فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مقاصدُ الشَريعة .. والتَجديد السُنيّ المُعاصِر - 3

      قد نوّهنا في المقال السابق إلى ضرورة الفصل بين ما هو من مقاصد الشرع، وما هو من حِسابات المصالح والمفاسد، ومن ثمّ بين ما هو المقاصد العامة والكليات الشرعية التي تثبت بجزئياتٍ متناثرة في الشريعة، تستلهمها من الأحكام الشرعية الثابتة، وبين حسابات المصالح والمفاسد التي تتخذ مجالها اساساً في تلك الحوادث التي ليس فيها حُكمٌ شرعيّ خَاصٌ، وإن امكن إدراجها تحتَ قاعِدة كليةٍ أو مقصدٍ شَرعي عامٍ ثابتٍ، وهي ما أطلق عليها العلماء "المصالح المرسلة".

      ومقاصد الشريعة العاَمة يندرج تحتها كلّ الكليات والقواعد العامة، في مدارها الأعلى، ثم كافة الأحكام الشرعية فيما هو أدنى من ذلك في مراتب النظر. كما لا تتناقض هذه المَقاصِد مع ايّ من الأحَكام الشَرعية. فمثلا مقصد حِفظ النفس يُعضّده أكل الخنزير وشرب الخمر في الضرورة، فالحفاظ على مقصد الشرع اعلى درجة من الحِفاظ على منطوقات الأحكام الشرعية. لا يقال أن حُكم شرب الخمر وأكل الخنزير هو كذلك حُكم شرعيّ، لأننا نتحدث عمّا وراء الأحكام ذاتها، ثم إن من قال هذا فهو ظاهريّ لا حديث لنا معه. وهذه المقاصد يجب حفظها، بأن نأتي بكل ما يحققها، وأن نُبطلُ كلّ ما يمنعها، وليس في الشريعة ما يُضاد مثل هذه المَقاصد باي شكلٍ من الأشكال. 

      فكما اسلفنا في مَثلِ الحُرية عامّة، وحرية التعبير كشكل خاصٍ منها، الحُرية أمر يندرجُ تحت مقصِدىّ حفظِ الدين والنفس، حفظِ الدين بحرية الدعوة إيجاباً، وحفظ النفس برفع الظلم سلباً، لا يشُك في هذا عَالمٌ، إذ دلّت عليه كافة ما ورد في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أتي له كافة الناس يسألونه ويخاطِبونه بما يرضى وما لا يرضى، فلم ينهى احدٌ قطّ، وقوله صلى الله عليه وسلم "خير الشُهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجلٌ قامَ إلى رجلٍ فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك" أخرجه الحاكم من حديث جابر وقال صحيح الإسناد، وهذا يدلّ على عِظم قدر الحرية، وحق التعبير والدفاع عنها ولو بالموت دونها، وهو أوضَحَ من ان ندلّل عليه. ولتحقيق هذا المَقصد، يجب على المُجتمع المُسلم عامة، ويندب للفرد خاصة، ان يشارك في كل عملٍ من شأنه أن يأتي بالحرية، ويمنع الكبتَ والظلم.  

      فإذا نظَرنا إلى الإستفتاء، وهو شكلٌ من اشكال التعبير، وليس هو حق التعبير أو حقيقة الحرية ذاتها، إذ هو آلية من الآليات التي إنْ أدّت إلى تحقيقِ القّصدِ الشَرعيّ، كانت مقبولة، وإن أدت إلى عدمِه بطُلت. هذا دون حساب لمصالح أو مفاسد.

      ويجب هنا أن نتحّدث عن قضِيةِ "التحاكم إلى شرع الله"، التي هي الحُكمُ العَام والقضيّة الكُلية التي تدخُل تحتها كلّ مَقاصِد الشَرع لحفظِ الضَرورات الخَمس، ومصادرِ القواعدِ الكليّة بلا إستثناء. لكن هذا الأساس الركين ليسَ إلا الصُورة الكُلية لتحقيق كلّ هذه المَقاصِد عن طريق كافة الأحْكام الشَرعية. وهذا الأساس هو ما يجب الحفاظ عليه، وهو لا يكون إلا بالحفاظ على كافة ما يحقّقه يقيناً أو ظناً غالباً، وبإبطال ما يُخِلُ به يقيناً أو ظَناً غَالباً. فلا يجب الإخلال بما يدعم هذا المَقصدِ الأعلى سَلباً أو إيجاباً. ومن هنا لا يجب أن يُنظر الى قضية التحاكم على أنها في مستوى الأحكام الشرعية، أو تطبيقاتها ومناطاتها، ولا يجب أن يُقال أنّ حُكماً شرعيا او مَناطاً يتعارض معها، إن كان في حقيقة الأمر يدخل تحت مقصدٍ من مقاصد الشريعة العامة وأحكامها الكلية، مع التحرّز بكونها تحققه يقينا أو ظناً غالباً.

      وآلية الإستفتاءات، بحد ذاتها يمكن أن تندرج تحت باب المَصلحة المُرسلة، شَكلاً لا موضوعاً، إذ موضوعها هو "التعبير" عن حقيقة قائمة بالفعل، تخدِم قصدَ الشَارعِ الذي اثبتناه آنفا، سواءاً بإيصال رأيٍ أو إبدائه اصلاً. فهي كآلية لا غبار عليها، فإن أدت إلى إرهاب عدو الله وعدونا، وإظهار هويّة الشعب الإسلامية،  فهي محقّقةٌ لقصد الشارع، معينةٌ على تحقيق الحُكمُ العَام والقضيّة الكُلية التي تدخُل تحتها كلّ مَقاصِد الشَرع، وهي قضِيةِ "التحاكم إلى شرع الله"، ومن هنا لا يصح شرعاً أن يُنظر اليها على أنها معارضة لشكل الإستفتاء الذي أثبتنا صحته شرعاً.

      وإذا نظرنا إلى الإستفتاء المِصريّ الأخير كمثالٍ على ما ذَكرنا، نرى أنك

      • الإستفتاء كان على موادٍ مُحددة تتعلق بمدة الرئاسة وطريقة الإنتخاب (من قال أنّ الرئيس لا يُقال مدى الحياة كالخليفة، نقول هو خلاف فقهي غير معتبرٍ فيما نحن فيه) ولم يكن فيه أمرٌ يتعلق بتطبيق الشريعة كمبدأ عام.
      • العدو العِلماني كان متربّصاً، ليكون رفض هذه التعديلات مَدخلاً لرفع قضية الشريعة إبتداءاً من دستور البلاد، فبينما نحن نريد أن نرفع سقف الستور لتصبِح الشَريعة هي المصدر الوحيد للقوانين، إذا بنا، بنظرٍ قاصرٍ، نعود إلى دستورٍ لا يعترف بالشريعة إبتداءاً، ويكون عملنا قد عارض وخالف مقصد الشرع، من حيث يحسب من قال بذلك أنه يُحققه.
      • النزاهة في الإجراءات كانت مضمونة لكل من له عينان وعقل، فإنتفت شبهة التلاعب بالشريعة التي شابت إجتهاد الإخوان في خوض الإنتخابات في ظل الوضعِ البائد، وهو الخسارة حتى بحساب المصالح والمفاسد.
      • أن خوضَ الإنتخابات في ظلِ دستورٍ عِلماني لا يقر بالشريعة حرامٌ لا يجادل فيه أحدٌ، لكن الإستفتاء ليس كالترشيح للمجالس النيابية، الذي إعتبرته الإخوان من باب حِساب المصالح والفاسد، خطأً منهم وقلة إلمام بالشَريعة.
      • أنّ هذا الإستفتاء بيّن ما سبق أن نبّهنا اليه في مَقالات سَابقة، من أنه يجب على من يمارسَ الدعوة أن يعامل الشعب على أنه شعبٌ مسلمٌ، وهو ما ظهر في هذا الإستفتاء، إذ كان أستفتاءاً على هوية هذه الأمة

      فأن يشاع أن الإستفتاء السَالف الذكر هو شِركٌ لا يجب الدخول فيه، هو قول يدلّ على سَطحية في النظر نخشى على قائليها ومروجيها من التطرّف المُردى، وإتباع النظر القاصر، والسَير وراء مظهر التشدّد الذي عادة ما يناسبُ الروح الشبابية. ونوجّه الشَباب إلى دراسة كتاب العلامة الإمام الطاهر بن عاشور "مَقاصد الشَريعة الإسلامية"، فهو عظيمٌ في هذا الباب.

      ثم عودة إلى ما نراه من مَلامحِ التجديد السُنيّ فيما يأتي إن شاء الله تعالى.