فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      زلّةُ عالِمٍ أم عَالَمٌ من الزللِ

      د. يوسف القرضاوى رجل علم غني عن التعريف ، لمع اسمه في العقد الأخير خاصة ، وإن عُرف له جهده في الدعوة منذ ردح من الزمن ، وأصبح وجهاً تليفزيونياً شهيراً تتهافت المحطات الفضائية على استضافته ، وتخصص بعضها وقتا مرصودا له على الهواء لطرح آرائه وتعميم فتاواه .

      وقد كنت ، كغيرى ممن يعيشون في نطاق الدعوة الإسلامية وينتمون لأرضها الخصبة المباركة ، أتتبع أخبار الشيخ ، وفتاوى الشيخ ، وأقول لمن حولي ، إن أحسن : أحسن والله هذا الشيخ الجليل ، أو أقول في نفسي ، إن أساء : هنّة من هنّات البشر ، سامحه الله فيها . إلا أن الأمر قد طفح في الآونة الأخيرة عن الحد المقبول من التجاوزات ، حتى بلغ السيل الزبى ، وجاوز الحزام الطبيين ، وخرج علينا الشيخ مؤخرا بالعديد من الفتاوى ، التي لا ينتظم لها محل في المنظومة المنهجية لأهل السنة والجماعة ، ولا تجد لها سند من أصول فقه أو مقاصد شريعة ! بله المصلحة العامة المعتبرة من الشرع ، إلا ما كان من قبيل فقه العوام وتعريفهم للمصلحة بالهوى والتشهى .

      ولو كان غير الشيخ القرضاوى ، لما اهتزت لشحذ أقلامنا مبراة ، ولكن الرجلَ منظور اليه من عوام الناس في الشرق والغرب على حدّ سواء . ولو أن الأمر أمر زلة عالم لما كان لنا أن نتهجم على مقامه أو أن نترصد لمقالاته ، فكما قال الشاطبي في الموافقات أن لكل عالم هفوة و لكل جواد كبوة ، ولكن الكبوات صارت عادة الحصان حتى ظن الناس أن الكبو هو الأصل في سير الخيل ! وتكاثرت هفوات الشيخ وما خرج به عن منهج العدل من الفتاوى والآراء مما جعل التعريف بها واجب لمن قدر على التصدى له ، إذ أنه لم يتصد له أحد غير القليل ، وحتى هذا القليل ، قد آثروا المحاورة الهادئة فلم يسمع لهم صوت ، وكيف يسمع صوت الحق في عالم غشيه التضليل وعمّت فيه الفوضى وصار العالم جاهلا والجاهل عالما ، وحتى اشتبهت فيه البزاة بالرخم ، وناطح الثرى فيه الثريا ، فلا حول ولا قوة إلا بالله .

      وما سنتعرض له في هذا المقال هو مما نُشر للشيخ – سامحه الله – على صفحات الإنترنت ، من فتاوى في بنوك الفتاوى ! وهي عديدة اخترنا منها أبعدها عن المنهج السوي وتركنا منها ما له وجه محتمل وإن كان مرجوحاً . ثم لا ننسى ما للرجل من فضل بل فضائل في كثير من آرائه وفتاواه الأخرى .

      وقبل عرض هذه الفتاوى ، أحب أن أنبه على أن الفتوى تتركب من حدّين : الحكم الشرعيّ + مناط الحكم ، أو الواقع الذي ينزّل عليه الحكم . ثم إن هذ الفتوى قد تكون فتوى عامة ، فيمكن أن تجرى مجرى الحكم لما هو أخصّ منها مناطاً . مثال ذلك أن يقال :

      • الخمر حرام ، وهذا المشروب خمر فهو حرام .

      ثم

      • الخمر الحرام في حالة المضطر حلال والضياع في الصحراء حالة إضطرار ، فالخمر الحرام في حالة الضياع في الصحراء حلال .

      ثم

      • فلان ضائع في الصحراء ، وفلان وجد خمرا حراما ، ففلان يمكن أن يشرب من الخمر الحرام بما يقيمن أوده لأنها له حلال .

      فهذه ثلاث مستويات من الفتوى ، آخرها خاص يتنزل على حالة بعينها .

      وما أطلت في ذكر هذا المثل إلا لأنني أحسب أن من أشد الخطر وأفحش الخطأ هو ما يقع فيه بعض علمائنا من قبيل الخلط في هذه النقطة ، فهم يصدرون فتاوى عامة من قبيل المستوى الثاني من الفتوى غير عابئن بما قد يجره ذلك من بلاء حين يتناول العامة هذه الفتوى ويجتهدون في تنزيلها على مناطاتهم الخاصة وهي لا تنتمى لها بحال فتعم الفوضى [1].

      1. فتوى تعدد الأحزاب :

      جاء عن الشيخ القرضاوى :

      • " ثم تحدث عن حكم الدين في إنشاء أحزاب على أسس دينية ، فأكد أنه " لا مانع من إنشاء أحزاب سياسية على أسس دينية ، وهذا الأمر ينطبق على المسيحيين ؛ فمن حقهم أيضا إنشاء أحزاب سياسية بشرط أن تكون جميعا خاضعة للدستور والقانون الذي يجب أن يحترمه الكل " .

        وأشار إلى أنه لا يعارض حتى " ظهور أحزاب شيوعية على أن تحترم مشاعر الأغلبية والمقدسات والرموز الدينية ... وهذه هي الديمقراطية التي يخشى الحكام العرب الاقتراب منها " .

      • وحول الموقف من مشاركة المرأة في الانتخابات البرلمانية ، أوضح أن " المرأة والرجل متساويان في الحقوق والواجبات حتى السياسية وغيرها طالما تعلمت (المرأة) ووصلت إلى المراكز المرموقة " [2]

      ولا ندرى والله من أين أتي فضيلته بمثل هذه الفتوى !؟ لا في جزئها الأول ولا في الثاني . فتعريف الحزب السياسي أنه تجمع على منهج محدد وطريقة مفضلة تكون عقيدة أو بمثابة العقيدة لمتبعيه ومنتسبيه للوصول إلى سدّة الحكم وإتخاذ آرائهم ومذاهبهم قوانينا للبلاد . هذا في عرف الديموقراطية التي اشتط فضيلته في فتاوى أخرى للدفاع عنها ونسبتها للإسلام[3] وخلطه بينها وبين الشورى في الإسلام ! وماذا عن " مشاعر الأغلبية " وما هو حكم المحافظة على هذه المشاعر و " المقدسات " ؟ من أين أتى الشيخ بهذه التعبيرات " المشاعر! المقدسات " ؟ أين تقع هذه التعبيرات في قاموس الفقه ؟ وهل يرضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يتمالأ في دولة الإسلام مجموعة ممن يكفرون بالله ويرجعون الخلق إلى الطبيعة ، فيظهرون عقائدهم ويدعون الناس إلى إتباع برامجهم ؟ الإسلام لا يقبل بأن يقوم جمع ممن يحادّ الله ورسوله بالدعوة إلى برامج إلحادية وخروج عن الشريعة على أرضه وبين أبنائه ! هذا من المسلمات ، ولا يكفى أن نقول: ولكننا نصنا لهم أن لا يخدشوا مشاعرنا !! كأنني والله أردد كلمات عذراء مخدّرة لا تملك دفع الشرّ عن لنفسها ! وما هكذا الإسلام يا شيخ قرضاوى ، بارك الله فيك .

      ثم ترى هل يجوّز الشيخ أن تتولى المرأة رئاسة مجلس النواب ؟! ومن ثم ، ومتابعة لهذا الخطّ من الخلط ، هل يجوز لها إذن أن تتولى رئاسة الدولة ، وهو من المراكز المرموقة بلا شك ؟! روى البخارى والترمذي عن أبي بكرة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة ". فيا ترى أين يذهب القرضاوى من هذا الحديث ؟ وكيف يتأوّله ويلتوى به ليطوعه للديموقراطية الجديدة ؟ لقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة " قوم " منكرة تفيد الإطلاق ، ونفى الفلاح عمن فعل هذا " إن ولوا أمرهم إمرأة " ، فهل هناك ما يقيّد هذا الإطلاق ؟! أم أنه حكم خاص بقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عمل له في الأقوام الحديثة المتحضرة من المسلمين ؟! أم أن الشيخ لا يرى أنّ أحاديث البخاري صحيحة على إطلاقها ، متابعة لمن رأى ذلك من المعتزلة أو غيرهم من المبتدعة ؟ أي مذهب ترى ذهب اليه الشيخ القرضاوى لإلغاء هذا النصّ ؟ وما هو دخل المساواة بين الرجل والمرأة في هذا الأمر ؟ الرجل والمرأة في الإسلام متساويان في التكليف أمام الله سبحانه ، ولكن كلّ فيما هيأه الله له ، فما هذا الخلط والخبط والتمويه ؟

      ونحن لا نعارض أن تدلى المرأة برأيها في القيادة المرتقبة للدولة في الإسلام ، ولكن أن تكون بهذه الصيغة وأن توحى بمشاركتها مشاركة لا قيود عليها في إدارة شؤون البلاد هو مما يضاد ما استقر عليه الرأي في الشريعة من أن المرأة لها دورها المتميز في إنشاء الجيل وتربية الناشئة .

      2. الأخوة القومية والإنسانية :

      جاء عن الشيخ القرضاوى :

      " فهؤلاء ـ إذا كانوا من أهل وطنِك ـ لك أن تقول: هم إخواننا ، أي إخواننا في الوطن ، كما أن المسلمين ـ حيثما كانوا ـ هم إخواننا في الدّين . ( والفُقهاء يقولون عن أهل الذمة : هم من أهل الدار ، أي دار الإسلام ). فالأُخُوّة ليست دينيّة فقط كالتي بين أهل الإيمان بعضِهم وبعض ، وهي التي جاء فيها قول الله تعالى : (إِنَّمَا المُؤمِنونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات : 10). بل هناك أُخُوّة قوميّة ، وأخوة وطنيّة ، وأُخوة بشريّة . والقرآن الكريم يحدِّثنا في قَصص الرُّسل مع أقوامِهم الذين كذَّبوهم وكفروا بهم ، فيقول : (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقونَ) (الشعراء : 105،106). (كَذَّبَتْ عَادٌ المُرْسَلِينَ. إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) (الشعراء : 123،124) "[4].

      الأخوة هنا معناها " الإنتساب إلى " ، قال الألوسي : أخوهم نوحاً : " أي نسيبهم " ، فالأخوة التي أرادها الله سبحانه هنا هي في نطاق محدود بالإنتساب ، ليس بينها وبين معاني الأخوة التى أنشأها الله بين المؤمنين نسب ، فالإيحاء بأن هناك " أخوة " بما في الكلمة من ظلال في هذا الموضع خلط متعمد للتمويه على الناس ، والله سبحانه استعمل كلمة " أخوهم " كما تقول العرب " أخا تميم " أي قريبهم ، ولا يحمل هذا أي مدلول آخر إلا بقرينة ، ولذلك افتخر الشاعر بأن قبيلته تنصر من كان من أقربائها في أي ظرف حتى لو لم يكن هناك داع آخر للنصر فقال :

      لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

      ولم يذكر الله سبحانه لفظ الأخوة ، إذ هو مصدر والمصدرية توحي بتعدد الحقوق ، وهو غير مراد هنا .

      ثم إن استنطاق الآيات بغير مرادها فحش وخطل ، فليس هذا محل استنباط فقه الأقليات ، أو أحكام أهل الذمة من هذه الايات التي تقص حكايات الأنبياء ، فهذا من اتباع استعمال المتشابه[5] وترك المحكم الذي ثبت في الشريعة بنص أو ظاهر في حقوق الأقليات .

      وليس هناك خلاف في أن أهل " الديانات الأخرى " لهم حقوق في ظل " الدولة الإسلامية " ، ولكن هذا لا يستدعى أن تكون هناك " أخوة " مصدرية عامة ، بل هو الإحسان والبر بغير المحارب أو الذمي كما في الآيات، والله سبحانه لم يقل في محكم كتابه أنه لا ينهاكم عن الذين لا يقاتلونكم ولا يخرجوكم من دياركم أن تتخذونهم إخوانا أو أن تكون بينكم أخوة ، وكان من اليسير عليه سبحانه أن يقول ذلك ، ولكنه عبّر عن الواجب الشرعي بتفصيله إلى البر بهم والقسط لهم ، وهو ما لا يستدعي بذاته أخوة من أي نوع . قال تعالى : " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ " .

      فأين الأخوة القومية هنا! بله الإخوة الإنسانية ! هي كلها سياسية يقال أنها شرعية ، وهي لا تمت للشرع بصلة ، يراد بها تنزيل الأحكام الشرعية على مقتضى الواقع لتناسبه وتبرر ما فيه من اعوجاج ، لا أن تقرر الصحيح من الفتاوى في مناطاتها فتعيد الحق إلى نصابه وترجع الناس إلى رب الناس .

      3. مبادئ للتقريب بين المذاهب الإسلامية[6]:

      مرة أخرى ، شط فيها الشيخ بما لا مزيد عليه بغية التقرّب ، ولا أقول التقريب ، من الشيعة وما يستتبع ذلك من فتح الأبواب أمام البدع لتخترق صفوف تالسنة أكثر مما هي عليه الآن !

      و الداعي للشيخ القرضاوى على هذا الأمر هو ذلك الكيان الذي أعلن عن إنشائه وجدّ في البحث عن مقر له ثم جدّ في تبرير انتمائه لكل من خالف السنة باسم الوحدة حتى ولو كانوا هم أصل التفرقة والبعد عن السنة ! وقد اتخذ الشيخ نائبا للرئيس شيعيا إثني عشريا ومقررا من الشيعة الإباضية ! ولا شك أن هذه المحاولات التي ترى في التقرب غاية في ذاته وليس وسيلة لنصر دين الله وسنة نبيه ، هي محاولات تهدم ولا تبني وتخرّب ولا تعمر ، وهي محكوم عليها بالفشل ، إذ أن القوم يؤمنون بالتقية ، هذا جزء من دينهم ، أما علمت يا شيخ يوسف ، بارك الله في عمرك ، كم من الناس من حاول هذا التقارب من قبل فكان فيه مضيعة للعمر ومأسفة لأهل السنة . لقد تقوّل هؤلاء الشيعة على أهل السنة من العلماء أمثال الشيخ سليم البشرى شيخ الجامع الأزهر في مطلع القرن العشرين بما هو معروف مما نشروه في ما أسموه "المراجعات" وفيها يكذبون على الشيخ البشري ، وهو أيامها من أجل علماء السنة وعميد الفقه المالكي ، ويصورونه أنه جلس مجلس المتعلم من الشيعي شرف الدين الحسيني ، الذي زعم أنها مما جرى بينه وبين الشيخ البشري في الخفاء ! ولم ينشرها لسبب لا يعلمه إلا الله إلا بعد وفاة البشري !! وهو كذب صريح وترخص وضيع أظهر تهافته كثير من علماء السنة وقتها . فهل يؤمن لمثل هؤلاء الذين يسبون الصحابة ويكفرون أمهات المؤمنين أن نتواصل معهم وأن نمد يد الحب والمودة لهم ، اللهم إلا في موضع القتال دفاعل عن الإسلام ضد من يهاجمهم ويهاجمنا في الحال لا في المآل . وحتى في هذه الحالة، فقد بيّن التاريخ أنهم يأخذون جانب العدو كما في حادث سقوط بغداد في أيدى التتار وخيانة نصير الدين الطوسي الذي ساعد التتار وقتل أهل السنة وقضاتهم بعد سقوط بغداد ، وهو من يسميه هؤلاء الخواجه ! ويثنى عليه أمثاله كالخميني . فلا أعتقد ، ولا يعتقد الكثير معي أن الشيخ القرضاوى ينحدر إلى هذا المهوى ليثبت قضية أثبت الزمان عكسها ، وهي إمكانية تقريب الشيعة من السنة، ورحم الله بن تيمية ومالك وبن القيم وغيرهم ممن كشف كذب الشيعة وتلاعبهم ، و والله الذى لا إله إلا هو لن نحمل لمن يكفر صحابة رسول الله وأمهات المؤمنين ودّا ولا حبا ولا قربا ما تردد في صدورنا نفس ، على رغم ما يقول القرضاوى ، فإن مصلحة الإسلام ، وأهل الإسلام هي في اتباع السنة لا فى إتباع من يقوضها ويقوّض مصادرها ، وليست كل فتوى غريبة مخالفة للأوائل من العلماء مما تدل على علم صاحبها ، فشتان بين موقف بن تيمية حين خالف المقلدين من علماء عصره في الإفتاء بالطلقات الثلات في مجلس واحد وكونها طلقة واحدة ، وبين هذا التقرب الذليل لإثبات أمر لا يجنى على السنة إلا الخراب .

      4. قضية الحاكم بغير ما أنزل الله :

      يقول يوسف القرضاوي :

      " التكفير قضية لها خطرها ، ويترتب عليها آثارها، ولا يجوز التساهُل فيها ، وإلقاء الأحكام على عواهِنها دون الاعتماد على الأدِلّة القاطعة ، والبراهين الناصعة . فإنّ الذي نحكم عليه بالكفر : نخرجه من المِلّة ، ونسلَخه من الأمّة ، ونفصِله عن الأسرة ، ونفرِّق بينه وبين زوجه وولده ، ونَحرِمه من مُوالاة المسلمين ، ونجعله عدُوًّا لهم ، وهم أعداء له . وأكثر من ذلك : أن جمهور فقهاء الأمّة يحكمون عليه بالقتل ، فهو محكوم عليه بالإعدام الأدبي بالإجماع ، وبالإعدام المادِّي بالأكثرية .

      لهذا قال الأستاذ البَنّا في آخر أصل من أصوله العشرين :

      ( لا نُكفِّر مسلمًا أقرَّ بالشهادتين ، وعمل بمُقتضاهما برأي أو بمعصية ، إلا إذا أنكر معلومًا من الدين بالضرورة ، أو كذَّب صريح القرآن ، أو فسَّره تفسيرًا لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال ، أو عمِل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكُفر ).

      والتضيِيق في التكفير هو اتجاه المحقِّقين من علماء الأمة ، من جميع المذاهب .

      ولنا رسالة موجَزة حول (ظاهرة الغُلُوِّ في التكفير) بَيَّنّا فيها حقائق مُهمّة حول هذا الأمر الخَطير ، الذي أسرفت فيه بعض الجماعات في عصرنا ، فكَفَّرت الأمة أو كادت . كفَّرت الحكّام ؛ لأنَّهم لم يحكموا بما أنزلَ الله ، وكفّرت الجماهير ، لأنهم سكتوا على الحكّام ! بدعوَى أن مَن لم يكفِّر الكافر فهو كافر ، وجهِل هؤلاء أن هذا إنما هو في الكافر الأصلي المعلوم كُفره بالضرورة ، مثل الملاحِدة والوثنيّين والمحرِّفين من أهل الكِتاب وغيرهم .

      وقد عرضَ الإمام ابن القيِّم لتكفير الحكام في كتابه (مدارج السالكين) ونظر في قوله تعالى : ( ومَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرونَ ) (المائدة : 44). وكان مما قاله في تأويلها : " فأمّا الكفر فهو نوعان : كفر أكبر ، وكفر أصغر : فالكفر الأكبر هو الموجِب للخلود في النار ، والأصغر : موجِب لاستحقاق الوعيد دون الخلود .. كما في قوله ـ صلّى الله عليه وسلم ـ في الحديث : " اثنتان في أمّتي ، هما بهم كُفر : الطّعن في النّسب، والنِّياحة "، وقوله في السُّنَن : " مَن أتى امرأة في دُبُرها فقد كفر بما أُنزِل على محمد " ، وفي الحديث الآخَر : " مَن أتى كاهِنًا أو عرّافًا، فصدَّقه بما يقول ، فقد كفر بما أَنزَل الله على محمد " ، وقوله : " لا تَرجِعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رِقاب بعض " .

      وهذا تأويل ابن عبّاس وعامّة الصّحابة في قوله تعالى : ( ومَنْ لَمْ يَحكُمْ بِمَا أَنْزَلَ فَأُولَئِكَ هُمُ الكَافِرونَ ) (المائدة : 44). قال ابن عباس " ليس بكُفر ينقل عن المِلّة ، بل إذا فعله فهو به كُفر ، ولَيس كمَن كفَر باللهِ واليوم الآخر " ، وكذلك قال طاووس . وقال عطاء : " هو كفرٌ دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفِسق دون فِسق ).

      ومنهم : مَن تأوّل الآية على ترك الحكم بما أنزل الله جاحِدًا له . وهو قول عِكرمة . وهو تأويل مَرجوح . فإنّ جُحوده كُفر ، سواء حَكَم أو لم يحكُم .

      ومنهم : من تأوّلها على ترك الحكم بجميع ما أنزل الله . قال : ويدخل في ذلك الحكم بالتوحيد والإسلام . وهذا تأويل عبد العزيز الكِناني . وهو أيضًا بعيد ؛ إذ الوَعيد على نفي الحكم بالمُنَزَّل . وهو يتناول تعطيل الحكم بجَميعه وببعضه .

      ومنهم : مَن تأوَّلها على الحكم بمُخالَفة النصِّ ، تعمُّدًا من غير جهل به ولا خطأ في التأويل . حكاه البَغوي عن العلماء عمومًا .

      ومنهم : مَن تأوّلها على أهل الكتاب . وهو قولُ قتادةَ والضَّحّاك وغيرهما . وهو بعيدٌ ، وهو خلاف ظاهر اللفظ فلا يُصارُ إليه .

      ومنهم : مَن جعله كفرًا ينقل عن المِلّة .

      والصحيح : أن الحُكم بغير ما أنزل الله يتناول الكُفرَيْن ، الأصغر والأكبر بحسَب حال الحاكم . فإنّه إن اعْتقَد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة ، وعدَل عنه عصيانًا ، مع اعترافه بأنه مستحِقٌّ للعقوبة ، فهذا كفر أصغر . وإن اعتقد أنّه غيرُ واجبٍ ، وأنه مُخَيَّر فيه ، مع تيقُّنِه أنه حكم الله ، فهذا كُفرٌ أكبرُ . وإن جهِله وأخطَأه فهذا مُخطِئ له حكم المُخطئين .

      قال ابن القيم : " والقَصد : أن المعاصِي كلها من نوع الكفر الأصغر ، فإنّها ضدّ الشكر ، الذي هو العمل بالطاعة . فالسعي إما شكر ، وإما كفر ، وإمّا ثالث ، لا من هذا ولا من هذا . والله أعلم ."[8]

      ومنطلق القرضاوى هو منطلق الإخوان بشكل عام ، جرثومة إرجاء تسعى بين جنبيهم ، شفاهم الله تعالى منها . والأمر ليس أمر تكفير أو غيره ، وإنما هو أمر التوحيد وفهم حدوده ومعانيه ومستلزماته . فلا علينا إن كان فلانا من الحكام كافرا أو غير كافر ، ولكن المسألة هي مسألة ثبوت معنى الطاعة والإتباع لله وحده في ذهن المسلم ، وأنّ الخروج العام على شريعة الله في كافة حدودها ونصوصها ووضع تشريع مواز مخالف ، هو خروج عن حدّ لا إله إلا الله ، ليس كالمخالف في قضية بعينها أو واقعة بذاتها ، وهو الفارق الذي ظهر لنا عجز الذهن الإخواني عن فهمه وتصوره إذ أن تركيبة الذهن الإخواني قد بدأت على مرض ، استقر وعشش وفرّخ ، وهو فصل الإيمان عن العمل ، وأن لا ردة لمسلم أبدا بعمل إلا إن كان جحوداً .

      وحسن البنا رحمة الله عليه ، كما بيّنا في مقالنا المنشور عن فكر الإخوان[9] ، لم يذهب إلى ما ذهب اليه تابعوه وتلامذته من غلو في الظاهرة الإرجائية ، ولو تأملت ما نقله عنه تلميذه القرضاوى حيث يقول : " أوعمِل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكُفر " . والأمر هنا أن القرضاوى ومن ابتلي مثله بجرثوم الإرجاء اقتصر على الجزء الأول من قول البنا ، وجعل الكفر لا يكون إلا جحوداً باللسان ، وهو من أقوال عتاة المرجئة قديما ، وتابعوهم من أمثال أتباع الجامي والحلبي حديثاً ، فهل ينضم القرضاوى لهذا الموكب غير المبارك ؟

      ثم ما قاله البغوي مما نقله القرضاوى ، من أنه فيمن ترك النص عمدا دون تأويل ولا جهل ! وهو ما عليه عامة العلماء . وسبحان الله العظيم ! أليس يعنى " العلماء عموما " أنه قول الجمهور ؟! فلم تعداه القرضاوى إلى غيره ؟! ولم حكي القول الرابع أنه كفر أكبر ناقل عن الملة ؟ وكيف يختلف هذا عن القول الثاني ؟! ولم هذه المغالطة والملاوعة ؟!

      وقول القرضاوى " والصحيح : أن الحُكم بغير ما أنزل الله يتناول الكُفرَيْن ، الأصغر والأكبر بحسَب حال الحاكم . فإنّه إن اعْتقَد وجوب الحكم بما أنزل الله في هذه الواقعة ، وعدَل عنه عصيانًا ، مع اعترافه بأنه مستحِقٌّ للعقوبة ، فهذا كفر أصغر . وإن اعتقد أنّه غيرُ واجبٍ ، وأنه مُخَيَّر فيه ، مع تيقُّنِه أنه حكم الله ، فهذا كُفرٌ أكبرُ . وإن جهِله وأخطَأه فهذا مُخطِئ له حكم المُخطئين " خطأ ظاهر . بل الصحيح أن الحكم بغير ما أنزل الله يتناول الأصغر والأكبر ، بحسب الحاكم نفسه : إن كان حاكما بمعنى أنه مكلف حكم في أمر نفسه بغير ما أنزل الله، فهو العاصى ، ومن حمله على الكفر الأكبر فهو من الخوارج الذين يكفّرون بالمعصية ، وإن كان الحاكم بمعنى ولي الأمر ومن بيده الحكم وإنفاذ التشاريع ، فيكون بحسب ما حكم به الحاكم ، فإن كان الحاكم يحكم في مسألة مفردة بعينها أو حتى عشرة بظلم أو نهب أو سلب من غير أن يبدّل القوانين ويجعل المرجع لأحكام وأوضاع غير ما أنزلها الله سبحانه ، فهو عاصٍ كذلك ويجب اتباعه ولا يصح الخروج عليه لما صحّ في ذلك من السننس ، وإن كان حال ما حكم به هو شرع مواز مخالف لشرع الله يعبّد له الناس ويجبرهم على اتباعه ويعاقب مخالفه فهذا كفر أكبر ناقل عن الملة . هذا عين ما تتنزل عليه أقوال بن القيم التي نقلها القرضاوى واستخدمها في غير موضعها ومناطها ، إذ هو يتحدث عن المعاصي، ومحل النزاع هو في كون التشريع المطلق من المعاصى فلا يصح استخدام هذا القول في هذا الموضع لعدم التسليم بمقدمته .

      ولنا قول من هم أجلّ وأعلم من القرضاوى ، ممن ينتمون لطبقة العلماء حقيقة ثابتة لهم لا التصاقاً وتمحكاً ، ونعنى بهم الأجلاء من القدماء ، على سبيل المثال لا الحصر، مثل بن تيمية شيخ الإسلام حيث يقول فيما يعضد ما بيناه : " ولا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله على رسوله فهو كافر فمن استحل[10] أن يحـكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل ، وقد يكون العدل في دينها ما يراه أكابرهم ، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها الله كسواليف البادية (أي عادات من سلفهم) والأمراء المطاعون ويرون أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة وهذا هو الكفر ، فإن كثيراً من الناس أسلموا ولكن لا يحكمون إلا بالعادات الجارية التي يأمر بها المطاعون. فهؤلاء إذا عرفوا أنه لا يجوز لهم الحكم إلا بما أنزل الله فلم يلتزموا ذلك بل استحلوا أن يحكموا بخلاف ما أنزل الله فهم كفار " . و الإمام بن كثير في تفسيره لآية المائدة : " ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خيرٍ الناهي عن كل شر ، وعدل عما سواه من الآراء والأهواء والإصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها ، وفيها الكثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكّم سواه في قليل أو كثير " كما أن بن كثير قد ذكر نفس الكلام في تاريخه عن موضوع الحكم بالياسق وأمثاله قال : " فمن ترك شرع الله المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة – كفر ، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه ؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ".

      ثم من أجلاء المحدَثين الشيخ محمد بن إبراهيم الذي يقول في فتاواه : " وأما الذي قيل فيه أنه كفر دون كفر إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص وأن حكم الله هو الحق فهذا الذي صدر منه المرة ونحوها ، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل، فهذا كفر ناقل عن الملة " [11]. ثم الشيخ المحدث المحقق أحمد شاكر والعلامة الجليل محمود شاكر في شرحهما وتحقيقهما على بن كثير والطبري ، قال أحمد شاكر في بيان حكم من يتلاعب بآثار بن عباس وأبي مجلز من فروخ العلماء : " الله إني أبرأ إليك من الضلالة ، وبعد ، فإن أهل الريب والفتن ممن تصدوا للكلام في زماننا هذا ، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله وفي القضاء في الدماء والأموال والأعراض بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام . فلما وقف على هذين الخبرين ، اتخذهما رأيا يرى به صواب القضاء في الدماء والأموال والأعراض بغير ما أنزل الله وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا تكفر الراضي بها والعامل عليها . والناظر في هذين الخبرين لا محيص له من معرفة السائل والمسئول ، فأبو مجلز (لاحق بن حميد الشيباني الدوسي) تابعي ثقة وكان يحب عليا وكان قوم أبي مجلز وهم بنو شيبان من شيعة علي يوم الجمل وصفين ، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين ، واعتزلت الخوارج ، كان فيمن خرج على علي طائفة من بني شيبان ومن بني سدوس بن شيبان بن ذهل ، وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس وهم نفر من الإباضية ... هم أتباع عبد الله بن إباض من الحروروية (الخوارج) الذي قال : إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك ! فخالف أصحابه ...

      ومن البين أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء لأنهم في معسكر السلكان ، ولأنهم ربما عصوا أو ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عنه ، ولذلك قال في الأثر الأول : فإن هم تركوا شيئا منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنبا ، وقال في الخبر الثاني : إنهم يعملون بما يعملون وهم يعلمون أنهم مذنبون .

      وإذن ، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعي زماننا من القضاء في الدماء والأموال والأعراض بقانون مخالف لغير شرع الإسلام ، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام ، بالإحتكام إلى حكم غير الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهذا الفعل إعراض عن حكم الله ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي له .

      والذي نحن فيه اليوم ، هو هجر لأحكام الله عامة دون استثناء وإيثار أحكام غير حكمه ، في كتابه وسنة نبيه ، وتعطيل لكل ما في شريعة الله ... فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكما حكما جعله شريعة ملزمة للقضاء بها .

      وأما أن يكون كان في زمان ابي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر جاحدا لحكم الله أو مؤثرا لأحكام أها الكفر على أهل الإسلام ( وهي حال اليوم من آثر أحكام الكفر علىأحكام الإسلام ) فذلك لم يكن قط ، فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه ، فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في بابهما ، وصرفها عن معناها ، رغبة في نصرة السلطان ، أو احتيالا على تسويغ الحكم بما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله ، أن يستتاب ، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله ورضي بتبديل الأحكام ، فحكم الكافر المصر على كفره معروغ لأهل هذا الدين ". ويقول أخوه العلامة المحدث أحمد شاكر : " إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس ، هي كفر بواح ، لا خفاء فيه ولا مداورة ، ولا عذر لأحد ممن ينتسبون إلى الإسلام – كائنا من كان – في العمل بها أو الخضوع لها أو إقرارها ، فليحذر إمرؤ لنفسه " وكل إمرئ حسيب نفسه " .

      ألا فليصدع العلماء بالحق غير هيابين ، وليبلغوا ما أمروا بتبليغه ، غير متوانين ولا مقصرين .

      سيقول عني " عبيد هذا الياسق الجديد " وناصروه أني جامد وأني رجعيّ وما إلى ذلك من الأقاويل ، ألا فليقولوا ما شاؤوا، فما عبأت يوما بما يقال عني ولكني أقول ما يجب أن أقول "[12].

      ويقول الشيخ الجليل بن باز رحمة الله عليه فيما نشر في مجلة الدعوة العدد (963) في [5/2/1405هـ] : " الحكام بغير ما أنزل الله أقسام ، تختلف أحكامهم بحسب اعتقادهم وأعمالهم ، فمن حكم بغير ما أنزل الله يرى أن ذلك أحسن من شرع الله فهو كافر عند جميع المسلمين ، وهكذا من يحكِّم القوانين الوضعية بدلاً من شرع الله ويرى أن ذلك جائزاً ، حتى وإن قال : إن تحكيم الشريعة أفضل فهو كافر لكونه استحل ما حرم الله "[13]. فهذا بيّن في رأي بن باز أن مجرد الحكم يدل على الإستحلال .

      مثل هؤلاء العلماء هم الذين قال الله تعالى فيهم : " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " (الأنعام : 90). أمثال هؤلاء هم الذين يجب اتباعهم والحرص على فتاواهم لا متابعة رويبضات[14] العلم .

      إذن ، فإن فتوى الشيخ القرضاوى في هذا الأمر ليس مما يعتد به ، بل هي مما يزكم الأنوف بما تحمله من روائح الإرجاء الذي درج عليه منتسبو الإخوان .

      5. جمع الصلوات بلا عذر :

      جاء في بنك الفتاوى[15] :

      سؤال : ما حكم من لم يستطع أداء الصلاة في وقتها ؟

      " هذه لها حل شرعي وهو ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه " أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة في غير سفر ولا مطر " وفي رواية " في غير خوف ولا سفر " يعني لا خوف ولا سفر ولا مطر ، إنما جمع في المدينة ، قالوا لابن عباس ماذا أراد بذلك ؟ قال أراد ألا يحرج أمته ، يعني أراد رفع الحرج عنها وهذا الحديث في الواقع يعطينا الحل والمفتاح لحل هذه المشكلات التي تتفاوت فيها الأوقات ، فيجوز للمسلم إذا كان العشاء يتأخر جداً في الصيف أن يجمع العشاء مع المغرب جمع تقديم ، وفي الشتاء يكون الظهر والعصر الوقت ضيق جداً والإنسان في عمله فهنا يجمع إما يجمع العصر مع الظهر جمع تقديم أو يجمع الظهر مع العصر جمع تأخير ، حسب المتيسر له ، فهذا كله فيه حرج والنبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر راوي الحديث وحبر الأمة ابن عباس أراد ألا تُحرج أمته ، أراد أن يرفع عنها الحرج والضيق ويوسع عليها ، فهذه الفتوى قال بها الإمام أحمد قال ابن سيرين من التابعين أن أي ضيق وأي حاجة وأي حرج الإنسان يجمع بين الصلاتين ".

      والفتوى بهذا القدر ليست صحيحة على الإطلاق ، فإن مبدأ الرد على السائل في مثل هذا الأمر بهذه الصيغة أن نذكّره أن الصلاة " كانت على المؤمنين كتابا موقوتا " وأنه مما علم من الدين بالضرورة ومما تقعّد من أصول الدين وتمهّد من قواعد الفقه أن الصلاة لها مواقيت محدودة لا يصح الإستهانة بها ولا محاولة تعدّيها ، بل الأوجب والأصل أن يلتزم المسلم بالمحافظة عليها . أليس هذا ما يبدأ به العالم إن كان ربانيا ، لا أن يبحث عن " الحلّ الشرعي " لكل مخالفة شرعية ؟!

      ولكن الشيخ قد أصلح بعض ما أفسد في رده على سائل آخر في فتوى أخرى بقوله : " فإذا كان هناك حرج في بعض الأحيان من صلاة كل فرض في وقته ، فيمكن الجمع ، على ألا يتخذ الإنسان ذلك ديدنًا وعادة ، كل يومين أو ثلاثة .. وكلما أراد الخروج إلى مناسبة من المناسبات الكثيرة المتقاربة في الزمن . إنما جواز ذلك في حالات الندرة ، وعلى قلة ، لرفع الحرج والمشقة التي يواجهها الإنسان "[16].

      هذا ما ذكره القرضاوى ، وهو صحيح لا غبار عليه فبارك الله فيه ، وسنزيد الأمر بيانا إذ أن ذلك مما يحتاجه هذا المقام خاصة وفتوى الشيخ القرضاوى الأولى مبهمة لا تشفى غليلا بل تسهّل على السائل تفويت الأوقات وإهمال الصلوات .

      ونص الحديث الذي يشير اليه القرضاوى هو ما رواه الجماعة عن بن عباس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء " وفي لفظ الجماعة إلا البخاري وبن ماجة " قيل لإبن عباس : ماأراد بذلك ؟ قال : أراد أن لا يحرج أمته " .

      إن قول الجمهور[17] في هذه المسألة هو أن الجمع بغير عذر لا يجوز . واليك بيان ما ذكره العلماء في هذا الحديث، فقد اختار النووي أن ذلك كان بسبب المرض لأن الثابت هو رواية " من غير خوف ولا سفر " والرواية الأخرى " من غير خوف ولا مطر " فالمرض هو العذر الذي جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لئلا يحرج أمته ، وله شاهد من تأجيل الصيام وغيره من أحكام المرض . وقوّى الحافظ بن حجر قول أنها كانت بسبب الغيم. وقد رجح القرطبي وبن الماجشون وإمام الحرمين الجويني والطحاوى وبن سيد الناس وغيرهم أنه جمع صوري ، أي أنه صلى بأصحابه في آخر الظهر ثم في أول العصر فكانت صورة جمع لا جمع حقيقي . ومما يقوى هذا الوجه هو ما رواه النسائي عن بن عباس – راوى الحديث الأول – أنه " صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا أخّر الظهر وعجّل العصر وأخّر المغرب وعجّل العشاء ". فهذا راوى الحديث الأول بن عباس يروى ما يقوى هذا الوجه ويبين مغلقه . كذلك فإن ما يؤيد الجمع الصورى ما رواه الشيخان عن عمرو بن دينار أنه قال لأبي الشعثاء – راوى الحديث الأول عن بن عباس : يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر وأخر المغرب وأخر العشاء ، قال أبو الشعثاء : وأظنه . كذلك ما رواه بن جرير الطبري عن بن عمر " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يؤخر الظهر ويقدم العصر فيجمع بينهما ويؤخر المغرب ويقدم العشاء فيجمع بينهما ". كلّ هذا يدل على أن الجمع كان صوريا لا حقيقيا لكل هذه الآثار ولما هو من قبيل عدم معارضة الأصول الثابتة في مواقيت الصلاة التي هي أرسخ من هذا الحديث. وهذا بلا شك فيه تخفيف على الأمة من أن يكون تكون الصلاة دائما في أول الوقت وهو ما فيه مشقة فبين صلى الله عليه وسلم أنه يمكن أن تكون متأخرة حتى نهاية الوقت للحاجة . وقد أجمع العلماء على أن ذلك لايجب أن يتخذ عادة مستقرة بل يكون لحاجة مؤقتة . فإن كان هناك حرج في وقت من الأوقات على فرد من الأفراد فهذا أمر يقدّر بقدره ، ولكن أن يفتح الباب على مصراعيه بصفة دائمة لحاجة العمل ، فإن في هذا اعتداء على الشريعة وتجرؤ على دين الله لا يغتفر ! ! ثم إن هذا الأمر مما يلتحق بعموم البلوى وما ينشأ عن ذلك من النظر في قاعدة المشقة تجلب التيسير ، وهل هو مما يعمّ كل المكلفين في كل الأوقات أم بعض المكلفين في بعض الأوقات أو بعض المكلفين في بعض الأوقات ، ثم ما هي درجة الخصوصية في هذا الأمر بالنسبة للمكلف، ثم تحديد معنى المشقة المرعية ، وهل هي مما ينفك عن العبادة أم مما لاينفك عنها عادة ، وهي أمور يرجع فيها الناظر إلى مظانها من كتب الأصول والقواعد .

      وللشيخ عطية صقر[18] فتوى في هذا الباب مما يستحسن الرجوع اليه إذ هي فتوى تدل على علم وفقه ، لا محاولة التخفيف واتباع أهواء الناس .

      ثم بعد هذا البيان ، نتوجه للشيخ القرضاوى بأن يلمّ شعث نفسه وأن يتقى الله فيما يصدر عنه من أقوال وفتاوى ، فإنه لا سند لكثير مما يدّعى في منهجية أهل السنة وأصولها ، وليحقق أقواله بدلا من إلقائها على عواهنها فليس هذا بسمت العلماء ، وهو منهم. ثم يعترى النفس حزن وأسى على الكثير من أبناء هذا الجيل الذين لا يعرفون من قمم العلم إلا الشيخ القرضاوى ، على فضله ، أطال الله عمره وأصلح مسيرته ، فحين نتصفح إنتاجه في مجال البحث نجد أن كلها[19] كتب تحمل الطابع الدعوى ، ليس فيها نصيب لتحقيق علمي أو إضافة تجديدية ! فعلى سبيل المثال ، أين في أعمال الشيخ كتاب في المصطلح ككتاب " الباعث الحثيث " للعالم المحدث أحمد شاكر ؟! أو " المتنبي " للعالم اللغوي محمود شاكر ، بل أين في أعمال الشيخ الدعوية مثل أعمال الشيخ الغزالي رحمة الله عليه ؟! أو بحث تاريخي مثل " الإتجاهات الوطنية " للعلامة الدكتور محمد محمد حسين ؟! ونحن لا نقلل من قدر القرضاوى وأعماله ، ولكن الأمر آل إلى هذا المستوى بعد غياب القمم التي ترهق الأعناق في التطلع إلى فلكها وتغشى الأبصار في النظر إلى أضواء علمها .

      ونبرء إلى الله من كل معصية ، ونتعتذر إليه عز وجلّ من كل زلل .

      [1] كما فعل الأخ الزميل د. صلاح الصاوى في فتواه بحلّ الإشتراك في الإنتخابات في بلاد الغرب بشروط عديدة ! أنظر ردي عليه في المنار الجديد عدد 13 .

      [2] وفد من "اتحاد علماء المسلمين" إلى دارفور .
      [3] نحيل القارئ على ما كتبه الأخ الزميل جمال سلطان ردا على القرضاوى في زلته تلك في " حوار في الديموقراطية " .
      [4] " الولاء والبراء وأخوة غير المسلمين " و " الأخوة الإنسانية " .
      [5] المتشابه هنا هو ما يحتاج إلى تخصيص أو بيان أو تقييد كما عرفه علماء الأصول في أحد معانيه .
      [6] " مبادئ للتقريب بين المذاهب الإسلامية " .
      [7] " نحو ميثاق تأسيسي لهيئة قضايا الوحدة والتقريب " .
      [8] " موقف الإسلام من تكفير الحكام " .
      [9] أنظر المنار الجديد عدد 11 .
      [10] استحل هنا واقعة على إجراء الحكم أى من رأى أنه لا غبار من أن يحكم بغير الشريعة لا أنه استحل ما حرّم الله من الأحكاام ذاته ، ويراجع المزيد من هذا في تعقيب د. محمد أبو رحيم في كتابه " حقيقة الخلاف بين السلفية الشرعية وأدعيائها في مسائل الإيمان " ص 71 وبعدها .
      [11] راجع فتاوى الشيخ محمد بن ابراهيم التي جمعها الشيخ محمد بن عبد الرحمن بن قاسم .
      [12] " عمدة التفاسير " أحمد شاكر ، ج 1 ص 612 .
      [13] وهذا نشر في مجلة الدعوة العدد (963) في [5/2/1405هـ] .
      [14] قال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم : " إن بين يدي السّاعة سنون خدّاعات يخوّن فيها الأمين ويؤمّن فيها الخائن ويكذب فيها الصادق ويصدّق فيها الكاذب وينطق فيهم الرويبضة , قالوا: ومن الرويبضة يا رسول الله ؟ قال : الرجل التافه يتكلم في أمر العامّة " رواه البزّار وصححه الألباني .
      [15] " من لم يستطع تأدية الصلاة في وقتها " .
      [16] " جمع الصلاتين عند الحاجة " .
      [17] كما حكاه الشوكاني في نيل الأوطار ج 4 ص 264 .
      [18] " حكم الجمع بين الصلاتين " .
      [19] إلا " الحلال والحرام في الإسلام " وهو كتاب فقه خفيف لا يحمل مثل قوة " فقه السنّة " لسيد سابق ولا انتشاره