فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      محمد عمارة .. الأصول الفكرية والإسلامية

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      شاهدت بالإمس برنامجاً تسجيلياًعلى قناة الجزيرة، خُصِّصَ لعرض تاريخيّ للدكتور محمد عمارة، عَرَض فيه حَياته وتطوّره الفِكريّ، بمُشاركة اثنين من زملائه في الإتجاه الفكريّ، محمد الغنوشيّ وفهمى هويدي.

      وقد أخرجنى هذا البرنامج من الدّوامة السياسية التي نعيشها ليلاً ونهاراً فأرهقتنا من أمرنا عسراً، بين أحداث تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والمغرب، ويعلم الله من بعد، بعد ان أصبحت ماؤنا وغذاءنا بين ترقب تقدم ثوار ليبيا، وتتبع مبادرات على صالح التي تبدو بلا نهاية، وتطور الثورة في مصر بين تواطؤ العَسكر ومؤامرات العِلمانيين اللادينيين.

      الغرضُ أنّ ما لفَتَ نظرى هو أن عمارة قد بدأ رحلتَه الفكرية يَسارياً يؤمن بالفكر المَاركسيّ، كما قال عن نفسه، وفضى سنواتٍ من عمره يؤمن بهذا الإتجاه، الذي تبناه لّما ظنّ أنه يضمنُ العدالة الإجتماعية والليبرالية. ثم تحوّل عِمارة إلى الإتجاه الإسلاميّ من نفس الزاوية الإجتماعية الليبرالية، التي ظهر نَفَسُها في عديد من كتاباته، والتي إشتركت مع دراسته التخصّصية في الفلسفة الإسلامية، وتتلمُذه الفِكري على مُحمد عبده ومدرسته "الإصلاحية"، وقبل ذلك قلة التوفيق في هذا الصدد، على بُعدِه عن المَنهجِ السَلفيّ السُنيّ، وعن منهج أهل السنة والجماعة، وقربه من مدرسة الإعتزال والتأويل، ورفض الأحاديث الصحيحة التي لا تُناسِبُ "عقله" ولا "فهمه"، والذي هو عين التقديم بين يديّ الله ورسوله.

      هذا الأمر، أمر إنطلاق الفكر من زاوية خاطئة، كاليسارية، وإن حاول المفكرُ تعديلها وتقويمها، يترُكُ على مَنهج المُفكّر بصمةً يصعُب التخلّص منها، والتحرّر من آثارها كليةً. ويحضُرنا في هذا الصَدّد ما قاله السَلف، بلغتهم المتخصّصة، عن أثر البدعة إن تسرّبت إلى العقل، واستقرت في الفكر، كيف يصعب، بل قد يستحيل إخراجها بالكلية من مكامِنها، وطردها من مَخَابئِها، مما جعلهم يتوارون من أصْحاب الأقوال والأهواء، وينحازون عن تجمّعات جدالهم، بل ويضعون أصابعهم في آذانهم خوفاً من تسرّب كلماتٍ هؤلاء إلى عقولهم، فلا تخرج منها أبدا. وقد ورد ذلك عن كثيرٍ من السلف، كما جاء في الإبانة لابن بطة عن ابن طاووس أنه كان جالسا فجاءَ رجلٌ من المُعتزلة فجعل يتكلم ، فأدخل ابن طاوس إصبعيه في أُذنيه ، وقال لابنه : أي بني، أدخل إصبعيك في أذنيك واشدد ، ولا تسمع من كلامه شيئا.  والسبب ليس خوف الجدلِ، بل خوف الشيطان أن يزيّن قولاً مريضاً، فيُصَادف قلباً ضَعيفاً، فيسكُنه غيرَ مفارقٍ. فما بالك بمن بدأ يسارياً، ثم تخصّص، لا في الحديث أو في العقيدة أو في الأصول، بل في الفلسفة "الإسلامية"، إن سلّمنا أنّ في الإسلام فلسفة! ولا يخفى تأثير الفلسفة على طالب علمٍ يتتلمَذُ على أفكار محمد عبده، ويتخذ محمد الغزاليّ – الذي شاب نقاءُ منهاجِه ردّ الأحاديث بالعقل - مثلاً أعلى.

      ونحن لا نقصد أن لا يقرأ مسلماً ما يكتبه خُصوم الإسلام من ترهاتٍ، ليحصّن نفسه ضدها، لكن هذا لا يكون إلا بشروط، منها التمَكّن من العلم الشرعيّ أولاً، ثم أن يكون الهدفُ هو على أمور محددة، وان يكون من أهل الإختصاص، لا من عامة الناس أو مُبتدئ طلبة العلم الشرعيّ. والأهم في تلك الشروط أن يكون ذلك الدرس تخت إشراف شيخٍ عالمٍ بما في هذه المعارف من بلايا، يفطّن اليها طالب العلم، ويحرس عقله من التهاوى في مزالقها.

      ونرى أنّ عمارة لم يكن مُوفقاً في بدايته، ولا مَهدياً في نهايته. لكن، مرة أخرى، هذا لا يعنى أن كلّ ما كتبه عمارة مردودٌ مرفوض، بل يعنى أن كلّ ما كتب عمارة يجب أن يُقرإ بحذرٍ وتأنٍ، وان يكون نصب عين القارئ الخلفية التي يصدر منها الكاتب، ليستفيد من الصحيح، ويرد المعطوب.