فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      يا شعب مصر ..كلّ ثورةٍ وأنتم بخير !

      لعلّ أحداث اليوم، "يوم الفضيحة"، الذي أصدر فيه مجلس العسكر، المتحكّم في رقاب العالمين، بيانه المُخزى الذي كَشف فيه عن وجهه القبيح، وأوضح ولاءه التام للنظام البائد، وصرّح بأن رأي الشعب لا اهمية له، وأنه على ترقبٍ، إن إختار الشعب من لا يرضى، فسينزل إلى الشارع لينقُضَ حُكم الشعب، ويعيّن من يراه كفئاً لإستمرار الخِيانة والإستبداد. وأكمل النائب العام العَميل ما قاله العَسكر بأن صَرّح بأنه "ليست هناك تهمة محدّدة لمبارك"! ووالله لا أدرى ما اقول إلا "يا شعب مصر ..كلّ ثورة وأنتم بخير"!

      لكن ما سبب هذا الذي حدث، ويحدث، في ثورة مصر؟ حين ينظر الباحِثُ إلى خَصائص الثورات، والعلاقة بين أبعادها الثلاث، أسباب الثورة وجهد التغيير والنتائج الإصلاحية، يجد أنّ هناك علاقة طَردية بين الجَهد الثورىّ، اي الجَهد الذي يبذله الثوار، بما في ذلك دمِ الشُهداء المَبذول، من أجل الإصلاح، وبين كمّ الإصْلاح الثورىّ الناتج، الناشئ عن هذا الجَهد. لكن هذه العِلاقة، وإن كانت طَردية، إلا إنها ليست مُتساوية الحدّين، بسطاً ومقاماً، بل هي معاملٌ يزيد وينقص إعتماداً على عوامل عدة. فكثير الجهد يوّلد إصلاحاً، لكن لا يلزم ان يكون مناسباً للجهد المبذول. هذه هي العلاقة التي رَسَمتها السُنن الكونية، والتي رأيناها تتحقق في كافة الثورات والإنتفاضات على مرّ التاريخ، وعلى إمتداد الأرض، لا يُستثنى منها الثورة المصرية الأخيرة.

      وكلما طالت مدة الفساد، وخَبُثَ فاعِليه، كلما أصبح مُعامل الإصلاح أكبر، وإحتاج الإصْلاح إلى جهد أكبر كثيرأ ممّا لو قصُرت مدة الفسَاد أو تحدّدت مواضِعه.

      وهذا النظر يفسّر ما تمرّ به سِلسلة الثورات العربية في أيامنا هذه، وما تتعرض له من تراجُعات في المَكاسب وسرقات للجهد الثورى. ويذكر المتابع أن الثورةَ المصرية قد أخرَجت مبارك إلى شرم الشيخ في 18 يوماً، وعلقت بعض وكالات الأنباء أننا انجزنا في 18 يوماً ما أنجزه أهل تونس في 28 يوماً! لكن، في حقيقة الأمر أنّ ذلك كان من علامات ضعف الثورة، ليس قوتها، إذ إن الجهد الكبذول لم يرق إلى التخلص لا من النظام ولا من مبارك، الذي يقبع حالياً في إجازة مفتوحة على حسابالدولة يمارس فيها مهامه الرئاسية، كأن شيئاً لم يكن، وبراءة الأطفال في عينيه!

      الأمر ليس أمر سباق فيمن يخرج رئيسه من القصر اسرع، بل هو فيمن يضمن أنّ هذا الخروج بلا عودة أولا، وأنه اصطحب معه كل قمامته التي تراكمت على مر الزمن في كافة أركان الحياة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والعسكرية، وهو إن لم يحدث، اصبحت الثورة صَخباً في الشوارع، وإطلاقاً لطاقة مخزونة، كـأنها تمرين رياضيّ نفسيّ. وهو ما نخشى أن ثورة مصر تسير في طريقه مسرعة الخُطى.

      قيادة الثورات، عادة، هي التي تتولى قيادة الأمة بعد الثورة، وترسم لها خطاها، وتحفظها من السرقة والإحباط. لكن، كما نعلم، خرجت هذه الثورة بلا قيادة، لضعف وإنحدار المُعارضة إلى درجة مقززة، ولسياسة "انتظر ثم تحرك" التي تتبعها الإخوان. وكان من نتيجة هذا أن تسلم الجيش القيادة، وهو الخطأ الأكبر الذي وقعت فيه هذه الثورة، نظراً لقلة خبرة شبابها، وغياب أي قيادات لها دور حقيقيّ في الساحة السياسية. وهو ما لا يُلام عليه أحدٌ، بل هو وضعٌ مخطّطٌ له من قِبَل عِصابة مبارك، حتى لا تكون هناك معارضة حقيقية قادرةٌ على تسلم الأمور في يومٍ من الأيام. وكانت النتيجة أنّ سُلِمت السلطة إلى العَسكر "سلّموا القط مفتاح الكرار"!

      وقد كتبتُ من قبل أن الثورة المصرية "بيضاءٌ" أكثر مما يجب. وهو ما لا يقلّل من دور شهدائنا الأبرار، تقبلهم الله في رحمته، لكن المعامل الثورىّ أمرٌ كونيّ لا يجامل أحداً ولا يمكن تخطيه، كائناً من كان. والقوى السَرطانية التي تعشّش في كافة أنحاء الجسد المصريّ أكبر وأعمق وأخبثَ مما يتصورُ المصريون الشرفاء. وهي ضاربةٌ حتى النخاع في أولئك الذين تسلموا القيادة، من صنائع عصر مبارك.

      أخشى أنّ إزالة حكم مبارك لن يحدث إلا بإزالة قيادة العسكر، وتولّي قيادات شابة للجيش، وهو لن يحدث إلا بإحد طريقين، أن يحدث إنقلاب عسكريّ داخل الجيش، وهو الحلّ الأقل دموية، أو أن يواجه الشعب الجيشّ، ويسقط من يسقط من الشهداء، لتكتمل المَسيرة، وهو الطريق الأكقر دموية.

      أمّا أن يُترَك الأمر على ما هو عليه، وتستمر مَسرحية "دوران عجلة الإنتاج"، فهو ما سَيجعل هذه الثورة أضحوكة الثورات، وتذهب دِماء الشُهداء هدْراً لا قدّر الله. وماذا إذا توقّف "دوران عَجلة الإنتاج" شهوراً اخرى، ألم يوقفها نِظام مُبارك مدة ثلاثة عقود؟ ألم يسلب ما أنتجته هذه "العجلة" هو وصنائعه على مدى ثلاثين عاماً؟ وكما يقول المصريون في هذه الأحوال "بِجِمْلِت"!