فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      بين ثورة مصر .. وثورة النَفس!

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      بعث لي أخ حبيب، من جيل أبنائي،  يعبّر عن قلقه لما عبـّر عنه، بنصه، "تغير نبرة كتاباتك الفترة القليلة الماضية عما عهدناه منك ، حتى إنني كنت استغرب كثيرا لاختيارك لعناوين لاذعة وعبارات أشد". وقد شكرت لأخي هذه الملاحظة القيّمة، فإنه من النادر أن تجد أخاً يصْدُقكَ، ويَدلك على ما يراه عيباً أو تجاوزاً بصفاءٍ وعتب، دون شَماتة وشغب.

      والحق مع الأخ الحبيب، انني قد حَملتُ حملاً شديداً على ما رأيت، ومن رأيت، أنه يجانب الصواب ويحيد عن الحق في الآونة الأخيرة خاصّة، وما أرى ذلك إلا نتيجة أمورٍ عدة تشابكت لترسم لي خُطة حديثى ونبرتِه. وأول هذه الأمور إنما تُلام عليه الثورة المصرية، إن صَحّ في أمرِنا هذا لومٌ ! إذ إن روحَ الثورة حين تسرى، فإنما تسرى في الناس فرادى وجماعات، لا يتجزأ أثرها، ولا يحدّها زمانٌ ولا مكان. فلا يمكنك أن ترى الرجل ثائراً صاخباً منفعلاً في ميدان التحرير، ثمّ إذا هو هادئ مطمئنٌ رفيقٌ ساعة مغادرته الميدان، أو مُخلدا إلى قلمه! هذا ليس من طبائع البشر، المُخلصين في ثورتهم.

      كذلك، فإن الثورة قد تعدّت حَاجز المَكان لتشملنا بروحها وتدخلنا في جوّها على بعد آلاف الأميال من مكانها! ويشهد الله ما كنت أنام إلا لماماً، ساعة من ليلٍ لأتابع لحظة بلحظةٍ ما يحدث على الأرض في مصرنا الحبيبة، ولا زلت بشأن ليبيا الحبيبة، واليمن الحبيب، وفلسطيننا الحبيبة، وأرض الإسلام كلها. ولولا ما أمُرّ به حالياً من حالٍ بشأن ولدى وترتيب أموره في معتقله، والذي تزامن مع أحداث الثورة في يناير، ما توانيتُ لحظة في العودة لمصر، أشارك الثوار ثورتهم، رغم علمىَ المؤكد بمدى شوق أمن الدولة آنذاك إلى لقائي، والذي أفصحوا عنه مراراً بطرقٍ متعددة! مصر التي ما غادرتها إلا مرغماً، وقت كان من "المشايخ"، ممن إحتددّت في الردّ عليهم، من لم تنبت له لحية بعد.

      ثم بُعدٌ آخر، وهو الخوفُ العميقُ والإشفاق المُلحُ على نَجاح هذه الثورةِ وبلوغِها مُرادَها، مما يَجعلُ المَرء في غاية الحَساسية تِجاه أي أمرٍ أو شخص أو دعوة أو فكرةٍ يظهر منها تهديدُ هذه الثورة أو التلاعُب بمصيرها. هذا الخوف لاشك يجعل المرء مستعداً للهجوم بأكثر من مجرد المناقشة الفكرية التي لا تصلح إلا عند إنفساح الوقت للجدل والموعظة، ثم الإكتفاء بالحوقلة. الوقت التي تعيشه الثورة، منذ قيامها وحتى الآن، هو وضعٌ في غاية الحساسية، من حيث أن القوى التي تعمل على إحباطها ليست فقط هي قوى النظام السابق والثورة المضَادة، بل هي كذلك قوى أساسية تُظهر المُوافقة وتُبطن المُخالفة، أو قوى غافلة ذاهلةٌ عن حقيقة الأمر كله لا تعرف عن كلمتىّ العدل والحرية إلا حروفهما الهجائية! من هنا كان واجبِ الباحثِ الرفيق أن يشتدّ في قولِه وردِّه على قول غيره، حتى لا يدع مجالاً للتردد في التفكير والتميّع في العمل. ومخالطة الرفق بالأمور كلها حقٌ ثابتٌ، وإنما الأمر في كمْ من رفقٍ يراد في مواضع الأذى والضرر، وفي مواضع البدع والتمويه. فإعتبروا يا أولى الألباب، ولا تقللوا من شأن الحِّدة والشّدة في مواضعهما.

      ثمّ بعدٌ ثالثٌ، وهو خطورة التصرّفات التي شاركنا العديد من البَاحثين والعَامة أنها تُشكّك في جديّة المجلس العسكريّ في تنفيذ قرارات الثورة، وكان من اللازم أن يكون التحذير قوياً، ونقل هذه الشكوك واضحٌ لا مداراة فيه ولا مواراة. ومن أخطر هذه التصرفات المريبة، ما رأينا من تضارب مواقف الإخوان، وكمثالٍ حين شاركوا في حوار عمر سليمان! كذلك خطورة التثبيط، بل والتجريم، للعمل الثورىّ، الذي يأتي من أفرادٍ محسوبين على الإسلام ودعوته تحت اسم السّلفية، وهو ما يُفقـد الثورة عدداً من الشباب السَاذج المغرّر به بإسم الدين والسلف، فوالله ما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بإطالة اللحى وتقصير الأثواب، بل بُعث صلى الله عليه وسلم بالعدل والحق والحرية، ومقاومة الظلم وإسقاط الطواغيت، أساساً وأصَالة. ونسبة هذه الدّعوات إلى السّلف يجعلها أكثر خطورة، خاصة وهى تتلاعب بالنصوص وتضرِبها بقواعد الشَريعة وثوابتها، كما قيل عن أنّ الدعوة لعدم القيام في وجه الطاغية كانت حِرصاً على حقن الدماءّ! ووالله ما أدرى هل هذا ردٌ من سلفيين أم من ممثلى مبارك؟ فماذا إذن عن الدماء التي أريقت طوال ثلاثين عاماً، والتي لو ما أزيل مباركٌ ونظامه لأريقت أضعافها في الشهور الثلاثين القادمة!؟ سبحان الله العظيم!

      على كلّ حالٍ، فالشدة البحتة لها أوقاتها واغراضها، واللين البحت له أوقاته وأغراضه، والخلط في استعمال أيهما في وقت الآخر وأغراضه ينشؤ اضطراباً وسوء فهم لا يخدم قضية، وقد عرفنا لأبي بكر مواقفه في حاليّ الشدة واللين، وعرفنا لعمر مواقفه في حاليّ الشدة واللين، وكلاهما على حقٍ في كلتا الحالين.

      اللهم إغفر لما إن كنا قد أسأنا، وتقبل منا إن كنا قد أحسنا، إنك وحدَك وليُّ التوفيق.