ، ثم مزجهم فأدخلهم في شرعته ، وزال أثر ما صنعوا بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم ، وبأن هذا الحكم السيئ الجائر كان مصدره الفريق الحاكم إذ ذاك ، لم يندمج فيه أحد من أفراد الأمة الإسلامية المحكومة ، ولم يتعلموه ولم يعلموه لأبنائهم ، فما أسرع ما زال أثره .

      أفرأيتم هذا الوصف القوي من الحافظ بن كثير – في القرن الثامن – لذاك القانون الوضعي الذي صنعه عدو الإسلام جنكيز خان ، ألستم ترونه يصف حال المسلمين في هذا العصر ، في القرن الرابع عشر ، إلا في فرق واحد ، أشرنا اليه آنفا : أن ذلك كان في طبقة خاصة من الحكام ، أتى عليها الزمن سريعا فاندمجت في الأمة الإسلامية وزال أثر ما صنعت .

      ثم كان المسلمون الآن أسوأ حالا وأشد ظلما وظلاما منهم . لأن أكثر الأمم الإسلامية الآن تندمج في هذ القوانين المخالفة للشريعة والتي هي أشبه شيئ بذاك "الياسق" الذي اصطنعه رجل كافر ظاهر الكفر ، هذه القوانين التي يصطنعها ناس ينتسبون للإسلام ، ثم يتعلمها أبناء المسلمين ويفخرون بذلك آباء وأبناء ، ثم يجلعون مرد أمرهم إلى معتنقي هذا الياسق العصري ، ويحقرون من خالفهم في ذلك ، ويسمون من يدعوهم إلى الإستمساك بدينهم وشريعتهم "رجعيا" و"جامدا"[5] إلى مثل ذلك من الألفاظ البذيئة .

      بل إنهم أدخلوا أيديهم فيما بقي في الحكم من التشريع الإسلامي ، يريدون تحويله إلى "ياسقهم الجديد" وبالهوينا واللين تارة وبالمكر والخديعة تارة ، وبما ملكت ايديهم من السلطات تارات ، يصرحون – ولا يستحون – بأنهم يعملون على فصل الدين عن الدولة .

      أفيجوز إذن لأحد من المسلمين أن يعتنق هذا الدين الجديد ، أعنى التشريع الجديد ! أو يجوز لأب أن يرسل أبناءه لتعلم هذا واعتناقه واعتقاده والعمل به عالما كان الأب أو جاهلا ؟ ! . . .

      إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس ، هي كفر بواح ، لا خفاء فيه ولا مداورة ، ولا عذر لأحد ممن ينتسبون إلى الإسلام – كائنا من كان – في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها ، فليحذر إمرؤ لنفسه "وكل إمرئ حسيب نفسه" .

      ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين ، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه ، غير متوانين ولا مقصرين . سيقول عني "عبيد هذا الياسق الجديد" وناصروه أني جامد وأني رجعيّ وما إلى ذلك من الأقاويل ، ألا فليقولوا ما شاؤوا ، فما عبأت يوما بما يقال عني ولكني أقول ما يجب أن أقول "[6] .

      وقال الشيخ محمد بن إبراهيم : "وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق فهذا الذي صدر منه المرة ونحوها ، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل ، فهذا كفر ناقل عن الملة"[7] .

      يعلق الشيخ الفوزان بقوله : " ففرق رحمه الله بين الحكم الجزئي الذي لا يتكرر وبين الحكم العام الذي هو المرجع في جميع الأحكام أو غالبها وقرر أن هذا الكفر ناقل عن الملة مطلقاً وذلك لأن من نحى الشريعة الإسلامية وجعل القانون الوضعي بديلاً منها فهذا دليل على أنه يرى القانون أحسن وأصلح من الشريعة وهذا لا شك فيه أنه كفر كفراً أكبر يخرج من الملة ويناقض التوحيد "[8]

      ثم نقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يبيّن أن العرب كانت تدرك ما وراء "لا إله إلا الله" من معانٍ ولوازم . جاء في حديث المثنى بن حارثة :"قال هذا امر تكرهه الملوك" . وفي رواية عن الأعرابي قال : . .إذن تحاربك العرب والعجم" ولا شك أن كراهة الملوك والحكام لهذه الكلمة سببها معروف . كما أن حرب العرب والعجم لها أمر مشاهد لا يحتاج إلى دليل لمن ألقى السمع وهو شهيد .

      وقد تعلق من دخلت عليه شبه المرجئة بقول بن عباس وأبي مجلز من التابعين عن آية المائدة وأنها " . .كفر دون كفر" . وقد ردّ علي هذا القول المحدث الجليل أحمد شاكر وأخيه العلامة المحقق محمود شاكر ، وبيّنا أن هذا المناط الذي قال فيه أبي مجلز ومن قبله بن عباس ، هو مناط من خرج على أئمة الجور مثل بني أمية وكان منهم من يظلم ويفسق ، ولكن دون تبديل قاعدة الحكم والإستناد إلى قوانين مرتبة مقننة أو استبدال شرع بشرع آخر جملة وتفصيلا . وإليك ما قال أحمد في عمدة التفسير في الحديث عن تفسير آية المائدة :

      وهذه الآثار – عن بن عباس – مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على الدين يجعلونها عذرا أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة التي ضربت على بلاد الإسلام . وهناك أثر عن أبي مجلز في جدال الإباضية الخوارج إياه فيما يصنع بعض الأمراء من الجور فيحكمون في بعض قضائهم بما يخالف الشريعة عمدا إلى الهوى ، أو جهلا بالحكم . والخوارج من مذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافر فهم يجادلون يريدون من أبي مجلز أن يوافقهم على ما يرون من كفر هؤلاء الأمراء ليكون لهم عذراً فيما يرون من الخروج بالسيف . وهذان الأثران رواهما الطبري وكتب عليهما أخي السيد محمود شاكر تعليقا نفيسا جدا فرأيت أن أثبت هنا نص الرواية الأولى للطبري ثم تعليق أخي على الروايتين .

      "فروى الطبري عن عمران بن حيدر قال : أتى أبي مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس فقالوا : يا أبا مجلز أرأيت قول الله تعالى : ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الكافرون ؟ أحق هو ؟ قال :نعم ، قالوا : ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الظالمون ، أحق هو ؟ قال :نعم ، قالوا : ومن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم الفاسقون ، أحق هو ؟ قال :نعم ، قالوا : يا أبا مجلز ، فيحكم هؤلاء بما أنزل الله (يريدون الأمراء الظالمين من بني أمية) قال : هو دينهم الذي يدينون به وبه يقولون ، واليه يدعون ، فإن تركوا منه شيئا عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً ، فقالوا لا والله ولكنك تفرق ! قال : أنتم أولى بهذا مني (يعني أنهم هم الخارجين لا هو) لا أرى ، وأنتكم ترون هذا ولا تحرّجون" فكتب أخي السيد محمود بمناسبة هذين النصين :

      الله إني أبرأ إليك من الضلالة ، وبعد ، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدوا للكلام في زماننا هذا ، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله وفي القضاء في الدماء والأموال والأعراض بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام . فلما وقف على هذين الخبرين ، اتخذهما رأيا يرى به صواب القضاء في الدماء والأموال والأعراض بغير ما أنزل الله وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها والعامل عليها . والناظر في هذين الخبرين لا محيص له من معرفة السائل والمسئول ، فأبو مجلز (لاحق بن حميد الشيباني الدوسي) تابعي ثقة وكان يحب عليا وكان قوم أبي مجلز وهم بنو شيبان من شيعة علي يوم الجمل وصفين ، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين ، واعتزلت الخوارج ، كان فيمن خرج على علي طائفة من بني شيبان ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل ، وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس وهم نفر من الإباضية . . . . . هم أتباع عبد الله بن إباض من الحروروية (الخوارج) الذي قال : إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك ! فخالف أصحابه . . .

      ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء لأنهم في معسكر السلطان ، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عنه ، ولذلك قال في الأثر الأول : فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا ، وقال في الخبر الثاني : إنهم يعملون بما يعملون وهم يعلمون أنهم مذنبون"

      وإذن ، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعي زماننا من القضاء في الدماء والأموال والأعراض بقانون مخالف لغير شرع الإسلام ، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام ، بالإحتكام إلى حكم غير الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي له .

      والذي نحن فيه اليوم ، هو هجر لأحكام الله عامة دون استثناء وإيثار أحكام غير حكمه ، في كتابه وسنة نبيه ، وتعطيل لكل ما في شريعة الله . . . .فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكما حكما جعله شريعة ملزمة للقضاء بها . .

      وأما أن يكون كان في زمان ابي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر جاحدا لحكم الله أو مؤثرا لأحكام أها الكفر على أهل الإسلام (وهي حال اليوم من آثر أحكام الكفر علىأحكام الإسلام) فذلك لم يكن قط ، فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه ، فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في بابهما ، وصرفها عن معناها ، رغبة في نصرة السلطان ، أو احتيالا على تسويغ الحكم بما أنزل الله وفرض على عباده ، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله ، أن يستتاب ، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ورضي بتبديل الأحكام ، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين " .

      ثم إن الحديث عن آية المائدة يمكن التعليق[9] عليه بما يلي :

      •   أن كلمة "الكافرون" – ومثلها الظالمون والفاسقون - لا تأتي في القرآن بمعنى الكفر الأصغر إطلاقا كما قرر الشاطبي في الموافقات حيث قرر أن :" القرآن آتيا بالغايات تنصيصا عليها ، من حيث كان الحال والوقت يقتضي ذلك ، ومنبهاً على ما هو دائر بين طرفيها ، حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دلّه الشرع"[10] . وإنما يأتي الكفر الأصغر أو ما يسمونه "الكفر العملي" في السنة كما في حديث "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"[11] أو حديث البخاري في النساء "تكثرن اللعن وتكفرن العشير" [12]
      •   أن مناط الحكم هنا هو مناط التشريع لا المعصية سواء من الحاكم أو الفرد . فالحكم المقصود هو إقامة شريعة موازية لشرع الله تعالى ، لا مجرد ارتكاب مظالم فردية في حقوق الناس . وشتان شتان بين من يشرّع قوانين كاملة تحل محل شريعة الله في حياة الناس ومن يحكم بشهوة في قضية أو بعض قضايا معينة . وهذا التفريق بين المناطين هو ما وقع فيه من نفر من الدعاة والعلماء ممن أصابتهم جراثيم الإرجاء ، كالألباني والقرضاوى وغيرهم . ولسنا ممن يتبع الأسماء في قضية التوحيد ، فأمرها أجلّ من أن يقلد فيه المسلم .
      •   أن آية "ومن لم يحكم بنا أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون" جاءت بصيغة العموم وهي "من في معرض النفي" . ومن هذا يتعين أن يكون لها مخصص "شرعي" لترتفع عنها صورة العموم . وما جاء به هؤلاء ممن أصابتهم جرثومة الإرجاء من قول لإبن عباس أو لأبي مجلز إنما – على أنه مناط من المناطات التي يمكن أن تكون تندرج تحت عموم الآية بإختلاف مناطاتها – لا يصلح أن يكون مخصصاً إذ أن :
        • قول الصحابي لا يخصص عموم القرآن كما هو الصحيح فيما تقعّد من أصول الفقه.
        • أن قول بن عباس أو غيره في هذا ليس بتفسير للآية بل هو تنزيل لمناط من مناطاتها فليس بمخصص حقيقيّ .
        • وإن سلّمنا جدلا بأن بن عباس قد قال هذا تفسيراً – وهو غير صحيح كما هو بيّن في منطوق الحديث – فإن تفسير الصحابيّ إنما يعتبر من قبيل المرفوع إن كان فيما هو ليس مما يحتمل إجتهادا كما هو مبين في أصول الفقه وقواعد الحديث ، وإلا فهو إجتهاد له .

      فسيد إذن لم يتعد أقوال العلماء أو ما هو معتمد من أصول الفقه أو التفسير أو قواعد الحديث في تناوله لقضية "الحكم" . وإن كان لغيره إجتهاد في ذلك – رغم ضيق مساحة الإجتهاد فيه لمن كان قلب أو ألقى السمع وهو شهيد – فليس له أن يحكم بزلل سيد وأنه حمل لواء التكفير في هذا العصر ، فإن ذلك لا يعكس إلا جهلا بسيدٍ وجهلا بالشريعة وقواعدها و (أو) هوى مرديا أو نفاقا ظاهراً .

      البعد التقييميّ في فكر سيد قطب :

      لمّا كان سيداً يفهم طبيعة الإسلام وأنه إنما جاء ليوجه حياة البشر ويحكمها ، وأنه ليس دين صوامع وبيَََِِع ، بل دين علم وعمل ، فقد رأى أنه لا بد من النظر في الواقع المحيط وتحليل المعطيات بشكل دقيق ليمكن أن نرى أين يقف الناس اليوم من الإسلام اليوم – المسلمين منهم وغير المسلمين على حدّ سواء . وهذا العملية التقييمية هي مما وجّه اليه القرآن ،يقول الله تعالى : "كذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين"[13] ، ويقول تعالي : "ليميز الخبيث من الطيب"[14] . فتمييز الصالح من الطالح هو غرض من أغراض الشريعة ومقصد من مقاصدها لمن فهم هذا الدين . ولننظر قيما قاله سيد في هذا الصدد لنرى كيف قيّم الواقع ، ومن أين أتته هذه الشبهة ، شبهة التكفير .

      يقول رحمه الله في تفسير قوله تعالى : "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ . . "[15] .

      1. " . . و لكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام ، يسيطر عليها دين الله ، وتُحكم بشريعته . . ثم إذا هذه الأرض ، وإذا هذه الأقوام ، تهجر الإسلام حقيقة ، وتعلنه إسما وإذا هي تتنكر لعقيدة الإسلام اعتقادا وواقعا وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقادا فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد أن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه وأن الله وحده هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد ، كائنا ما كان اسمه ولقبه ونسبه وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله ولم تدخل في الإسلام بعد وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين وهم من سلالات المسلمين وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام دارا للإسلام ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول .
      2. وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين وطريق المشركين المجرمين واختلاط الشـارات والعناوين والتباس الأسماء والصفات والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق .
      3. ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل " تهمة" يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام ، تهمة تكفير " المسلمين" ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله .
      4. هذه هي المشقة الكبرى وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل " .
      ولا شك أن القارئ المتعجل قد يرى في هذا النصّ ما يرضى وَلـَعـه في نبذ الرجل وإلقاء تهمة التكفير عليه ، إلا أنه ما هكذا تُعامل مثل هذه النصوص ولا هكذا يُنظر إلى مثل هذا الرجل وكتاباته . ولنتناول فقرات هذا النص واحدا تلو الآخر بالنظر والتحليل . نلاحظ أنّ سيدا في الفقرة الأولى ، وفي هذا النص عامة ، قد تحدث عن أمرين ، ولنقل وجودين ، "الأرض" و "الأوطان" ، و"الأقوام" أو "الناس" فهو يتحدث عن :
      •   الوجود الإسلاميّ المتمثل في "نظام" يسرى في أرض من الأرض (أو وطن من "الأوطان") .
      •   من يعيش على هذه الأرض ، وفي هذه الأوطان بصفتهم الجماعية (الأقوام ، الناس) . أي بعبارة أخرى عن هؤلاء الذين يعيشون على هذه الأرض بصفتهم الجماعية (كمجتمع يدير نظام هذا الأرض) .
      ويقرر سيد أنّ :
      •   هذا الوجود الإسلامي[16] "كنظام" له أحكامه وقوانينه الخاصة وآلته العسكرية التي تحمى هذه القوانين ، ليس من الإسلام في شيئ إن كانت قوانينه وشرعته ليست هي قوانين الله وشرعته.
      •   أنّ المجتمع أو الأفراد (بصفتهم الجماعية لا الفردية) ممن يعيش على هذه الأرض ، إن رضوا بهذه الأحكام وفصلوا حقيقة "لا إله إلا الله" عن مجرد النطق بها ، كانوا إجتماعهم هذا على غير شرعة الله وخرجوا بذلك "بصفتهم الإجتماعية" عن دين الله .
      وهنا وقع من وقع في الخلط بين الحكم على فرد من الأفراد أو على "معيّن" كما يحب أهل الأصول أن يطلقوا عليه ، بإسلام أو بكفر ، وأن يُحكم على نظام يحكم بشرعة جاهلية أو على مجتمع يعيش على هذه الشرعة ويتقبلها ويرضى بها بديلا لشرعة الله . ليس هناك دليل واحد من كلام سيد أنه قصد أعيان الناس ، أو الأفراد بصفتهم الفردية ، إذ أنه لا سبيل إلى هذا إلا بمعرفة حال كل شخص على حدة ليمكن أن يحكم عليهم بناءا على ذلك ، وهو أمر من إدعى أنه قادر على إحصائه فقد حكم على نفسه بالخبال ، إذ لا يمكن أن يستقرأ أحد دين الناس فردا فردا ، لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى . فالتفرقة بين هذه الأمور الثلاثة واجبة لفهم الرجل وفهم الإسلام على حدّ سواء :
      •   النظام الحاكم .
      •   المجتمع المحكوم (أو الأفراد بصفتهم الجماعية) .
      •   الأفراد بصفتهم الفردية كمعينين .

      ومن لم يستطع أن يلحظ هذا الفرق فعليه أن يعمل على تقوية قدرته على التحليل ودقة الإستنباط ، إذ أن هذه الدقة في النظر والتفرقة فيما قد يشتبه على النظر العادي هي ما يميّز العالم من الجاهل ، والفقيه من المتفيقه !

      ويواصل سيد – رحمة الله عليه - في الفقرة الثانية والرابعة تقييم الواقع من حيث ما تواجهه الحركات الإسلامية الهادفة إلى تصحيح المفاهيم ، وإزالة الغبش الذي يرون على التصورات ومن ثمّ على القدرة على رؤية الداء ومن ثمّ على تحديد ووصف الدواء الناجع .

      ثم ، مما لا يشك فيه عاقل أن هناك ناس من الناس ممن يعيش في هذه المجتمعات "الإسلامية" قد فارقوا دين الله بالفعل ، وإلا فماذا يقول من ينكر ما ذكره سيد ، في أمثال أؤلئك الذين يسبّون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرمونه بكل رخيص من الحديث في مقالاتهم ورواياتهم باسم الفن والحرية والتقدم ، أو كدعاة العلمانية الصريحة ونبذ الشريعة لعدم موافقتها للحاضر المتحضر ! أوالمساواة بين الأديان الثلاثة (ولا نعنى مساواة الحقوق بين أتباعها بل نعنى المساواة بين الأديان الثلاثة ، حرفيا ، فلا فرق بينها ، بل كلها حقّ ! !) .

      ثم يكمل سيد تحديد رؤيته للواقع ، وكأنه يعرف ما سيرميه الناس به ، فيرى أنّ أعداء هذا الدين ، سواء أعداءه الأصليين ممن لا يؤمنون به أصالة ، كهؤلاء الذين ذكرنا ، أو من حملته الغفلة أوالجهل أو الشهوة ، أو كلّها معا ، على أن يشارك في نشر هذا الفهم المريض ثم التقييم الخاطئ ، بأن يرعب المسلمين من فكرة تمييز من خرج على الدين ، حتى يبقى الأمر مائعا ويختلط الحابل بالنابل ، والغثّ بالسمين ، وفي مثل هذه الأجواء يبيض الكفر ويفرخ ، ويلتحق بكتيبة المفارقين للدين أعدادا أكبر من الأفراد وتصحّ مقولة جاهلية المجتمع أكثر وأكثر . هذا ما بيّن سيد من مخطط هؤلاء من أعداء الدين ، وما يقود اليه عمل أؤلئك النفر من المغفلين والجهلة من المسلمين سواء عامتهم أو دعاتهم ممن حمل جرثومة الإرجاء في حنايا فكره . ويلاحظ أن سيداً قرر في كلامه أنّ "تكفير المسلمين" تهمة لا شك فيها ، فهو يعرف أن الحكم بالكفر على شخص من الأشخاص أمر يجب أن يكون عليه برهان أسطع من شمس النهار . ولكنه أمر يحدث في عالم الناس أن يرتد نفر من النفر ، وإلا فلم قال الله تعالى :" ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافرٌ فأؤلئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة و أؤلئك هم أصحاب النار هم فيها خالدون"[17] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : "من بدّل دينه فاقتلوه"[18] ، هذا يستتبع أن من الناس من يكفر بعد إيمان ، وأنه يمكن – بل يلزم – تعيينه حين القدرة على إقامة الحد - ممن له سلطة إقامة الحدّ ، فأمر يعيين المبدل لدينه أمر مشروع لمن لديه العلم الكافي والدليل الساطع من الكتاب والسنة ، ثم تبقى الحاجة إلى هذا التعيين ، فإن كانت هناك حاجة إلى التعيين ، لبيان خطره أو التحدذير من دعوته ، أو إن كانت إقامة الحد مقدور عليها من قبل السلطان أو الوالي ، وجب بيان كفره .

      فهل تجاوز سيد الحدّ أو جانب الصواب فيما قرر ؟ أيمكن لمن يرميه بمثل هذه التهم أن يصف مجتمعات المسلمين اليوم – بشكل عام - بغير صفة الجاهلية ، إذ تتحاكم إلى أحكام الجاهلية على المستوى القانوني والتشريعي ، وإلى الكثير من الأعراف والتقاليد الجاهلية على المستوى الجماعي الإجتماعي . وأما عن أفراد الناس فكلّ وما يعتقده وكلّ وما يدين الله به ، ولا يقول سيد ولا غيره ، إلا ممن انتسب إلى الخوارج قديما وحديثا ، بالتكفير العام لكل أفراد هذه المجتمعات الحالية فردا فردا . الحديث يا سادة عن هوية المجتمع الذي تسرى فيه هذه الأدواء ثم يرضاها ويخضع لها ، وليس الحديث عن هوية الفرد المسلم الذي حماها الله سبحانه من فتنة التكفير – إلا بدليل ساطع .

      ثم إن سيداً قد قصد إلى إيقاظ ما خمد في نفوس المسلمين من غيرة على دين الله ، ومن غضب لله بعد أن استشرى البعد عن منهجه سبحانه في حياة الناس عامة وفيما تحاكموا اليه خاصة بحكم ما اتخذوه من شرع وقانون . والظلال و المعالم كتب دعوة اختلطت بالأدب وما يجرّه على صاحبه من أساليب وطرق في التعبير لا تتفق وأساليب كتب الفقه أو أصوله ، فلا يصلح إذن أن ينبش الناس فيها عن معايير الفقه وأصوله أو أن يستنبطوا منها أحكاما معينة ، إذ ليس لهذا الغرض كتبها الكاتب ، وليست هي مما يجب أن يتتبعها الناس بالنقض والنقد من هذا الباب . وليس خطأ سيد أن اتخذ فريق من الشباب المغرور أو المغرر به كتاباته على أنها تكفيرية ، ليس هو ذنب سيد أو جريرته إذ أن القرآن نفسه وهو كتاب الله المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، قد اتخذته كل فرق المبتدعة ، ممن هم على طرفي النقيض ، ذريعة لتأويلاتهم المرضة ، وكلام الله ممّا يدعون برئ . فليس كلام سيد إذن بدع من البدع ، بل كل كلام يمكن أن يؤوله قارؤوه على هواهم .

      مرة أخرى :

      ومن لم يستطع أن يلحظ هذا الفرق فعليه أن يعمل على تقوية قدرته على التحليل ودقة الإستنباط ، إذ أن هذه الدقة في النظر والتفرقة فيما قد يشتبه على النظر العادي هي ما يميّز العالم من الجاهل ، والفقيه من المتفيقه !

      البعد الحركي في فكر سيد قطب :

      يقول سيد في تفسير آية الأنعام :

      " يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين ويجب أن لا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف وألا تقعدهم عنها لومة لائم ولا صيحة صائح انظروا إنهم يكفرون المسلمين .

      إن الإسلام ليس بهذا التمييع الذي يظنه المخدوعون ، إن الإسلام بَيِّن والكفر بَيِّن ، الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين المجرمين " .

      ويقول في المعالم :

      " ولكن الإسلام لا يملك أن يؤدي دوره إلا أن يتمثل في مجتمع ، أي أن يتمثل في أمة . . فالبشرية لا تستمع - وبخاصة في هذا الزمان - إلى عقيدة مجردة ، لا ترى مصداقها الواقعي في حياة مشهودة . . و " وجود " الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة . . فالأمة المسلمة ليست " أرضًا " كـان يعـيش فيها الإسـلام . وليست " قومًا " كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي . . إنما " الأمة المسلمة " جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي . . . وهذه الأمة - بهذه المواصفات ! قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا . " المعالم 4

      ويقول : " لا بد من " بعث " لتلك الأمة التي واراها ركام الأجيال وركام التصورات ، وركام الأوضاع ، وركام الأنظمـة ، التي لا صلة لها بالإسلام ، ولا بالمنهج الإسلامي . . وإن كانت ما تزال تزعم أنها قائمة فيما يسمى " العالم الإسلامي " ! ! ! المعالم 5

      عرف سيد أن الإسلام هو دين الحركة والواقع ، وليس بدين العلم المجرد والنظر البحت ، فخاطب المسلمين بما يراه مناسبا للحركة بهذا الدين ، إذ أن ذلك هو نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم . لم يتلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن وعلّمه للصحابة الكرام دون أن يتحرك به في مجتمعه فيقيّم المعوج ويصلح االفاسد ويرجع الناس إلى الإيمان بالله ، حق الإيمان ، لا الإيمان المخلوط بتهيؤات البشر من إتخاذ الصالحين زلفى إلى الله ، أو أن يتخذوا من أهوائهم شرعة ومنهاجا يحكمون به في حياتهم . عرف سيد ذلك كله فتوجه إلى المسلمين ممن آلوا على أنفسهم أن يحيوا بهذا الدين ولهذا الدين ، مخاطبا بما رآه يصلح كخطة للعمل والحركة ، فقرر أنه يجب أن يبدأ الدعاة في تفهم الواقع المحيط بإيجابياته وسلبياته ، وأن يتحققوا بالهدف الذي يسعون إليه ، حتى لا ينشغلوا عنه بسواه ، او أن يخطؤوا طريق الدعوة بإفتراض الواقع على غير ما هو عليه ، فإن الدواء الناجع لا يكون إلا بناءا على التشخيص السليم ، وإن كان الوقوف على الداء الحقيقي مرّا ومؤلماً .

      ويحسن هنا أن نعلق على ما ذكر سيد في هذا النص ، قال : " و" وجود " الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة " . مرة أخرى ، إدعى هؤلاء النفر ممن ينتسبون إلى السلفية ! أن سيداً يكفّر أفراد الناس ، وأقول أنه رغم أن سيدا جانبه الحذر في استخدام الكلمات ليعبّر بها عن فكرة صحيحة ، إلا أن ذلك لا يعنى أنه كفّر الناس بعامة . فإن النص يتحدث عن أمرين : إنقطاع وجود الأمة الإسلامية ، وعن انقطاعها منذ قرون عديدة . وإنقطاع الوجود الذي يتحدث عنه سيد هو انقطاع وجود الأمة المسلمة ]بهذه المواصفات[ التي حددها ، أي الأمة التي تحكم بالإسلام في شرعها وقوانينها ، وتتحكم الأعراف والتقاليد الإسلامية في حياة أقوامها . وكلا الأمران ، الوجود التشريعي للنظام الإسلامي و العادة والعرف الإسلامي في حياة الناس ، قد انسحب تدريجيا من حياة الناس في هذه المجتمعات بدءا بتحول المجتمع إلى مراعاة الأعراف والتقاليد الجاهلية شيئا فشيئا ، إلى أن تحول النظام برمته إلى التحاكم إلى غير شرع الله بسقوط الخلافة ، كما أشار سيد في الجزء الأخير من النص " وهذه الأمة - بهذه المواصفات ! قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا " . لهذا أشار سيد إلى أن ما يتحدث عنه إنما حدث – أو الأحرى أن يقال بدأ في الحدوث - منذ قرون عديدة . وسيد يعرف أن هذه الأمة – بمعنى أن الإسلام يختفي من الأرض وأن ينقلب الناس كلهم كفاراً – كما يوحى هؤلاء النفر من أدعياء السلفية - لم ولن يحدث أبدا إذ أن رسول الله صلى الله عليه ةسلم قد ذكر – وهو الصادق المصدوق – أنه "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"[19] ، فإنقطاع الأمة بمعنى كفر عامة أفرادها هو مما لا يقول به سيد ولا غيره ، بل هو مما علم من الدين بالضرورة خلافه ، فكيف يغفل عن هذه الحقيقة – التي يعرفها طالب السنة الأولي في كلية الشريعة - مثل سيد ؟

      فكلام سيد واضح في الطريقة التي يراها الأنجع في العودة بالمجتمع والنظام إلى الإسلام ، أن يعود الإسلام إلى الوجود المتكامل في حياة الناس ، كنظام وكمجتمع ، بعد أن غاب عنهم منذ انهيار الخلافة .

      نقطة أخيرة أود أن أتحدث عنها ، وهي ما قيل عن "العزلة الشعورية" التي نبه سيد إلى التلازم بينها وبين الإيمان في قلب المسلم . قال :

      " كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضي المسلم في جاهليته وحاضره في إسلامه ، تنشأ عنها عزلة كاملة في صلاته بالمجتمع الجاهلي من حوله وروابطه الاجتماعية ، فهو قد انفصل نهائيًا من بيئته الجاهلية واتصل نهائيًا ببيئته الإسلامية . حتى ولو كان يأخذ من بعض المشركين ويعطي في عالم التجارة والتعامل اليومي ، فالعزلة الشعورية شيء والتعامل اليومي شيء آخر .

      وكان هناك انخلاع من البيئة الجاهلية ، وعُرْفُها وتصورها ، وعاداتها وروابطها ، ينشأ عن الانخلاع من عقيدة الشرك إلى عقيدة التوحيد ، ومن تصور الجاهلية إلى تصور الإسلام عن الحياة والوجود . وينشأ من الانضمام إلى التجمع الإسلامي الجديد ، بقيادته الجديدة ، ومنح هذا المجتمع وهذه القيادة كل ولائه وكل طاعته وكل تبعيته . " المعالم 14

      مرة أخرى ، ترى هل جانب سيد الصواب فيما قرره بهذا الشأن ؟ اللهم لا . إن سيداً كما هو ظاهر من حديثه ، لا يدعو إلى الهجرة من الأوطان – كما دعا اليها من انتسبوا إلى جماعات الخوارج في العصر الحديث ، بل هو يقرر أن المسلم يعيش بين من انتسب إلى الجاهلية – سواء جاهلية العوائد أو جاهلية القوانين ، على حسب الحال - ويتعامل معهم ، لكن على علم بما هم فيه من جاهلية عادات أو تقاليد أو أعراف أو قوانين ، وعلى حذر من خلط الأمور والذهول عن الطريق والإلتزام بالمفاهيم . إن سيداً يعني – بإختصار – في هذا الحديث ، قواعد الولاء والبراء ، وإن عبّر عنها بطريق أدبي إختاره ليكون بالغ التأثير في النفوس بما لا يؤثر فيها من أساليب الفقه ومقررات الأصول وجفاف القواعد العامة ، فهل في مقررات الولاء والبراء ما ينكره هؤلاء النفر من أدعياء السلفية ؟ وسيد يقرر أن قواعد الولاء والبراء لا يمكن أن يتبعها الفرد المسلم إن لم تكن حيّة في نفسه ، ليعرف حدود ما هو مسموح به في التعامل مع الواقع وما هو ممنوع عنه .

      وكثير من الناس قد مرّ في حياته الشخصية بهذه المرحلة التي يصفها سيد ، مرحلة البعد عن الله وعن منهاجه وعن شرعه ، أي مرحلة الجاهلية ، وإن كان لا يزال منتسبا للإسلام . ثم كان