فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الإسلام موقف

      العلمانيون من جهة، والجهلة من أبناء المسلمين من جهة أخرى، يتفقون على مغالطة كبيرة تمسّ أصلا من أصول الدين، ينبغي لكل مسلم أن يكون واعيا لها، عالما بالمفهوم الصحيح لموضوعها، مدركا لمقتضى ضبطه على الوجه الصحيح، وللآثار السيئة الناتجة عن تحريفه من قِبل أولئك العلمانيين أو جهلة المسلمين على السواء.

          هذه المغالطة هي قولهم بأن الدين – كل دين – هو أمر وراثي، لا يختاره المرء، لأنه يولد على دين أبويه جبرا لا اختيارا. ويكفي في الردّ على هذا القول التذكيرُ بأن هناك ما يقارب خمسة آلاف بريطاني يدخلون في الإسلام – طواعية واختيارا – كل عام! وقد ولدوا إما على النصرانية أو على الإلحاد! فالأمر إذن ليس وراثيّا، وليس جبريا كما يدّعون.

          بيدَ أنّي أحببتُ في مقالي هذا أن أبيّن أمرا ربّما غاب – للأسف – عن أذهان الكثيرين ممّن ولدوا بأسماء إسلامية، ولأبوين مسلمين! وهو أن الإسلام قضية اختيارية بالدرجة الأولى، فهو إلى جانب كونه “دين الفطرة” لا يجوز الإيمان به دون علم وبرهان، حتى لو كان أبسط البراهين كما عند البسطاء من بدو البادية، فكلّ وفق مستواه الفكري، ولكن الشرط أن يكون اعتناقه للإسلام مبنيّا على برهان علمي وقناعة عقلية، لا بمجرّد التقليد للآباء أو الهوى والظن، وحشدٌ هائل من آيات كتاب الله العزيز يقرّ هذه الحقيقة المطلقة، فلنا أن نحيا مع معاني كتاب الله، فقد أنزله الله ليكون هاديا لنا، لا مجرّد ترتيل يُتلى، أو تعويذة توضع في العربات والبيوت!:

          في ذمّ من اتبع المألوف والموروث والظن دون تمحيص العقل والعلم:

          “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ” (البقرة: 170).

          “وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ” (لقمان: 21).

          “وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ” (الأنعام: 116).

          “إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى” (النجم: 23)

          “وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا” (النجم: 28).

          فإذا كان الله – سبحانه – يذمّ الكفار على اتباعهم لدينهم بمجرد التقليد لما ورثوه وألفوه من الآباء، وينسب اتباعهم هذا إلى “الجهل” (لا يعقلون) و“الضلال” (لا يهتدون، يضلّوك عن سبيل الله) و“الظنّ” و“الخرص” و“الهوى”، فهل يمكن أن يكون دينه المنزل دون براهين علمية وموضوعية ينفي بها الجهل والهوى والظن والخرص والضلال عن أن تنسب إليه؟! وهل يمكن بعد هذا البيان أن نقول: إننا مسلمون لأنّنا ولدنا مسلمين؟! وبأن الدين أمر “وراثي”، والإيمان “لا يوجد دليل علمي عليه”! هل يُعقل هذا في دين الله؟! كلاّ والله! بل نزيد في البيان، ونستفيض في البلاغ، حتى يستقرّ الحق في تلك النفوس!:

          يصف الله سبحانه وتعالى دينه بالـ “علم”، ويذمّ اتباع الهوى دون علم:

          “وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ” (البقرة: 120).

          ويذمّ – سبحانه – الذين يجادلون بدون دليل علمي:

          “ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير” (الحج: 8).

          ويحرّم البتّ في أمر دون علم به:

          “ولا تقفُ ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا” (الإسراء: 36).

          ويطالب الكفارَ – أصحابَ المعتقدات الفاسدة – أن يأتوه بعلم أو برهان على ما يقولون:

          “نبئوني بعلم إن كنتم صادقين” (الأنعام: 143).

          “قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا” (الأنعام: 148).

          “أإله مع الله؟ قل هاتو برهانكم إن كنتم صادقين” (النمل: 64).

          ويذمّ – سبحانه – اتباع الظنّ والأهواء والخرص دون دليل علمي:

          “ما لهم به من علم إلا اتباع الظنّ” (النساء: 157).

          “بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم” (الروم: 29).

          “ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون” (الزخرف: 20).

          “وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنّون” (الجاثية: 24).

          وبعد هذا البيان من كتاب الله العزيز لا يكون للقارئ المنصف إلا التسليم بتلك الحقيقة؛ أن دين الإسلام لا يقبل من المسلم إيمانا مبنيّا على الظن والتقليد للموروث دون دليل علميّ، وأنّ كون التوحيد شيئًا مكنونًا في الفطرة ليس دليلا على جبريّته، بل إن هذا – خلافا لذلك – عاملٌ رئيسيٌّ في سلامة الاختيار، إذ تدفع الفطرةُ الإنسانَ إلى اختيار الدين الحق المنزّل من عند خالق الفطرة، فحينها يكون الاطمئنان الناتج عن توافق المنهج مع الفطرة، إذ كلاهما من مصدر واحد، فيكون التلاقي الفطريّ بين حقائق ثلاث: “الكون العابد لله” و”الفطرة السليمة” و”المنهج الرباني”، التلاقي الذي يؤكّد سلامة الاختيار بعد أن تناسقت تلك الحقائق الثلاث. وحقيقة كون الإيمان (بمعنى الهداية) من عند الله ولا يحصل بمجرد العلم والتصديق لا تنفي قيام هذا الإيمان على أساس علميّ يقينيّ، لا مجال للتشكيك به. فقد ثبت إذًا أن دين الله عزّ وجلّ ليس موروثا يتلقّاه الأبناء دون تمحيص العقل وأدوات العلم الموضوعية، ولإن كانت بعض خلائف المسلمين اليوم ترثُ دين الله كما كانت يهودُ ترثُ الكتاب دون علم ولا قناعة واختيار فهذا الوضع ليس حجّة على الإسلام، إنما الإسلام بنصوصه الحاسمة المحكمة حجّة على هؤلاء!

          ومن هذا المنطلق نقول إن دين الله عزّ وجل “موقف”، نعم.. الإسلام موقف! موقف اختياريّ من قبل الإنسان المسلم، يتجلّى – أولا – في إفراد الله تعالى بالعبادة مع البراءة من الشرك، ثم ما ينبثق عن هذه الحقيقة الاختيارية من “أقوال” و”أفكار” و”أعمال”، فكان الإيمان كما عبّرت عنه الأجيال الأولى من المسلمين: قول وعمل؛ قول القلب واللسان، وعمل الجوارح. إنّه موقف يبدأ من إيمان الإنسان بحقيقة وجود الله ووحدانيته، وبأنّه “الربّ”، أي: المربّي بالنعم. ثم ما تقتضيه هذه الحقيقة من إفراده – سبحانه – بالعبادة.

          فالمسلم قد وحّد الربّ بذاته وصفاته وأفعاله، وهو توحيد الربوبية، أو التوحيد الخبري. ثم عبده بتوجيه شعائر التعبّد له وحده، وتحكيم شريعته في حياته كلها، وولائه له وتولّيه المؤمنينَ وبراءته من الكافرين، وهو توحيد العبادة، أو توحيد الألوهية. ثمّ عمل بالتكاليف الشرعية، وتخلّق بأخلاق الإسلام.

          هذه بمجموعها هي الإسلام، وهي مواقف كلها تنبثق عن الموقف الأكبر وهو “الإسلام”، بمعنى: الاستسلام التام لله. فهو استسلام وخضوع اختياري لله عز وجل، بعد أن أدرك أنّه الحق، وأن عبادته – تعالى – هي غاية وجوده الإنساني: “وما خلقتُ الجنّ والإنسَ إلا ليعبدون” (الذاريات: 56)، وأن طريقة تحقيق هذه الغاية تكون باتباع ما أنزل الله: “اتبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكّرون” (الأعراف: 3). وليس هناك موقف أضخم وأعظم من الإسلام، فبه تتعلق أضخم حقيقة واقعية بالنسبة لكل إنسان، وهي مكانته في الآخرة، التي هي الحياة الحقيقية الجديرة بالاهتمام وما الدنيا إلا طريق لها محفوف بالابتلاءات: “وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ” (العنكبوت: 64). فالآخرة إذن أثقل واقع في حسّ المسلم، ومن الجدير بالاهتمام أن هذا الكمّ الهائل من الآيات التي تتحدث عن اليوم الآخر في كتاب الله لم يرد – حاشا لله – اعتباطا، إنما حتى يكون المسلم في تذكّر دائم لهذه الحقيقة العظيمة، وإنّه ليراها في كتاب الله أحيانا – حين يحيا به أثناء تلاوته – أقربَ إليه من دنياه التي يعيشها.. بل يكاد يشعر حين يعيش تلك الآيات أن الدنيا شيء مضى.. وأن الدار الآخرة هي الواقع الآنيّ المعاش!

          ألا يكون مجرما – شديد الإجرام – هذا الإنسان الذي يتنكّب عن طاعة الله؟ أو ذلك الذي لا يُعمل عقلَه ويفّكر في غاية حياته وما قبلها وما بعدها؟ أليس هذا التعطيل للتفكير في أهمّ قضايا الوجود الإنساني “موقفًا” يجب أن يؤخذ بالحسبان حين نقيّم البشر؟ نعم، تعطيل التفكير بأهم قضايا الإنسان موقف، ورفض عبادة الله موقف، ومن خلال تلك المواقف الكبرى يقيّم المسلم “الأشخاص” (المقصود: “كيانهم الاختياري” الذي هو: “الأفكار” و“الأعمال”)، بمدى ارتباط هذا الكيان بالحقيقة الكبرى (الإسلام) وانبثاقه عنها، ومدى موافقته لمقتضياتها، وهذا هو محكّ القضية.

          قضية “الإسلام موقف” ستجعلنا نحمل معيارا دقيقا لقياس الكثير من المسائل التي تعرض لنا في حياتنا، منها ما يتعلق بالانتماء والهوية، ومنها ما يتعلق بموقفنا من الأشخاص وتقييمنا لهم.

          حين يقول المسلم الجاهل بدينه: “إن جيفارا رجل صاحب مواقف بطولية رائعة، بغض النظر عن دينه!” أيكون قد فهم أن الإسلام موقف، وأن الكفر موقف، والشيوعية موقف، وأنّ مدح مواقف معيّنة لرجل كافر فيه تزيين لأعمال لا تحمل أدنى شروط الشرعية في الإسلام! فلا يرضاها الله لأنها لم تكن خالصة لوجهه ولا مبنية على أساس اعتقادي صحيح، ولم تكن موافقة للكتاب والسنة، فهذان هما شرطا قبول العمل؛ أن يكون خالصا صوابا، وإذا افتقد العمل الإخلاص لله وحده فلن يُقبل حتى لو كان صحيحا على الكتاب والسنة، فكيف نصف أعمال رجل كافر ملحد لا يؤمن بآيات الله بأنها إيجابية أو نشيد بها ونمدح الرجل بسببها؟!

          يقول تعالى في سورة الكهف: “قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا” (الكهف: 103 – 105).

          ويقول: “وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ” (الأعراف: 147).

          ويقول: “وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا” (الفرقان: 23).

          ويقول في سورة الزمر: “وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ” (الزمر: 65).

          أيكون هذا المسلم قد فهم أنه يُثني على مواقف كفر وضلال؟! حبطتْ عند الله وجُعلتْ هباء منثورا! فضلا عن إغفاله لذكر “أبطال” مسلمين معاصرين ينبغي أن يعتزّ بهم، ويثني على مواقفهم في جهاد الباطل ورفع راية الحق بدلا من الثناء على ” تشي جيفارا”!

          وحين يقول المسلم الجاهل بدينه: “إن النصارى المسالمين لنا هم إخواننا في الوطن، وإننا وإياهم سواء، ولا فرق بيننا، فهم أهل كتاب، ونحن مسلمون”! هل يكون هذا المسلم قد فهم أن “الإسلام موقف”؟ وأن النصراني هذا مرتكب لجريمة كبرى حين عطّل التفكير للوصول إلى الحق في أهم قضية في الوجود (عبادة الله) أو تنكّر للحق وجحده ورفض اتباعه.. أيكون المسلم قد أدرك ذلك؟! أم إنه لا يدرك أن معاملة النصراني هذا بالحسنى ومشاركته في بعض القضايا لا تعني المساواة بينه وبين المسلم العابد لله، ولا تعني وحدة الهوية والانتماء معه! فبيان حقيقة النظرة إليه من قبل المسلمين شيء ضروريّ حتّى يُدركَ عظم الجريمة التي يرتكبها في رفض طاعة الله والإسلام له! وإلا كنّا – برضانا عنه ومساواته مع المسلم – صادّين عن سبيل الله، فما الذي سيدفعه – من قبل المسلم – إلى البحث عن الحق والإقبال عليه ما دام المسلمون يعتبرونه مثلهم تماما؟! وحتى لا يُفهم الكلام أنه دعوة إلى العنف مع النصارى أو إلى منابذتهم وشتمهم وتعنيفهم أورد كلاما لي كنتُ قد كتبتُه في مقال سابق دفعا لشبهة “الطائفية” التي يهوى العلمانيون قذف الآخر بها!:

          “وأما الآخرون الذي رفضوا عبادة الله عن طريق المنهج الذي ارتضاه لكل البشر (الإسلام)، فالمسلم يتعامل معهم بأخلاق دينه الحنيف، فيشعر بالرحمة تجاههم اقتداءً بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم: “وما أرسلناكَ إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء: 107). ويعاملهم بالبر والعدل طالما كانوا مسالمين ولم يكيدوا له ويحاربوه في عرضه ودينه: “لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة:  8). هذا بالنسبة للتعامل، أما بالنسبة للانتماء فهم قد رفضوا الانتماء إلى الله بعبادته وحده، لأنهم رفضوا اتباع منهجه للحياة، فالمسلم أمام حقيقة موضوعية تتمثّل في رفض هؤلاء الانتماء إلى ما ينتمي إليه فكيف ينتمي إليهم؟! إنهم في حسّه مرتكبون لجريمة كبرى، وأية جريمة أكبر من التنكّب عن طاعة الله عزّ وجل الخالق الكريم المنعم المتفضّل على البشر بنعمة الخلق والإيجاد والرعاية؟! “وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون” (الأنعام: 124).  إنها الغاية العظمى للبشر في تلك الحياة، أي إنها أخطر قضية في الوجود وأهم قضية! وكما تُقيَّم الجريمة في عرف القانون بحسب خطرها وعظم أمرها، فإن الجريمة الكبرى التي يمكن أن يرتكبها بشر على الإطلاق هي رفض طاعة الله والاستكبار عن اتباع رسله، وهي المسماة في الشرع: “الكفر”. والنظرة الموضوعية لمدلول كلمة “الكفر”، هذه النظرة المتجاوزة لمجرد الفزع من وقع جَرْسها كفيلةٌ بتصور قضية الكفر دون إنشاء الخوف والاضطراب والتوجّس في النفس. فاعتباري غير المسلم “كافرًا” لا يعني أنني سأشتمه أو أعنّفه أو أسيء إليه! إنما هو موقف “شعوري” أتّخِذه (ومن حقّي) – كمسلم عابد لله عزّ وجل – تجاه من استكبر عن عبادة الله ورفض اتباع رسوله، باعتبار أن ذلك هو غاية وجوده الإنساني! وأما التعامل فكما بيّنتُ يكون بالأخلاق الإسلامية، وبالبر والقسط، وبشعور الرحمة تجاه جميع البشر! والمسلم بعد ذلك يدعو هؤلاء إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، يدعوهم إلى الانتماء إلى الله عن طريق عبادته وحده دون شريك من الأهواء أو الأصنام أو المعتقدات الفاسدة، يدعوهم بشعور الرحمة والإشفاق من تبديد هذا الكيان الإنساني الكريم – وهو قادر “مخيّر” في أن يكون كريمًا مرتفعًا – إلى عبادة الله وحده بالمنهج الذي ارتضاه للبشر.. بهذا الشعور النبيل يتوجه المسلم إلى غير المسلمين، بحيوية وإشراق، وبشعور الرحمة والعطف، ولسان حاله يقول: “إنتماؤكَ إلى الله ارتفاعٌ إليه”! فأيّة رفعة وأيّ سموق وأيّة كرامة تلك التي يمتلكها المسلم بين جنبيه ويريد للبشرية – بشعور الشفقة والعطف – أن تمتلكها هي أيضًا!”. (حول الهوية الإسلامية؛ من سلسلة: أن تكون مسلما في أيامنا، بتصرّف).

          العلمانيون اللّبراليّون اليومَ يريدون تحريفَ هذه القضيّة، بدعوى “عدم الأدلجة” حينا (من كلمة “أيديولوجية”)، وبدعوى “نسبية الحقائق” حينا آخر. فأما رغبتهم في تحييد “الأيديولوجية” فهي تكمن في أن النقاش الموضوعي محسوم فيها لصالح الإسلام، لأنه المبدأ الوحيد المنزّه عن الخطأ، والذي ترشد إليه كل الحقائق الفطرية والكونية صارخة بأحقّيّته! وأما قولهم بنسبية الحقائق فهو راجع لرغبتهم في إخفاء الأرضية الثابتة من “المشترك الإنساني”، لتكون الأمور كلها “مائعة” بعد ذلك، لا يمكن الجزم بصحّتها كما لا يمكن الجزم ببطلانها! فتضيع الطاسة بضياع “المشترك الإنساني” الذي يشكّلُ بديهياتٍ وأدواتٍ تتفق عليها العقول السليمة (بغضّ النظر عن دين أصحابها) تصلحُ أن تكون أرضية خصبة للنقاش الموضوعي الموصل إلى الحق.. بيدَ أنهم لا يريدون هذا الحق! “يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون * هوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” (الصف: 8 – 9).

      ولو كره العلمانيون.. ولو كره العلمانيون.. ولو كره العلمانيون!