فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      'كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ'

      الحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      في خِضَمّ الأحداث التي يمر بها بنى آدم، تنزِع النفس، عَادة وطَبعاً، إلى أن تنسى أولويّاتها، وتضيّع منها مَعالم طريقها، وإذا هي تنجرّ وراء ما يعرِض لها، كُلما عَرض عارضٌ، إذا به على رأس قائمة مُهماتها، وإذا به يسْتحوذ على الفِكر والجَسد، وإذا به يلقى وراءه ظهرياً ما هو أهمُ وأولى. ثم تدور الدورة، ويعرِض جديد، يأخذ مكان سابقه، ويستمر الحال بإبن آدم، ينتقل من عَارضٍ إلى عَارضٍ، ما دامت فيه أنفاس باقية.

      والعَارض، لم يُسَم عارضَاً إلا لما فيه من معنى  التحوّل والزَوال، فإن قدّمه الإنسان على ثوابتِ حَياته ومُستقراتِ فِكره، ضَلّ الطريق وإتبع السُبل، فتتفرق به وتتشتت وتتشعب، وتلقى به الأحداث في مهب ريح العشوائية، ولم يعود يميز ثَابتاً من مُتغير ووقعَ تحت مَضمون قول الله تعالى "إن سَعَيكم لشتّى".

      فالأولي بالمُسلم إذن أن يتأمل معنى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن "كل مُيسرٌ لما خُلق له" الصحيحان، وأن يَعملَ بمقتضى هذا الحديث الشريف. ولنلقي نظرة أقرَب على هذا الحَديث الجَامع.

      أما ما يُسِّرَ لنا، فقد يُسّرَالله سبحانه لنا هذا الدين، بأن جعل كل التكاليف سَهلة المَأخذ، مَيسورة التطبيق، وهو ما يجرى في الواجِبات الشَرعية المضروبة على كلّ مسلمٍ بلا إستثناءٍ، كالصلاة، التي هي كبيرةٌ على المنافقين، يسيرةٌ على المؤمنين، وغيرها أيسر وأقل كَلفة بدنية أومادية. بل إنّ هذا اليُسر هو سِمةٌ من سِمات هذا الدين الحَقّ، عقيدة وشَريعةن قال تعالى :"ما جعل عليكم في الدين من حرج"، وقال "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر". ةإن سأل سائلٌ: ففيم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذن "إن هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق"، قلنا هذا فينا يختص بباب المندوبات والتطوعات، وإلزام النفس بما لا يلزمها إيجاباً في الشرع. وهو ما يجب على المرء الإحتراز منه، فإن الله سبحانه حدّ حدّا للتكاليف، بما هو أليق بالطاقة البشرية العادية، وتجاوز ذلك لا يأتي إلا بالرّفق والتمرّس، وهو سَاحة السبق ومدار التقدم بين العاملين.

      أما ما يُسِّرْنا له، اي ما رُكّبْكنا عليه إبتداءاً كأفرادٍ مُستقلين، لكلٍ خصائصه وقدراته التي لا يشاركه فيها أحدٌ، وهو ما يحسن المرء عمله طبعاً وتمرساً. فمن الناس من مُيّز بدقة الملاحظة وقدرة التَحليل والتركيب، ومنهم من رُزق حافظة قوية لا يفوتها صَغير أو كبير، ومنهم من أّعطيَ طلاقة في اللسان وقوة في التعبير والتأثير، ومنهم من هُيأ بدنياً للصدام، ومنهم من ملكّ قدرة على الجَدل والكلام، ثمّ منهم من كان وسطاً في هذا كلّه دون إمتيازٍ أو تخْصيص.

       فمن إبتلاء الله سُبحانه لعباده أن يسعوا حثيثاً لمعرفة ما يُسّروا له، فإنه واجب على آحادهم أن يَعرف كلّ منا مناط القوة وموطن القدرة في نفسه، إذ هو عَطاءٌ من الله سبحانه يجبُ حَمد جميله بالعَمل به، ولا يصح تجاهله والإعراض عنه، كَسَلاً أو ضَعفاً أو تخادعاً. فآحاد الخلق، من ثمّ، مفروض عليهم البحث عن مواطِن قوتهم، وعدم الإعراض عما وهبهم الله به وحباهم اياه، وتقديم زكاته، بالسعي لنصرة دينه بكل ما أعطيَ من فَضلٍ في خصوصية تفوقه.

      من الناس من يُسِّرَت له الخَطابة، فتجده مفوّهاً يهز المنابر هزاً، وتسعى كلماته إلى قلوب الناس سَعياً، ومنهم من يُسٍّرت له الكتابة، فتجده لا يدعَ قلمَه في نهاية بحثٍ حتى يعاود إلتقاطه ببداية مقالٍ، ومنهم من يُسِّرت له الدعوة فتراه يسير بين الناس متحدثاً وشارحاً ومنافحاً، ومنهم من أجاد التلاوة، يُعلّمها للناس يحبّبهم في القرآن .. وهكذا.

      ولا يخلطنّ أحدنا سعيه في تحصيل العيش والقوت، بما خُصّ به في مَجال من مجالات التفوّق الإنسانيّ، الذي يخدم به الدائرة الأوسع من أفراد عائلته وولده، فإن هذا مَخصوصٌ بمن ذكرنا ممن كان وسطاً في هذا كلّه دون إمتيازٍ أو تخْصيص، وإنما حديثنا في البحث الحثيث عن مواطن القوة ومرافئ القدرة التي خُبأت في نفسه، والتي قد تظلّ كامنة مستترة إلى أن يُجلّيها المرء لنفسه، إذ هي الكنز الذي خبأه الله له، إن شاء استخرجه وإن شاء تركه.

      ورحم الله الطغرائي القائل

      قد رشحوك لأمرٍ لو فطنت له    فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ

      والحمد لله الذي يَسَّر لنا هذا الدين، ويَسْرنا للعمل على خدمته.