فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الزيارةُ الأخيرة .. في مُعتقلِ الحَجز

      اليوم .. قمت بالزيارة الأسبوعية الأخيرة لإبني الأكبر، شريف، في مقرِ إحتجازِه بمسيساجا، منذ ما يقربُ من خَمسِ سَنواتٍ، قبل أن يُنقلَ إلى مُعتقل كوبيك بعد صدور الحكم،على مَبعدة خُمسمائة كيلومتراً من محل إقامتى، والذي سيقضى فيه ما شَاء الله له أن يَقضى.

      للمرة الثانية والثمانين بعد الأربعمائة، تركتُ سيارتي أمام الباب الزَجاجي، ودَخلتُ إلى سَاحة الإنتظار، وسَحبت رقماً، لأنتظر دوري في تسجيل الإسم وطلب المقابلة. جلستُ بعدّها بين أوجُه غريبة عليّ، لا أنتمى لها ولا ينتمى ابني لها. يالله، ما الذي حدث؟ وكيف انتهى بنا الأمر إلى هذا الجوّ الغَريب عنا ثقافة وأخلاقاً؟ نفس التساؤلات تمرّ في ذهنى مُحيّرة، مؤلمَة، لا تجد إجابة بعد كلّ هذه المرات، إلا التسليم لقضاء الله سبحانه.

      ثم، بعد النَظر في أوجُه عَابثة كالحَة، ومروراً بأبواب حَديدية، ومَوانِع أمنية، وتفتيش، ثم أبواب حَديدية مرّات أخرى، حتى أصل إلى غرفة صغيرة، ذات زجاج مخصوص، أنتظر أن يأتي الحراس بإبني، في لِباسه البرتقاليّ. ويالله، ما أشدّها من لَحظاتٍ حين أراه يَظهر أمامي بهذا الشكل، يبتسِم في وَجهي مُخفِّفاً، وأعْلم ما في نفسِه من ألمٍ راضٍ مستسلّمٍ للقضاء.

      وأجلسُ أمام ولدي، معي أخته الصغيرة التي طلب أن تزوره قبل رحيله، أتحدّث من وَراء زُجاجٍٍ مخصوصٍ، عَبر تليفون مُلصقٍ بالحائط. أتأمّل وَجهه وجَسده، أتحدث اليه، وأتسَاءل كيف ينام على هذه الأرضِية الخرَسانية، ويتحرّك في زِنزانةٍ لا تتجاوزُ أربعةَ أمتارٍ مُربّعة، يتعامَلُ مع هؤلاء الحُراس الغِلاظ ممّن لا ضمير له ولا قلب. وتمر العشرون دقيقة المُسْموح لي بها أسبوعياً، أشعر فيها مثل ما طالما شَعرتُ، أسىً مُضنىٍ، ورضاءٌ بالقضاء.

      وتأتي نقرات على التليفون تنبؤ بنهاية اللقاء، وأنظر إلى ابنى، وأعلمُ أني لن أراه قبل عدة شهور، حين يستقر به المقام في معتقله الجديد. وألملم شعث نفسى، وأسحب رجلاي خَارجاً من الغُرفة الضَيقة، وأرى الحُراس يصطحبون إبنى خارجاً إلى زنزانته، وأمرّ مرة أخرى بالأبواب الحديدية، إلى أن أصل إلى سيارتي، ألقى بجسدى على مقعدها، أتوجه إلى الله سبحانه أن يُلهم ابني الصبر والرضا، وأن يجمعنى به خارج الأسوار قبل أن يحمّ القضاء.