فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      مقاصدُ الشَريعة .. والتَجديد السُنيّ المُعاصِر - 2 - د. طارق عبد الحليم

      يقصِدُ الشرع الإسلاميّ إلى الحِفاظِ على الضَرورات البشَرية الأسَاسية والتي هي الدين، النفس، العقل، المال، العرض، ومن خلال هذا الهيكل، وفي طيّاته، تندرِج كافة مَظاهر الحَياة الإنسانية التي يتناولها التشريع في دَرجاته الثلاثة، الضَرورات والحَاجيات والتحْسينيات، سَواء بالإيجاد أو بالإلغاء. وهذا القَدرُ مَعلومٌ لدارِسى الأصول بشكلٍ عام.

      ولنضرِب مثلاً بموضوعِ الإستفتاءات والتَظَاهرات السِلميّة قي ظِلّ حقِ التعبير.

      فحقُ التعبيرِ يدخل تحت بند حِفظِ الدين، كالدعوة، التي هي صُورةٌ من صُور حُرية التعبير، وهي حِفظٌ للدينِ من بابِ الإيجابِ والوجود، وهو – اي حقّ التعبير - حفظٌ للنفسِ من جِهة العدم، للدِفاعِ عن الحَقّ ورَفضِ الظُلم، إذ لا يُمكُن أن تُحفظ النفس إلا برفعِ الظَلم والقَهر. فهذا ما يجعل هذا الحق، وهذه الحرية، من أعلى مقاصِد التشريع. لهذا فإن هذا الأصل يجب إعتباره بشكلٍ أساسيّ في أية أحكام شَرعيةٍ تتعلق بما ينضوى تحته، كموضوع الإستفتاء والتظاهرات السلمية. فالإستفتاء هو مظهرٌ من مظاهر التعبير عن الرأي، ومُمارسةً عمليةً لهذه الحرية، على شريطة أن يتحقق الأصل الشرعيّ بضَمانِ الحرّية التامّة الحقيقية التي يتحقق بها مَقصد الشَرع، وإلا فإن عدم تحقّق هذا الشَرط يَجعلُ مَقصِد الشرعِ غير مُتحقّق، بل يَكون تلاعباً بالشَرع وتحيّلا عليه. ومن هذا النظر، خَطّأنا من أحلّ الإستفتاءات في ظل العهد البائد، ووقفنا بشدة ضدّ من شارك فيما كان من انتخابات، يستمدُّ منها النِظامُ الخَارجُ عن شَرعية الإسلام شرعية وُجوده، تلاعباً بالشرع ومقاصده. فالعبرة هنا بما تمليه مقاصد الشريعة وما يحفظها على المسلمين حقيقة لا إدعاءاً.

      كذلك النظرَ في التظَاهِر السِلميّ في وجه الحَاكم الظَالم، أو الكَافر بطريق الأولى، إذ يقع تحت نفس الأصل، لكن على المستوى الجماعيّ، لا الفرديّ، مما يجعله الصق بالضَرورة من الإستفتاء أو الإنتخاب. فممّا هو مَعلومٌ في الشَرع أنّ ما كان مندوباً بالجُزء (اي على الفرد) كان فَرضَاً على الكُلّ (اي على الجَماعة)، لما تعنيه مصلحة الجماعة من أهمية أعلى من مصلحة الفرد. لذلك فإن مراعاة هذا الأصل في صورة التظاهرات السلمية أولى وأكثر وجوباً من الإشتراك في الإستفتاءات أو الإنتخابات.

      فأن يأتى من يَستشهِد بحديثٍ عن طَاعة الحَاكم الفاسق، عليه أن لا يخرُج منه بما يضرِب دين الله بعضَه ببعض، وان لا يلتزم الظاهرية في فهم الحديث، بل يجب أن ينظر في لفظ الحديث نظراً فاحصاً، وان يجمع بينه وبين غيره من الأحاديث والنصوص التي توضّحُ مناطاتها بالفهم المُستقيم، الذي لا يُعارِض مقاصد الشريعة وقواعدها الكلية. فإن وُجد مثل هذا التَضارب، وأُغفِل أصلُ كليّ لصالح جزئية شرعية، او العكس، كان ذلك من قِصَر نظرِ الناظرِ، لا من تقصير الشريعة في البيان.

      من هنا نرى خطأ الإخوان فيما تبنّوه من خَطّ سياسيّ في ظلّ العهد البائد، يسمح بالإشتراك في الإنتخابات، إذ لم يتحقق فيها مقصد الشرع، بل كانت تحيّلاً عليه. ومن هنا نعرف لماذا فشل هذا الخطّ من العمل طوال عقودٍ طويلة. كذلك وقع النظر الإخوانيّ في الخلط بين مقاصد الشرع وبين حسابات المصالح والمفاسد، وهو ما سَنحاول بيانَه في موضِعٍ آخر إن شاء الله تعالى.

      كذلك يمكنُ أن نميّز الخَطأ فيما اجتهد فيه السّلفيون، الذين حَرّموا التَظاهُر في ظلِ الواقعِ الجَديد، كما حرّموا العَمل السياسيّ في العهد البائد، ، فكان تحريمهم السابق مبنيّ على إعتبار الجزئيات لا الكليات والمقاصِد، لكن صَادف الحق، وكان تحريمهم الحالّ للتظاهر، مبنيّ كذلك على إعتبار الجزئيات لا الكليات والمقاصِد، فصَادف الباطل. وكان خطؤهم مُركباً، لأنه مبنيّ أساساً على عدمِ النَظرِ في المَقاصِد، ثم لعدم التفريق بين مَناطِ المَاضى والحَاضِر.

      هذا مثال على النظرِ الأصوليّ المُجدّد الذي يقصِدُ إلى النظرِ في مَناحي الحَياة ويَضبِط فتاوى المُفتين، ويوجّه نظر النّاظرين. والأمثلة على هذا النمط الفقهيّ الأصوليّ كثيرةٌ متشّعبة، حاولنا أن نواكِب توجّهاتها فيما سبق أن حَرّرنا حول المَفَاهيم التي يتلاعبُ بها العلمانيون، وأنصَاف العلمانيين، كالوسَطية والتجديد والتعدّدية، والتي هي من قبيل القواعد الكلية، على مستوى المقاصد ذاتها.

      ونحن ندعو إلى إنشاء لجنة فقهية أصُولية مُتخصّصة، ممن لهم العِلم الشرعيّ القَادر على تَحرير المَسائل التي برزَت على سطح الحياة الإسلامية في هذا الزَمن، في ضوءِ مقاصدِ الشَرع الحَميد، فتكون توجيهاتهم مَناراً لأمثالنا من طَلبة العِلم.