فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      المُسلمون والعمل السياسيّ .. البيضةُ أم الدَجاجة؟

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      بغض النظر عن المشهدِ السياسيّ الحاليّ في مصر، الذي أقل ما يُقال فيه أنه مُزرٍ ومُحبطٌ، بعد أن سَيطر الجيش على مَقاليد الحُكم من وراء الستار، وأخذ في تهيئة السَاحة لترسيخ أسس النظام الفاسد، بل، حتى رموزه الشهيرة، وبعد أن ثبطت عزائم المصريين وخمدت جذوة الثورة في نفوسهم، بل وبدأ الإعلان عن تفكيك إئتلافات الشباب بالفعل، وكأن الثورة قد حَققت مُنجزاتها! نقول بغض النظر عن هذا المشهد، فإن الإتجاهات، التي تتخذُ الإسلام كمرجعية وحيدة لتحزّباتها، تواجه إشكال ذو حدين، حدّ شرعيّ وآخر حركيّ. يتمثل هذا الإشكال في الطريق الذي سَتتخذه هذه الإتجاهات في مسار التغيير القادم، مهما كان حجمه، سواءاً بتبنى الحَلّ "الديموقراطي" في ظلّ الظروف التي أوجدتها الثورة على الأرض، أو بالبُعد عن الحَقل السِياسيّ والإكتفاء بالعَملِ الدّعوى بين الناس. وهذه الإشكالية يمكن أن نختصِرها في الإجابة على السؤال التالي: هل يَجب شرعاً وعقلاً، أن يشترك المسلمون في العمل السياسيّ القائم بغرض دعم إقامة دولة إسلامية كغرض نهائيّ لهذا الإشتراك؟ أم يعمل المسلمون في الدعوة، بعيداً عن العَمل السياسيّ حتى تُقام الدولة الإسلامية أولاً، وحينها فقط يُشرع العَمل السياسيّ؟

      وبكلمات أخر: هل يصحُ العَمل السياسيّ لإيجاد الدولة، أم يجب إيجاد الدولة أولاً للعمل السِياسيّ؟ وبكلماتٍ اكثر إختصاراً: ماذا يأتي أولاً،  العمل السياسيّ أم العمل الدعوىّ؟

      وهذه الإتجاهات ذات التوجّهات السّياسية، تَتمثل، بشَكلٍ عَامٍ، في "الإخوان المسلمون" و"السّلفيون"، و"أهل السنةِ والجَماعة" الذين ليس لهم تكتلٌ مَعروفٌ، أو قياداتٌ معترفٌ بها، وإن كانت لهم قوةٌ في الشَارع لا تُنكر.

      وإذا أردنا الإجمال أولاً، فإننا نرى أن إتجاهين من الثلاثة قد حافظا على التوَجّه العَام التاريخيّ لهما، وهما إتجاهيّ الإخوان وأهل السنة والجماعة، إذ ظل الإخوان على نظرتهم في ضَرورة العَمل السّياسيّ، تحت أي ظرفٍ أو ظلٍ، وتجريد هذه المسألة برمتها من بعدها العقائديّ، وحَصرها في بُعدٍ عَمليّ يخضع لباب المَصَالح المُرْسلة. كذلك، بقيَ المُنتمون لمنهج "أهل السنة والجماعة" مُخلصين لمنهجهم في إعتبار القضية قضية عقدية بحتة، بغض النظر عن الواقع ومُلابَساته. وإنفرد السّلفيون بتبديل مواقفهم الأسَاسية من رَفضٍ كاملٍ للعمل السِياسيّ على إنه قضية عقدية بحته، إلى الموافقة على العَمل السِياسيّ بشكلٍ كاملٍ، على أن القضية باتت من قضَايا المَصالح والمَفاسد. وكلّ هذه الإتّجاهات، تواجه إشكالاًتٍ في طرق تحقيق المَطلَب المُشترك بينها، وهو إقامةُ دولةٍ ذاتِ مَرجِعية إسْلامية كَاملة.

      ففي الإتجاه الإخوانيّ، لاشكّ أن إشكاليته تكمُن في إستبعاد البُعد العقديّ من عملية الإشتراك في العمل السياسيّ يُعدّ تجاوزاً واضِحاً، وإن تَمَشّى مع الإتجاه الإرجائيّ العَام للجَماعة، بل وقد تأكد عَدم صَلاحيته بذلك الفَشَل المُتوالى في تَحقيق أي تقدّمٍ في سَبيل الهَدف المُشترَك على مدى عقود، وإن حَقق البُعد الدَعوى لهم الكثير من الأتباع، وكان مُثمراً أكثر من العَمل السِياسيّ غير المُثمر. ولعل للحركة الآن، في ظلّ الوضع شبه المتحرّر، أن تقوّى إتجاهَها في تبنّى العَمل السِياسيّ أولاً، دَفعاً بأنّه أكثر إيجابيةً وإثماراً الآن، وأنه يلزَمُ غَيرهم بيانَ البديل. كذلك يمكنهم الدفع بأنّ حِسابات المَصَالح والمَفاسِد لاتزالُ عَملية إجتهاديةٌ شَرعِية بَحتة تَخضَعُ لحُكم الله سبحانه. فهؤلاء يقولون بإختصلرٍ أنه حيث ثمّة شرع فيجب إعتبار الواقع، إذ لا شرع بلا واقعٍ ومناطٍ يُلحق به.

      أما إتجاه أهل السنة والجماعة، فإنه يواجه إشكالاً، رغم وضوح رؤيته العقدية، وهو ترجمتها إلى واقع عمليّ، إذ يقول المُعارض أنه لا يكفى تقريرٌ نظرىّ  بحتً، ثم الإنسحاب من العمل العام تماماً، وترك الساحة خالية لكفار العلمانيين والقبط يعيثون في القوانين والمجتمع فساداً. كما يقول المعارض أنّ هناك وصلةٌ مفقودةٌ في تسلسل الرؤية المستقبلية لدى أصحاب هذا الإتجاه، وهو رؤيتهم في كيفية التحول من الحركة الدعوية إلى التغيير الواقعيّ على الأرض، هل عن طريق إستعمال القوة والتمرد المُسلح وقتها؟ أم إنه ليَسَ معروفاً الآن كيفية هذا التحوّل من الدعوة إلى الحركة، ، أم إنها متروكة للظروف وقتها. ويدفع "أهل السنة والجماعة" بأننا مأمورون بالدعوة حتى يهيؤ الله مخرجاً قد لا نعلمه الآن، وهناك طريقٌ هو مليونياتٍ مسلمة بهدف إيجاد الدولة المسلمة، ولكنّ "العَبد في التفكيرِ والرَب في التدبير" كما يقال. وبإختصارٍ، فهؤلاء يقولون أن هناك قواعد كلية لها مناظاتٍ ثابتة في الشريعة لا تخضع لنظرٍ ناظرٍ أو إجتهاد مجتهدٍ ليُعاد النظر فيها.

      أما السلفيون، (وأوَجّه النظر إلى أننا نتحدّث هنا عن فِرقة مُحدّدة من السَلفيين الذين اعلنوا عن تكوين جبهة وحِزبٍ سياسيّ، إذ أهل السّنة والجَماعة أكثر سَلفية، بل والمدخلية العُملاء يُطلقون السّلفية على أنفسهم)، فقد تردّدوا بين المذهبين وتأرْجَحوا بين الإتجاهين، ولرُبما كان هذا دليلٌ على عدمِ تبنى رأيهم اولاً لخلفيةٍ شرعيةٍ مدروسةٍ، ولا ثانياً على رؤيَة واقعيةٍ مَحسُومةٍ.وليس هذا رأي رأيناه على أساس رفضِ أيّ من المذهبين، بل هي مُلاحظة تمليها مُعطَيات التردّد بين موقفينِ مختلفينِ تمامَ الإختلاف دون تقديم حيثياتٍ عقدِية وواقعية تُملي هذا التردّد، وهو ما يمثل الإشْكالية الكبرى في موقف هؤلاء السّلفيين. ويُمكن لهؤلاء أن يدفَعوا بأنّ هذا يدُلُّ على مُرونة سَبَق أن طَالبهم بها كافّة الإتجاهات الأخرىت إلا أن مفهوم المرونة ليس بالضرورة له محلٌّ في التحليلات الشرعية.

      هذه، بشكلٍ مختصرٍ، الإشكاليات المَطْروحَة على الساحة الدعوية اليوم. تحديات عقديةٌ وواقعية كبرى، تبحث لحلها عن عقولٍ فاحصةٍ وأنظارٍ مُمَحّصَة، تجلّى كلّ جَوانبها، بدون تَحيّز أوليّ أو مواقِفَ مُسَبّقة.