فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الخُصومَة الفِكرية .. بين النَقـد والتشْهيـر

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      أرسل لي أخٌ حبيبٌ، إثر نشر مقالي عن محمد عمارة يوم أمس، ما معناه أنه رغم أنه لا يعارِضُ في موضوع المَقال، إلا إنه يريدُ أن يعرف سبب "هجومي" على عمارة، وتساءَل هل يجب أن نذكر مواطن ضَعفِ "المُفكرين الإسلاميّين"، أم إنه يجب أن نتغاضى عن زلاّتهم، كما ورد في بعض الأثر؟

      وأحبُ أن أنبّه إلى ما في هذا التسَاؤل من عُمقٍ، يوجب الحِرص في الجواب، والتنبه للفروق والأشباه التي تعرِضُ على بعض المُصْطلحات فتخلِطها خَلطاً وتُخل بمعانيها خللاً.

      فإن أنشَانا في الجواب، وجدنا أن أولَ ما يجدر الإشارة اليه هو الفرقُ بين النقدِ والتشهير. فالنقد، هو ذكر ما في فِكرة من الأفكار، أو مَنهجٍ من المَناهج، من تَحيّفٍ على الحَق، وبُعدٍ عن الصِدق، دون المِساس بشخصِ صَاحبها، بل وذكر ما استحق الذكر من سيرته، وتحسين ما حَسُن منها. أما التشهير فهو لا يرتبط بفكرة أو يقصد إلى معالجة منهج، إذ هو نابعٌ عادة عن نفسٍ كارهةٍ متشفيةٍ، ترغب في الإعتداء، وتَسْعَدُ بالعداء، فتعالجُ إلتواءاً بإلتواء، وتسْتبدل البيانَ بالهجاء. وهذا ليس من طَبع من أراد الحقّ ودعا لصوابٍ من الأمر.

      الناقد المُنصِف، إذن، لا يتعرّضُ لناحية شَخصية في موضوع بحثه، كلونٍ أو أصلٍ أو طائفةٍ أو فقرٍ أو غنى. لكنّ أصولَ النشأةِ الفكريةِ وتطوّر المنهج النظرىّ  ليس من قبيل تلك الأمور الشخصية، إذ هما من مكونات الشخصية مدار البحث. ولابد لباحثٍ في فكر كاتبٍ أو مفكرٍ، أن يتعرض لهذا البعد وإلا أجْحَف وتطرّف، ولم يُصب حقاً ولم يتفادى باطلاً.

      ثمّ، حين يكون موضوع النظر مَطروحاً طرحاً عاماً، وحين تكون الشَخصية المقصودة عامة مُشتهرة بين الناس، يُستمع لها ويقبل رأيها، وتحمِل شهاداتٍ وتتلقى جوائز وتكريمات، فإنّ بيانِ ما في عملها من خطأٍ، وما في آرائها من شذوذ، واجب لا يتقاعس عنه إلا جاهلٌ منافق، أو موالٍ موافق.

      ثم، وهو الأهمُ والأولى بالإعتبار، أن الأمرَ حين يرتبط بدينٍ ويمسّ عقيدة، تصبح الضرورة أشدّ والإقدام أولى، فالقول في العقيدة أو في مصادر التلقى في العقيدة والشريعه ليس من قبيل الرأي الذي يحتمل الخِلاف كما يحتمله الفقه. فعلى سبيل المثال، يعتبر الرافضة أن قول الإئمة مصدرٍ من مصادرِ العقيدة، وهو ما يرفضه أهلُ السّنة كبدعةٍ من البِدع. كذلك حين يُعرض باحثٌ أو فقيه عن إعتبار الحديث الصحيح الثابت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويعتبره خاضعٌ للأخذ والردٌ، والقبول والرفض، حَسب ما يتهيؤ له من سَبحاتِ عقله أو توهماتِ فكره، فلا كرامة إذن، ويُصبح كشفَ هذا الأمر فرضٌ على القادر عليه، لا يصحُ الإخلال به.

      والتغاضى عن زلات أهل الفضل لا يعدو معناه ما ذكرنا، إذ إن التغاضى عن زلات العلماء لا تعنى عدم إيضاحها وبيانها، إن كانت قد نشرت على الملأ بالفعل، بل يعنى، كما بيّنا، عدم إسقاط العالم أو التشهير به، بل معرفة موطن خطئه وموضع خطله والتعريف به على ذات مستوى النشر الذي نشر به هذا الخطأ، فإن كان في مَسجدٍ، ذُكر أمر هذا في المسجد، وإن كان في وسيلة إعلام، بيّن في وسيلة إعلام، إلا أنْ يتراجَع عنها.

      ثم، كما ذكرتُ من قبل، أن النقد لا يعنى إسقاط موضُوعِه بالمرّة، بل يعنى ان يجب التحرّز في تناول ما يعرضه الباحث أو الكاتب خاصّة حين يكون البحث متعلقاً بنقاط النقد، وهو المبدأ الذي اسسه علماء الحديث من إنه يُقبل رواية بعض أهل الأهواء إن لم يتعلّق النَقل بموضوع بدعته، إلا إن كان من الرواقض لأنهم يكذبون. ولنا مثلً في هذا فعل أئمة أهل السنة والجماعة، كلهم بلا خِلاف، في تصدّيهم لفكر المعتزلة الذين تأثّر به محمد عمارة، ومن قبله محمد عبده وغيره ممّن نحا نَحوَهم في ردّ أحاديث صحيحة بدعوى مناقضةِ العَقل.

      ولعل الله سُبحانه أن يرينا الحَق حقّا ويرزقنا إتباعه، ويرنا البَاطل باطلاً ويرْزقنا إجتنابه، فهذان هما ركنيّ البصر الصائب والفكر المستقيم.