فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      المسلمون... بين شريعة الله وعُرف الاستحياء!

      رأيتُ أنّ هذا المقال يتطلب التصدير بمقدمة تاريخية وجيزة؛ كي يعرف المسلمون دور شريعة الله في نهضة الأمم والحضارات. ففي بداية الأمر لم تكن هناك حضارة ولا علم ولا نهضة ولا مفاهيم للحرية وحقوق الإنسان واحترام الملكيات، بل شاعت كل صور القتل والفساد والخراب والتدمير، وانتُهكت الحرمات، بل لم يكن هناك من القوانين ما تميِّز الحرام عن الحلال قبل إنزال شرائع الله للبشر، ولم يكن يُعرَف قبل إنزال الله لشرائعه وإرسال رسله مبادئ أو قِيَم تمكِّن البشر من معرفة القوانين التي تحدِّد ما هو واجب وما هو جائز، أو ما هو حرام وما هو حلال، ولم تكن هناك حدود للفصل بين الناس بالعدل. فالتاريخ يروي لنا أنّ العباد كانوا يعيشون أشبه ما يكون بالبهائم، فلا أحد يحترم حرمات أحد، وليس هناك من قانون رادع يحمي الدماء ويصون الأعراض ويحفظ الأموال، ولم تتوافر وقتها أنظمة حكْم عادلة، بل كان الأقوى يحكم بما يشاء ويهوى، وكان البشر يعانون من ظلمات الجهل.

      ثمَّ أنزل الله تعالى شريعته على الناس، فنظَّم بها سلوكيّاتهم وحياتهم، وسنَّت قوانينهم، وحدّدت معالم طريق العباد، وأوضحت مقاصد الله في مصادرها الشرعية؛ حتى لا يلتبس الأمر على أحد. فبدأت الشعوب والدول تلتزم بتطبيق هذه الشرائع، وكنتيجة طبيعية بدأت الحضارات تنمو وتزدهر في ظل هذه الشرائع؛ حيث كانت بمثابة المؤشّر الحقيقي للتقدم الحضاري في بلاد العالَم. وعليه نظّمت الشريعة حياة الناس، ومعاملاتهم، والقوانين التي تحكمهم، بداية من المستوي الفردي والأُسَري، وانتهاء بالمستوى القومي، بل والدولي، وكان ذلك كفيلاً لحماية الدماء والمال والنسل والأعراض.

      هذا.. ووضّحت الحدود التي يتحتم تطبيقها على كل متمرد أو مجرم ظنّ أنه يمكنه الاعتداء على حقوق الآمنين دون عقاب. فأصبحت الشريعة بمثابة الضمان للحماية، وكفالة القصاص لصاحب الحق، وأصبح المجرمون يرتدعون خشية العقاب.

      والشريعة التي تَعدّ الحق المكفول للبشر جميعًا، لا تفرّق في تطبيقها بين الناس للون بشرتهم أو انتماءاتهم أو رفعة مناصبهم، فالكل أمام الله في ذلك سواء، مهما كان حاكمًا أو محكومًا، ونصوص الشريعة لا لبس فيها، ولا تحتمل التأويل، فهي واضحة وسهلة التطبيق.

      والمعروف تاريخيًا أن علوّ وازدهار الحضارات على مرّ التاريخ كان لالتزام شعوبها بنظُم وقوانين الشريعة، وما أن بدأت هذه الدول في الالتواء والفساد ـ إما لمحاولة تطبيق الحدود على الضعفاء أو الفقراء فقط، أو لمحاولة طمس أحكام الشريعة بيد الأغنياء والحكّام، حتى شرعت هذه الحضارات العظيمة في الانهيار.

      وبشكل عام.. فإن التاريخ يشهد بأنّ أول الفئات عبثًا بالشريعة لمحاولة تدليس مفاهيمها، هم طبقة الحكام والأغنياء؛ حتى يمكنهم ممارسة الظلم أو السرقة أو القتل على فئات الشعب الدنيا والمتوسطة دون رادع أو عقاب.

      كما يشهد التاريخ أيضًا أنّ أعظم هذه الحضارات علوًا ونموًا كانت حضارة المسلمين منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّمـ في المدينة؛ حيث نظّمت الشريعة المهيمنة حياة المسلمين ومعاملاتهم داخل المدينة، وخارجها مع المجتمعات الأخرى، حتى وصلت حضارة المسلمين للصين شرقًا وأوروبا غربًا. وباتت باقي الأمم والشعوب تتعلّم من المسلمين، وتتناقل هذا العلم الذي تعلمته.

      لكن للأسف كما نعلم جميعًا بدأ المسلمون في التخلي عن شريعتهم التي كفلت لهم الأمن والأمان والعدل والحرية والعزة والكرامة والسيادة، فبعد أن كانت فوق باقي الأمم لمئات السنين أصبحت بلاد المسلمين فريسة سهلة للغزاة الذين كانوا يتعلّمون منها قبل أعوام. وكانت النتيجة الحتمية أن بدأت حضارة المسلمين في التقهْقر، بينما بدأت الحضارات الأخرى في التقدّم والنمو على حساب حضارة المسلمين.

      ولم يكن هذا التحوّل عجيبًا غير أن المسلمين لم يتفهموا أنّ أهم مُعامل في هذه المعادلة هو (اتباع شريعة الله)؛ حيث إن الله سبحانه وتعالى هو الضامن والكفيل الحقيقي، ودونه تصبح بلادنا لقمة سهلة لأي طامع أو معتدٍ، وتصبح شعوبنا ذليلة وتحت رحمة أشقياء القوم، وهذا هو واقعنا الذي نعيشه الآن للأسف.

      ولعدم تطبيق الشريعة في بلادنا لسنين عديدة أصبح عُرف الخوف والاستحياء أقرب عند الناس من المحاولة، ويرى البعض من شرفاء هذه الأمة أن هناك من العوامل ما قد يساعد بلادنا وشعوبنا للخروج مما تعانيه من محن الذل والظلم والقهر على أيدي الطواغيت، فمنهم مَنْ يعتقد أن الديموقراطية (المزعومة) هي الحل الأفضل من الشريعة، مع أن الديموقراطية منبثقة من الشريعة، والبعض يظن أن (الحزبية) أو الملكية الدستورية هي الحل الأفضل، والواضح أن معظم هؤلاء يتفقون على أن تطبيق الشريعة ليست هي الحل، إما لجهلهم بشمولية الشريعة وعظمتها وحتمية نتائجها، أو لمجرد استحيائهم من كلمة (إسلامية) خشية خوضهم تجارب فاشلة كالثورة الإيرانية، أو لاعتقادهم أن تطبيق الشريعة قد يوقع البلاد في أيدي جماعة إسلامية معينة كالإخوان أو غيرهم، أو لحبهم وانتمائهم لشرائع غربية يشعرون فيها بالأمان وينعمون من خلالها بالحرية، أو لغير ذلك من الأسباب الوهمية.

      وأقول وهمية لأن معظمنا قد قرأ التاريخ ومارس الحياة في المجتمعات التي نعيشها حاليًا، فتأكدنا جميعًا من رقي أمة رسول الله (صلى الله عليه وسلّم) ونهضة هذه الحضارة الضخمة؛ وذلك حينما كانت تمتثل لشريعة الله، فلم نجد تطبيقًا واحدًا في أيٍ من بقاع العالَم يماثل أو يشابه هذا الرقي لا من قريب ولا من بعيد!.

      ونحن مسلمون بالغالبية، أي لن يضيرنا أن نحكِّم فينا وبيننا شريعة الله، فهي التي تحمي أرواحنا وأموالنا ومصالحنا، وهي التي تكفل مرضاة اللهِ عنا. وتطبيق الشريعة يكفل أيضًا لنا حماية وحق الكتابيين (من اليهود والنصارى) الذين يعيشون في أوساطنا، ماداموا ليسوا محاربين أو جواسيس، فلهم ما لهم وعليهم ما عليهم وهنا تكمن أهمية الشريعة من الناحية الدنيوية.

      أما من الناحية الدينية فأهمية تطبيق الشريعة هي بمثابة طاعة العباد لله تعالى، وكما قال د. طارق عبد الحليم - الباحث الداعية - في هذا الشأن: "إن البعض يرى أنّ مسالة الرجوع إلى الشريعة، وجعلها المصدر الرئيس والوحيد في الدستور والقانون، هو أمر من التحسينات الشرعية، أو من درجات الإحسان الإيمانية التي يبلغها المسلم، أو يتبناها المجتمع الإسلاميّ في أعلى درجات إيمانه. وهذا الاعتقاد خطأ مردود وقبيح، إنما نشأ في أعقاب سقوط الخلافة وقبلها منذ بدء الفصل بين المحاكم الشرعية وبين المحاكم المدنية (المختلَطة)، وما صاحب ذلك من مناصرة الفكر الإرجائي من قِبَل الحكومات المتعاقبة؛ لتنحية المطالبة بتحكيم الشرع من التوجّه الاجتماعيّ. خلاصة القول في أن الرجوع إلى الشريعة كمصدر أوحد في حياة الفرد والمجتمع المسلم هي لازمة من لوازم التوحيد، وضرورة من ضرورات الإقرار بالألوهية لله وحده – سبحانه وتعالى - فبسقوطها يُخدَشُ حمى التوحيد وينهار بنيانه الذي يعيش المسلمون في حِماه دفعة واحدة.

      يقول الله تعالى في سورة النساء: "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا".

      ويشرح الآية فيقول: الشرط و(الوصف) الأول: في قوله تعالى "حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ":

      وهو إقرار العمل بالشريعة في الدستور والقانون، وهو مناط الإسلام ومظهره الذي يسقُط دونه مهما تبجح الإرجائيون، قديمًا وحديثًا. وهو مناط المادة الثانية في الدستور التي يتنادى المهاترون بإلغائها، وهمْ على علم بأن في ذلك خلعًا لرداء الإسلام جملة واحدة.

      الشرط و(الوصف) الثاني: في قوله تعالى "ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ":

      أي لا يتململ أحدهم ضيقًا حين تجري أحكام الشريعة، فيراها قديمة أو همجية، أو أنّ فيها ظلمًا وإجحافًا بطائفة على حساب أخرى، أو تحيزًا لجنس دون آخر، أو تمييزًا لعرق دون غيره. فلا يردّد أحدهم أن الحِجاب ظلم وجهالة، أو أنّ القصاص وحشية وهمجية، وما إلى ذلك مما يبوح به مَنْ خلع رداء الإسلام أصلاً وفرعًا.

      الشرط و(الوصف) الثالث: في قوله تعالى "وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا":

      وهو مقتضى التسليم التام، والنزول على أوامر الله خضوعًا تامًا لها، ورضاء تامًا بها وعنها، وكيف لا.. وهي صادرة عن العليّ العظيم؟!، وكيف لا.. وهي ميراث سيدِ المرسلين، وكيف لا.. وهي لبّ كتابِ الله الحكيم؟"

      فأمر الرجوع إلى الشريعة أكبر وأهم وأعظم في حياة مَنْ يريد أن يموت على الإسلام، فهو أهم من مجرد مادة في الدستور يقرّها أو يلغيها مجلسٌ من البشر، بعد أن أقرها مَنْ بيده الأمرُ كله، وهو الله العزيز الحكيم، الذي قال عن نفسه "ألا يعلم مَنْ خلق وهو اللطيف الخبير".

      والسؤال الذي يتطلب إجابة واضحة هو.. هل يمكننا أن نعطي لشريعة الله فرصة؟ فكما نطلب العون من الله يجب علينا أن نسمعه ونطيعه، أوَليس هذا هو عين ما نطلبه من الله سبعة عشر مرة كل يوم في الصلوات الخمس المكتوبات؟! أم أننا لا نعي ما نقول؟! أم نقول ما لا نقصد؟!

      أخيرًا.. فما لا نريده الآن، ولا نتحمله هو أن نعاند الله في هذه الأوقات العصيبة من خلال رفضنا للشريعة، أو محاولة استبدالها بما هو دون ذلك، خاصة بعد أن أيّدنا بنصره على (مبارك) وزباينته بأقلّ الخسائر، مقارنة بما حدث في دولتي "تونس" و"ليبيا".

      وما لا نريده حتماً هو العودة للوراء وإعطاء حكم مصر لطاغي يزعم الديموقراطية، يحكم بهواه أو بهوى المتربصين، يعبث بالأمة ويوقعها في المزيد من الفتن الطائفية وغيرها ويوقعنا في المزيد من النكسات والمعاصي.