فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ولا يجرِمَنّكُمْ شَـنَآنُ قَـومٍ على ألاّ تَـعْدِلوا

      تحدّث إليّ بعض شباب هذا الجيل من المسلمين المتحمسين الغيورين على دينهم، المعتزّين بعروبتهم، فقال:"والله إن المسلمين لقادرون على أن يقدّموا للحضارة أكثر وأَقيَم مما يقدّمه الغربيون في كافة المجالات، بما فيها مجال التقنيـة والتكنولوجيا، وإنني قد خَبَرت الغربيين في الكثير من مواقع العمل فوجدت فيهم غباء وقلة عزم وبطئ فهم، في مقابل ما رأيته من المسلمين من أقرانهم من ذكاء وهمة ورغبة في التفوق، وقد قمت – شخصيا – بتطوير عدد من التطبيقات التي تستخدم فيها برامج الكمبيوتر في مجال "قواعد المعلومات" مما هو مفيد للمؤسسات الغربية ذاتها، كما أبديت ونظرائي من المسلمين حماسا وإقبالا على العمل لا يدانيه ما عليه زملاؤنا من الغربيين، فنحن أعلمُ منهم وأقْدرُ على استيعاب التكنولوجيا وتطويرها".

      قلت: أمّا أن المسلمين يتمتعون بالقدرة على الاستيعاب والفهم وتطوير العلم والمشاركة في معطيات الحضارة فهو أمر لا ينتطح فيه عنزان، أما مسألة الذكاء والغباء والهمّة والتكاسل فيحسن بنا أن نقف عندها لحظة نراجع فيها ما قلت. فإن أمر الذكاء يجب أن ينظر فيه من وجهتين مختلفتين، فهناك ذكاء فرديّ وهناك ذكاء جماعيّ أي ذكاء على مستوى الفرد وآخر على مستوى الجماعة. أمّا على مستوى الفرد فالذكاء، إن جرّدته من محتواه من القَدْر العلميّ المصاحب له، هو عطية من الله تتفاوت في قدرها بين إنسان وآخر حسب ما قسم الله سبحانه له، ولا علاقة لهذا بجنس أو لون أو ديانة. فهناك شرقيّ ذكي نشيط ذو همة وهناك غربي ذكي نشيط ذو همة، والعكس صحيح، ودعوى أن المسلمين أو العرب أو ما شئت من الأجناس أكثر عددا فيمن يتصف بالذكاء الفطريّ أمر خارج عن قدرة أحد أن يثبته إلاّ أن يُخْضِعَ كافة أفراد النوع أو الجنس للتدقيق الإحصائي، وهو ما لا سبيل إليه بحال. ثم يأتي دور المحتوى العلمي الذي يعبّر عن الذكاء بطريق عمليّ، فذكاء بلا علم ذكاء لا نفع فيه، بل يفضله علم بلا ذكاء. والعلوم في عصرنا هي علوم الغرب سواء رضينا أم كرهنا، وسواء اعترفنا أم أنكرنا، والمسلمون وإن شاركوا في بناء قواعد هذا العلم على مر قرون عدّة سَلَفَت، حازوا فيها قصب السبق يوم أن كان لهم باع في هذا المجال، فإنهم، لأسباب عديدة، قد انسحبوا من حلبة السباق وتـركوها خالية أمام الغربيين. ونعود إلى مسألة الذكاء الفردي مرة أخرى، فمن التحق بركب هذا العلم ممن هُيّـأ له فرصة التعلّم من الغربيين في هذا الزمان، وكان ممن له قدر من هذا الذكاء الفرديّ فهو من السبّاقين، وهو بشكل أو آخر، ، سواء رَضي أم كَرِه، نتاج آخر من نتاج هذه الحضارة، إذ استَخْدَم فيها ما وصلت إليه من معطيات ثم طوّرها بما وهبه الله من ذكاء، وكلاهما، المعطيات والذكاء، ليس فيهما فضـل لجنسه أو لونه أو دينه، وليس لتعبير "نحن..كذا وكذا" هنا أي متعلق، والأولى أن يقال " أنا..كذا وكذا"، فالمسألة إلى هذا الحد تتعلق بقُـدرة فردية لا غير.

      ثم نأتيّ للأمر الثانيّ، وهو الذكاء الجماعيّ، إن صح التعبير، والمسلمون يحوزون على أهـدى مُوجّه وأقْـوَم سبيل إلى ذلك النوع من الذكاء الجماعيّ، وهما الكتاب والسنة، إلا أنهم، أي المسلمون، قد تركوهما وراء ظهورهم، على المستوى الجماعيّ كذلك، وصاروا يتخبطون، دون دليلٍ أو هاد،ٍفي مذاهب أرضية لا تسمن ولا تغني من جـوع، ففقدوا العلم وتخلّفوا في ركب الحضارة، وهو أمر لا ينازع فيه إلا مكابر. وما نراه من مظاهر حضارية أو استخدامات لمنتجات حضارية غربية في بلاد المسلمين اليوم إنما هو نتيجة عملية نقل للتكنولوجيا، يساهم فيها بعض من حازوا الذكاء الفرديّ، بصفتهم الفردية، في تعديلها لتتمشى مع الغرض الذي تراد له في تلك البلاد، وليس ذلك، عند العقلاء، بنتاج حضاريّ أو اختراع علميّ، وإن هو إلا استخدام لموجودات "مع التعديلات".

      ولربما يقول قائل:"ولكنك بهذا التحليل قد أنصفت الغربيين المشركين وانتصرت لهم على المسلمين"، وأقول: "العدل صفة من صفات الكمال التي اختارها الله سبحانه لتكون من أسمائه الحسنى وصفاته السنية، ومن مقتضياته أن يُنسب الفضل لأهله، وأن يُعرف لصاحبِ الحقِ حقّه وإن كان من المشركين، فالكفر ليس مانعا من أن يأتي الكافر بما هو من الحق أو الخير أو المصلحة في كثير من الأحيان، وإن كان ذلك محدودا بحدود الدنيا وأمور المعاش. وقد تعارف الناس على أنّ إنقاذَ الغريقِ خيرُ بما رُكز في فِطَرِهِم من قبل نزول الشرائع بذلك – ولا يحسبن أحد أنني ممن يقول بالتحسين و التقبيح العقليّ كما زعمت المعتزِلة‍‍ !- فالخير خير، والإسـلام يعضّده أيّا كان مصدره، والشر شر والإسلام يردّه أيّا كان مصـدره. و أول الدواء معرفـة الداء، فإن كنا سنفعل فعل النعامة التي تخفي رأسها في الرمل ظنّا منها أن ذلك يجعلها خافية على العدو إذ لا يراها العدو‍ طالما لا تراه عيناها، فقل على الإصلاح العفاء. ويكفي، إقرارا لهذه القضية، أن أنهي قولي بما رواه مسلم في صحيحه عن موسى بن علي عن أبيه قال: قال المستورِدُ القُرَشِيّ عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:تقومُ الساعةُ والرومُ أكثرُ الناس. فقال له عمرو: أبصر ما تقول، قال: أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال (عمرو): لئن قلت ذلك إن فيهم لخِصالا أربعا: إنهم لأحلمُ الناس عند فتنة وأسرعُهم إفاقةً بعد مصيبة وأوشكُهم كرّةً بعد فَرّةٍ وخيرُهم لمسكينٍ ويتيمٍ وضعيفٍ وخامسةٌ حسنةٌ جميلةٌ؛ وأمنَعهُم من ظُـلمِ الملوك" مسلم، الفتن وأشراط الساعة 5158. ولعل في هذا الحديث ما يهدي إلى أنّ من العدل بل من الحكمة لمن أراد الرقـيّ أن يعرف خُلُق الناس وأن يعترف لهم بميّزاتهم، وليس هذا من قبيل الرضـى بدينهم أو إقرارهم على معاصيهم وشركهم، وإنما هو من الحـذق والنباهة إذ معرفة الناس تمكّن من اتقاء شرّهم والاستفادة من خيرهم، وتوصيف الأوضاع بشكل صحيح يساعد على إصلاحها، وليس من العيب الاعتراف بتقدم الغير وإنما العيب أن نظن بأنفسنا الظنون وأن نعيش خيالات لا تزيد أمرنا إلا ضعفا. وأولى بنا أن نتأمّل قول عمرو بن العاص ففيه الكثير مما يجب أن نفتح أعيننا عليه، وإن عمرو، والله، لممن يستمع إلى رأيه في فهم القوم وتقدير أحوالهم.