كنت في حين صباي ومطلع شبابي أعجب لأمر أبي – رحمة الله عليه – إذ يصر إصرارا على أن يتعرّف على من أصادق من زملاء الدراسة أو من أرى من أبناء جيرتنا في الحيّ الذي نقطنه. وكان – رحمه الله – يفند من ألاقي تفنيدا، ويسألهم عن آبائهم وأسرهم وبيئتهم، ثم يرجع إليّ بالموافقة على هذا أو بالتحذير من لقاء ذاك، تحذيرا يصل في بعض الأحيان إلى الزجر والنهر، بل إلي التهديد والوعيد إن لقيت فلانا أو صادقت علاّنا! كنت أعجب من ذلك وأنظر إليه نظرة المثالية وأقول في نفسي:"ما لأبي وأصدقائي و خلاّني؟ ألست أعرف بهم منه وأقدر على الحكم لهم أو عليهم ممن لم يصاحبهم قليلا أو كثيرا ؟ أذلك شكل آخر من أشكال السلطة الأبوية ؟ وماذا عليّ إن كان منهم من تلبّس بخلق رديء أو تصرف وضيع، إنما ذنبه على نفسه، وإنما أنا أصاحبه فيما لا يضر ، وأدعه وشأنه فيما يضر." هكذا كانت تسوّل لي نفسي فيما يفعله أبي – رحمة الله عليه – حتى بلغت سن الإدراك وفقهت أحوال الدنيا وطبيعة العلاقات البشرية وكيفية تكون الشخصيات الإنسانية، فعرفت أن الأمر أعمق من ذلك وأنفذ في مسالك النفس و دروب الخُلُق والشخصية من أن يؤخذ مأخذ العفوية أو البساطة.
فان المرء في طور صباه ومبدأ شبابه يكون في أول أطوار نموه العقليّ والنفسيّ، فهو كالصفحة البيضاء لم ينقش فيها شيء، أو كالماء لم يعكّره كَدَر. في هذه الفترة الحرجة من الحياة، تتكون للمرء رؤياه للدنيا وتتبلور لديه مفاهيم الحق والباطل أو الصواب والخطأ، يعاونه فيها من يصاحبه ويقضي معه جلّ وقته. فالصديق، أو الزميل، هو اللسان الذي لا يفتأ يردد أفكارا ويكرر أقوالا إن صحت صح معها عقل الصديق وإن فسدت فسد. والأصدقاء والزملاء يقضون معا جلّ وقتهم، بل كله في بعض الأحيان، وما قولك في دويّ الليل والنهار على عقول غضة بريئة ؟ والأب لا يعلم كيف تربّـى هذا الصديق أو ذاك، ومن الناس من نبت نبتة غير صالحة واختلط بعقله ونفسه ما أفسدهما، فهو كالمرض المعديّ إن خالط سليما أمرضه، أو على أقل تقدير بلبل حاله وجعل مهمة الإصلاح عسيرة، إن كان ثمة إصلاح، قال تعالى :"بل مكر الليل والنهار"سبأ 33 ومن له مدخل إلى عقول الشبيبة ألصق من خلاّ نهم وأصحابهم الذين يخالطونهم ليلا ونهارا؟
فأثر الصديق في تكوين فكر صديقه إذن هو أثر مكين لا يكاد يعدله أثر، ومن هنا كان الصديق مرآة صديقه، فكيف يصاحب من لا دين له ديّنا؟ يأتي وقت الصلاة فيريد هذا أن يذهب للوضوء والصلاة ويتحرج ذاك من إضاعة الوقت في مثل تلك الأمور، يتحدث هذا فيما يهم أمر المسلمين وفي أحكام الشريعة وأحوال الدعاة، ويتحدث ذاك في أمور النساء والملاهي والأفلام والمخدرات، فكيف بالله عليك يلتقيان وكيف يتصادق مثل هذان؟ هو أمر ضد طبائع الأشياء أن يتخذ صالح خليلا غير صالح أو أن يزامل ديّن من خلع الربقة، والمزاملة من معنى الملازمة والصداقة من معنى الصدق فما يصدق على الصديق يصدق على صديقه. والمرء مرآة أخيه، والخليل دليل خليله، والصديق صورة صديقه، وذلك أمر مطرد ليس في أمر الدين فقط بل في أمور الدنيا كذلك، فمن شب مصادقا لمن لم يتعود القراءة شاب وهو مخاصم للكتاب، ومن خالل من تعوّد التافه من الأمور ظل عمره وهو معدود على هامش الجد لا يتعداه. فاللبيب يعرف الناس بمعرفة من يخالطون، فإن كانوا من ذوي الأحلام والدين كان خليطهم كذلك، وإن كانوا ممن ضعفت عقولهم وصغرت أحلامهم فخليلهم مثلهم، وهذا يصدق على الصغير والكبير. وصدق القائل الحكيم:
أو شاهدا يُخـبِر عن غائبِ إن كنت تبغي العلم أو أهله واعتبر الصاحبَ بالصاحبِ فاعتـبر الأرض بسكّانهـا
والآباء والأمهات مطالبون بالحرص على أبنائهم، إذ هم أولياء أمورهم، ومن الحرص عليهم متابعة من يصادقون والتعرف على من يصاحبون، داخل المدرسة وخارجها، بغاية الإصرار والحزم، خاصة في هذا الزمان الذي أصبح الاتصال بين الأولاد أو البنات، دون رقابة آبائهم، أمر ميسور باستعمال أجهزة " Pager " أو " Cell Phone ". وكثيرة هي الحوادث المؤلمة التي تقع في هذه البلاد من أبناء وبنات المسلمين، دون علم آبائهم، لخلطة السوء التي يصاحبوهم، أو يصاحبوهن، في المدارس وأماكن العمل. والشبابُ مطالب بالنظر فيمن يصطحبون ويرافقون إذ أنت على شاكلة من تصاحب، فإن أردت أن تعرف أين أنت من رفيع الشرف ودرجات الكمال فلا حاجة لك في النظر إلى أبعد من نفس صديقك وخُلُقه، فهو أنت، والحصيف من اتعظ بغيره. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم :" المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل" الترمذيّ في الزهد.
د. طارق عبد الحليم