فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الإخوان .. وفتوى رئاسَة الجُمهورية للقبطيّ

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      خرجت الإخوان المسلمون مؤخّراً بتصريحٍ على لسانِ مُرشدها، يتعارَضُ، كالعَادة، مع ما استقرّ في الفقه الإسلاميّ قديماً وحديثاً، وما قررته أحداث التاريخ الإسلاميّ على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان، وهو أن رئاسة دولة مسلمة لا يجوز أن يوكَلُ إلى غير المُسلمٍ، ذِميّ أو غير ذِميّ. لكن، ودعونا نتفق على هذا القدر، متى كانت مقررات الفقه وأصوله وقواعده، أو روايات التاريخ ودلالاته، عائقاً أمام التصريحات الإفتائية التجديدية الإخوانية ؟

      ومن المهم هنا أن نقرّر أن رئاسة الجمهورية، كوظيفة يُسنِدها الشعب إلى واحدٍ من أفراده، يمكن النّظر اليها على أنها وظيفة مدنية في دولةٍ لا دينية، تتقرّر شروطها تبعاً لمكونات الأمة دون مراعاةٍ لدينها أو مصادر تلقيها، وهو ما ينسجم مع تصوّر أنّ مصر دولة علمانية، وأن الشريعة فيها معطّلة. كما يمكن أن يُنظر اليها على أنها بديلٌ لمنصِبِ الخليفة، اوالإمامة العظمى المُعطّلة، في دولةٍ مسلمة، وحينئذ فإنّ البديل يجب أن تتوفرُ فيه شُروط الأصيل كاملة. ولا يحتاج القول بأنّ هذا المَنصب لا يجوز أن يتولاه إلا مسلم. والتصوّر الأول يتناقضُ مع كافة الإجتهادات الإخوانية التي يظهر أنها كلها تنبثق من تصور أن مصر دولة إسلامية، وأن نظامَها إسلاميّ لا يحتاج إلا إلى بعض الإصلاحات الطفيفة هنا وهناك، بغضّ النظر عن قضية الفساد، التي ليست مما نحن فيه من شروط الإمامة.

      إذن، لا ندرى على أي فقه إستند الإخوان في فتواهم هذه؟ فإننا إذا عدنا إلى المُصادر التي يمكن أن نستقى منها ما ينيرُ الطريق بهذا الصدد، وجدنا منها على سبيل المثال "الأحكام السلطانية" للماوردى، حيث يقرّر أنّ "داعيَ الوقت" قد يكون له أثرٌ في تمييز مرشحٍ على مرشح، قال: "ولو كان أحدهم اعلمُ والآخر اشجع، روعي في الإختيار ما يوجبه حكم الوقت، فإن كانت داعية الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى، لإنتشار الثغور وظهور البغاة، كان الشجاع أحق، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء وظهور أهل البدع، كان الأعلم أحق" الأحكام السلطانية تحقيق د.أحمد مبارك البغدادي ص48، لكن داعي الوقت هذا لم يذهب ابداً إلى جواز تعيين ذميّ نصرانيّ، إذ إن في هذا مصادمةٌ صريحة للنصوص الجزئية، والقواعد الكلية، ومقاصد الشريعة التي تملى ضرورة حفظ الدين، ولا نعلم كيف يمكن حفظ الدين مع وجود غير مسلمٍ على رأس الدولة!

      ثم إذا نظَرنا فيما قال المَاوردى بصَددِ إدارة الدولة، نجده قد صَرّح بما يجوز فيه إقامَة ذِميّ في ولايةٍ وما لا يجوز، فقسّم الولايات إلى ولاية تفويضٍ، وهي التي تعنى تفويض من رأسِ الدولة المُسلمة لمن يكون ممثلاً له، وأقرب الصور لها الآن، هي نائب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، ووزارة تنفيذ، هي التي تعنى مناصب الوزراء والمحافظين. وقد بيّن الماورديّ أنّ منصبَ ولاية التفويض يجبُ أن يقوم به من يتمتعَ بنفس شروط المُفَوِض، الإمام، عدا النَسب القرشيّ. فلا يصحّ، في نظر الماوردى، أن تُفوَض إلى ذميِ بلا خلاف. ثم وزارة التنفيذ، وقال: "فحُكمها أضعف وشروطها اقل" السابق 74. ثم قال الماوردى أن هذه الوزارة قد يصلح لها الذميّ، ولا يصلح الذميّ لوزارة التفويض (السابق 36). وقد علق المُحقق د. محمد المبارك البغدادي بأن هذا االرأي يناقض ثوابت الشريعة، وأنه لا يليق بإمام الشافعية أن يقع فيه، كما بيّن ما ذكر الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس الأردنيّ من أدلة سقوط هذا الرأي في ثمانية عشرة صفحة من كتابه "القاضي أبو يعلى وكتابة الأحكام السلطانية".

      وما نسْتشِفه من التدقيق في كلام الماوردى، أنه بعد سرد سبعة شروط  لوزير التنفيذ، ميّز بين درجتينٍ لهذه الوزارة، إحداها ما يُحتاجُ فيه إلى الرأي، فأضاف له شَرطاً ثامناً وهو "الحِنكة والتجربة"، وهو ما يمكن أن يكون في باب الوزارات السّيادية كما نُطلق عليها اليوم (السابق 36)، وما لا يحتاج إلى الرأي وهو ما إكتفى فيه بالشروطِ السَبعة، ويمكن أن يكون في الوِزارات الخَدَمِية مثل الزِراعة والصِحّة وغيرها. فما نراه أنّ الماوردىّ قد قصَدَ أن الذِميّ يمكن أن يتولّى وزارة تنفيذٍ خدمية، وليست سيادية، وهو ما رأيناه في كثير من المهام التي تولاها ذِمّيون في عصرِ الخلفاء العباسيين، من دواوين وخزائن وغيرها، دون إعتراضٍ من الفقهاء آنذاك، ولم يغلظ عليهم إلا الخليفة المتوكل. بينما تقتصر الوزارات التنفيذية السيادية غير الخَدمية، ولا يجوز فيها تولى الذميّ، تماماً كوزارة التفويض، أو بتعبير آخر، رئاسة الجمهورية أو رئاسة الوزراء. وهذا النظر يجمع بين نظر الماورديّ وغيره ممن صَرّح بغلطِه فيما ذهب اليه.

      ثم لا ننسى أنّ الأقليات في كافة الدول الديموقراطية العلمانية لا تعطى هذا الحَقّ، حَق رئاسَة الجمهورية، لأحدٍ من منتسبى هذه الأقليات، بل تنحصِر فيمن ينتسب إلى دين الغالبية، كما في أمريكا وإنجلترا، فإن هذا يعتبر شاناً يمسّ الخاصِّية العليا في حياة الأمم، ألا وهي دينها، وهو ذاته دين غالبيتها.

      المُشكلة هي أنّ قرارات الإخوان تخرُج إلى الناسِ في شَكلِ تَصريحاتٍ صَحفية، لا فتاوى مَشفوعة بأدلة شَرعية. وهو ما تعوّدناه من الإخوان. وهذا لا يصحُ في أمورٍ بهذا الحَجم من الأهمية، وفي هذا الوقت الحسّاس من حياة الأمّة المُسلمة.