فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      كشف الحساب .. في فاتورة الثورةِ المصرية

      (1)

      الظاهر أنّ كشفَ الحساب في فاتورة الثورة المصرية يطول ولا يقصر، وهو ما يصيب المرءُ بالإحباط وخيبة الأمل. فبعد كلّ هذه الإجراءات التي تمت، لا تكاد تشعر بتلك السعادة التي كنت تتوقعها، وكان قلبك يتوق اليها. بل ولم تشعر بذلك الأمان الذي يفترضُ أن يصحب إنتزاع جذور الفساد، ورموز الفتنة، وحبسهم. ويتساءل المرء: ماذا إذن؟ ما الذي يجعل الفاتورة غير مدفوعة بالكامل، بل تجد الحساب يثقل مع الأيام، مما دفع شباب الثورة لتكوين حكومة ظلّ، اظنها خطوة على الطريق، لكنها ليست حلاً لمشكلة الفاتورة!

      يجب أن يفرّق المصريون، كل المصريين، بين شكلين من أشكال تحصيل اية مطالب شعبية ثورية، الطريقة الأولى هي أن تُنفّذ هذه المطالب بشكل تلقائي يتناغم مع اصحاب الثورة بطريقة سلسة دون سؤالٍ عنها أو تسولٍ لها. والثانية أن تنفذ هذه المطالب بشقِ الأنفس، طلباً طلباً، وغرضاً غرضاً، بعد مهاتراتٍ ومظاهرات، ونداءاتٍ وترجّيّات، وهمساتٍ وصراخات، عملية ميلاد كاملة لكل حدثٍ وكلّ طلبٍ وكل غرض!

      الطريقة الأولي تكون فيها الثورة مالكةً أمرَ نفسها، فاعلةً لأغراضها، منفذةً لإرادتها، مُمْلية لطلباتها، فعلى سبيل المثال، يكون رئيس الوزراء هو إختيارها لا طلبها، والفارق شاسعٌ شاسع، حتى لو كانت نفس الشخصية المعينة هي هي. ويكون نائب الرئيس مثل ذلك، والوزراء مثل ذلك، وتتسلسَل الهيكلية بهذه الثقة في الداء والأمانة في الوفاء.

      والطريقة الثانية تكون فيها الثورة تابعةَ خاضعةً سواءاً لحزب حاكمٍ، أو حكم عسكريّ، يؤدى تنازلاتٍ محسوبة لهذه الثورة، مع الإحتفاظ بالحد الأعلى، مما يمكن تلبيته، بيده لا بيد الثائرين. والحكم العسكريّ، مهما قدّم من تنازلاتٍ، فسيظل حكماً عسكرياً، كلمته نافذة إن وصل الأمر إلى ما ليس في صالح القائمين عليه، ويظل عسكرياً في مجهته وطريقة ممارسته، كما راينا من عجرفة هذا االجنرال شاهين، الذي هو شخص من الشخوص المصرية لا أكثر ولا اقل، قد يجد نفسه في طرة يوما من الآيام، وهو بالضبط ما يجعل الحكم العسكريّ حماية للقائمين عليه امثر مما هو حماية للشعب، الذي لا يحتاج حماية من الجيش إلا على الحدود مع العدو، لا في مجال تحديد قواعد الدستور، وتعيين الوزراء والمحافظين.

      الفاتورة الثورية لا تزال طويلة مُثقلة بما يجب سداده، وعلى رأس ذلك أن يعود الجَيش إلى ثكناته، وأن يعمل على تأمين حدودنا، والبحث في طرق تحسين وتطوير وَسائلنا التي أهملها لعقودٍ ثلاثة، يجب أن يحاسب عليها من أقرّ ذلك الإهمال طوال تلك السنوات.

      الشعب قادرٌ على تسيير أموره، وتحديد أولوياته، وواعٍ بما يحاكُ في الظلام، من جهاتٍ عديدة لإحباط ثورته، وهو لا يحتاج إلى عسكريين يفرضون عليه آراء وخطوات هو اعلم بها، من خلال عقول أبنائه من دستوريين وقضاة ومحامين وإعلاميين وصحافيين ومهنيين وكتاب، مخلصين لا عملاء، وهو أقدرُ أن يختار لنفسه بنفسه، وإلا فلا فرق بين أن يختار له مبارك وعائلته، أو أن يختار له الحاكم العسكريّ ونجومه! وها نحن نرى حكومة ضعيفة لا تأخذ اوامرها من المجلس العسكري، كما في واقعة تعيين المحافظين من لواءات الجيش! بل ولا يتمكن وزير داخليتها من تحديد مهلة زمنية محددة للشرطة، التي لا يزال أفرادها يتقاضون رواتبهم وهم في بيوتهم، ثماما كالبلطجية، فإن عادت وإلا صدرت قرارات الفصل، وتعيين آلافٍ ممن لا عمل لهم. لكن ضعف هذه الحكومة يأتي من حقيقة أنها معينة ممن لا يملك القرار الحقيقيّ، فهي جسدٌ بلا روح، أو روح بلا عزيمة.

      (2)

      أخشى ان طَعم حَبس مبارك وابنائه ليس بالحلاوة في النفس والقلب، كما لو قام بأمرِ مَجلس ثورة مَدنيّ يُمثل الشعب، لا مجلس عسكريّ تلكأ فيه شهور عدداً. بل هل يا ترى يمكن أن يقال ان حسنى مبارك قيد الحبس؟ لا والله، فما هذا حبساً لرجل فعل ما فعل ثلاثين عاماً، ختمها بقتل المتظاهرين، وإعطاء أوامر للجيش بضربهم، بإعتراف الجيش نفسه! فما هو الأمر إذن؟ وكيف يسْتعصى مبارك على الحبس؟ وما هذه التمحّكات الباردة عن صحته؟ ومتى كانت صحة قاتلٍ عاملاً في حبسه؟ هل رفض مبارك الرحيل من الشرم؟ وهل يُعقل أن يكون رجلاً رهن الحبس في جرائم قتلٍ، ومعه زوجه وابنتا ولديه؟ وما هذا الهراء عن عدم القدرة على توفير الأمن لنقله؟ وإن عجز الأمن المصري كله عن تأمين نقل رجلٍ، فكيف سيحاكمه إذن؟ وهل مبارك موجود بالفعل في المستشفى؟ وهل ابناه في السجن؟ اين الصور التي تثبت ذلك؟ أيظنُ المَجلس العَسكريّ أن الشعب بهذه السَذاجة والبلاهة؟ أيكون مبارك مُمسِكاً بزلة أو زلاتٍ على هذا المَجلس، فهم لا يستطيعون حِيالَه أمراً؟

      ثم ما معنى أنّ حَركة تغيير المحافظين أتت بلواءات من الجيش؟ بل ولواءات من أمن الدولة ومن رموز العهد السابق/ من أمثال محسن حفظى! أين الحكم المدنيّ المُرتقب إذا؟ وهل عقُمت مصر عن أن نجد بها مسؤولين إلا هذه الطُغمة من الفسدة نديرهم من منصبٍ إلى آخر، مُحتالين بذلك على الشعب "الثائر"؟

      كذلك قلْ في حلّ المجالس المحلية التي لا يزال يسيطر عليها أعضاء الفساد الوطنيّ، والذى لا يزال في محلّه ينتظر موعد الإنتخابات، ليعيث فيها فساداً، والذى لا ندرى هل سيحتاج حلّها إلى مليونية قادمة؟!

      الحكم العسكريّ أسوا انواع الحكم، وأشده ضرراً على الأمم، وهو ما لا يجب أن تخضع له مصر بعد ثورتها، إن كان ما حدث ثورة على وجه الحقيقة. والمطلوب من قيادات الجيش أن تخضع لإرادة الشعب، وأن لا تحرمه ثمرة عمله، وتميت أحلامه وتهدر آماله، ببقائها في مقعد القيادة، فقد تركه لها الشعب مؤثراً الثقة، ومقدماً لحسن الظن، ومعولاً على ما بقي من ضمائر هذه القيادات، لا عن غفلةٍ أو ضَعفٍ أو تفريط.

      والمسألة الأكبر في حالتنا هذه هي ماذا ستكون عليه قوة الرئيس المنتخب؟ هل سيعملُ تحت قبضة ومِجهر الحكم العسكريّ، إن شاء أسقطه وإن شاء تركه؟ هل سيكون من القوة، بدعم الشعب، لإنتخاب وزير دفاعٍ غير الطنطاوى، وإحالة هؤلاء القابعين على قيادة مصر الآن إلى المعاش؟ هل سيكون من قدرة الرئيس والبرلمان أن يناقش إقتصاديات الجيش التي هي من حقوق الشعب وداخل حدود رقابته؟ أم أن الجهاز العسكريّ سيظل خطاً أحمر خارج عن لعبة الديموقراطية وسلطة الشعب وممثليه؟ بإختصار، هل يكون الآمر الناهي هو الشعب ام الجيش؟

      الإجابة واضحة، والجواب يُقرأ من عنوانه. المُستقبل يشير إلى حكم شبه ديموقراطيّ، محكومٍ بالجهاز العسكريّ، لايتفلّتُ منه، والسبب أن الثورة تحولت، على غفلةٍ منها إلى إنقلابٍ عسكريّ حَاكم، لا يمكن أن يجعل النظام البائد يرحل بكل أشكاله. ولم يدرك المصريون هذا إلا بعد أن تمّ الإنقلاب، لقلة خبرتهم في أمور الثورات ونظم الحكم. والأمر الذي يجب أن تعيه كلّ الأطراف المعنية هو ان الدولة التي فيها رأس، مدنيٌّ أو عسكريٌّ، لا يقبل النقد، لا محلٍ فيها لحرية ولا لديموقراطية ، بلا خلاف.

      هذا هو التحدى الأكبر أمام الشعب المصريّ الآن، هو أن تكون الثورة حقيقية، لا مجرد خطواتٍ صورية تُرضى قطاعاتٍ، ولا ترسى مبادئ. الأمر ليس أمر حبس مبارك، ولا حلّ الحزب الوطنيّ. الأمر هو: من سَيحُكم مصر؟ وهو سؤال سيأتي جوابه عاجلا، فإن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر طويلاً، والثورة إما إلى بقاء، وإما إلى حيث نطلب لها الرحمة

      وعما قليلٍ ينتهى الأمرُ كُلُه     فما أولٌ إلا ويتلوه آخرُ