فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      انمـا العـلم بالتعـلم

      يعتقد الكثير من مسلمي هذا الزمان، خاصـة من قضي عمره أو جلّه في هذه البلاد، بعيدا عن مهبط الوحي في بلاد الشرق، أن الفتوى في الدين أمر مباح لمن أراد، طالما أنّ الله سبحانه أعطاه العقل والقدرة علي القراءة والاستيعاب !!

      والعجب لـهؤلاء القائلين أنّ منهم أسـاتذة بالجامعات وأطباء وغير ذلك من أصحاب "الشهادات العليا". وحجتهم أن الفهم في الدين، ومن ثم الفتوى في أحكامه الشرعية، لا يجب أن تكون حجرا علي جماعة من الناس دون غيرهم، وأن الحديث في الإسلام حق مكفول لكل مسلم وليس حكرا علي طبقة معينة كطبقة الكهان والقساوسة في النصرانية، علي سبيل المثال!

      وما ذكروه حـق ألبس لباس الباطل. فالحديث في الإسلام، بشكل عام، ليس حكرا علي طبقة أو جماعة، وكل مسـلم له الحـق في مناقشة موضوعات تتعلق بدينه، في أي جانب من جوانب الحياة، ولكن الخطر، كل الخطر، حين يتجاوز الأمر مرحلة المناقشة ليصل إلى مرحلة "وأنا أرى كذا وكذا..في هذه المسألة.!". هنالك تبدأ الفتوى ممن لم يؤهل لها ولم يحز إمكانياتها. وهنالك يبدأ الخلط والخبط والقول بغير علم في كتاب الله وسنة رسـوله صلى الله عليه وسلم. وهنالك يبدأ الخلاف! وهؤلاء يقولون "ولو.. فنحن إن اختلفنا مع فلان أو فلان ممن له دراية بالشرع، فالشريعة تحتمل الخلاف!" وعجبا لهم! فان هذا مما يسميه العلماء الخلاف غير المعتبر شـرعا، إذ أن الخلاف المعتبر هو الخلاف بين رأيين أسّسا على علم بالأحكام وصدرا ممن له بـها دراية تؤهله لذلك. وهؤلاء يقولون: "ولكننا لا نريد الإفتاء.. إنما هو رأينا نعبر عنه وننافح عنه إن استلزم الأمر ذلك" ونقول: فما الفتوى، إذن، إن لم يكن إبداء الرأي ثم المنافحة عنه، ثم السير علي ما يقتضيه وحمله ونشره بين الناس، هو إفتـاء، بل وقضـاء في نفس الوقت؟ فالإفتاء غير ملـزم، والقضاء ملـزم، وهؤلاء لا يتورعون عن حمل من يقدرون عليه لاتباع أقوالهـم التي تصدر عنهم بغير علم ولا هدى! وهل يغيّر من الحقيقة أنهم سـّموا الفتوى رأيا، ومتى كانت تسمية الأشياء بغير اسمها مغيّرا لحقيقتها؟ أتحلّ الخمر إن أطلق عليها اسم "بـيرة" مثلا!؟

      وأمـر الفتوى هو أمر خطير جليل، لا يصح التهجم عليه إلا لمن حاز مؤهلاته، والله سبحانه يقول :" فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" الأنبياء 7 ، قال القرطبي "ولم يختلف العلماء أن العامة لا يجوز لها الفتيا، لجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحليل والتحريم". وقال تعالي :"قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سـلطانا، وأن تقولوا علي الله ما لا تعلمون" الأعراف33. قد وردت في أقوال السلف ما يشـفي الغليل في هذا الأمر:

      روى مالك بن معـول عن أبي حصين عن مجاهد عن عائشة أنه لمّا نزل عذرها (أي في حادثة الإفك) قبّل أبو بـكر رأسـها، قالت: فقلت: ألا عذرتني عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي سـماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم؟". وروى أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سـئل أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه عن آية في كتاب الله سبحانه ، قال: أي أرض تقلني وأي سـماء تظلني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب الله بغير ما أراد الله بها ؟".

      وقال بن مسـعود: من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم"، وقال أبي حصـين الأسـدّي:"إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت علي عمر لجمع لها أهل بـدر".

      وقال بن سـيرين:"لأن يموت الرجل جاهلا خير له من أن يقول ما لا يعلم". وقال الأمام مالك:"من فقه العالم أن يقول "لا أعلم"، فانه عـسي أن يتهيأ له الخير". وغير ذلك الكثير من الأقوال التي تحذر من التهجـم علي القول في الدين بغير علم.

      وقد حصـر ابن القيّم درجات الناظرين في الشريعـة في أربعـة أقسـام، في كتابه "أعـلام الموقعـين":وهي درجـة المجتهـد المطلـق، ومجتهـد المذهب، والعالم بالمذهـب، ومقلد المذهب، قال: " وليس وراء ذلك إلا متشبع بما لم يعط، متشبه بالعلماء، محـاك للفضـلاء". فالقائـل في كتـاب الله سبحانه وسنـة رسوله صلى الله عليه وسلم يجب أن يكون علي درجة من العلم بالتفسير والحديث ودرجاته، وأسباب النزول، وأصـول الفقه واللغة العربية، كما ذكر الإمام أحمـد فيما رواه عنه ابنه صـالح.

      ثم نقول لهـؤلاء المتهجّمـين علي الشريعة بغير علـم، المستنديـن إلى حكم عقولهـم بغير دراسـة:" أأنتم أعلم من السلف وعلمـاء الأمـة الذين ذكرنا ؟ أم أنتـم أتقي منهم وأخوف علي دين الله من الضياع ؟ وان منكم من يتولى مناصب التدريـس في الجامعات فهل ساءل نفسه: أأرضى لعلمي في مادة تخصصي أن يأتي طالب علـم، بل أن يأتي من هو دون ذلك ممن "هبّ ودبّ" فيناقشني في موضوع علمي وأن يقول فيها هذا صحيح وهذا غير صحيح ؟؟ كيف شعوره تجاه علمه، وكيف احترامه لمثل هذا الإنسان، ولكن الدين، ويا حسـرتاه علي هذا الدين، أصبح أمره أهون علي الناس من أمر الرياضيات والعلـوم، وكأنهم ظنّوا أن الدين لا يحتاج إلى العلم، أو إلى إنفاق الوقت في الدراسة والبحث، كعلومهم الأرضية، بل وأكثر منها !! أين لك، يا من أدّعى القول بالرأي، المعرفة بقواعد أصول الفقه، ومصطلح الحديث، وقواعد علم الفـروق، وعلم العربية وفنون اللغـة ولسان العـرب ؟!

      وما أحسب ذلك إلا لأن القائل علي الله بغير علم، إما أن يكون ممن لم يؤت قدرة علي استيعاب العلم الشرعي، مثله كمثل من لم يعط القدرة علي استيعاب الرياضيات وان برّز في غيرها، أو أنه ممن لم يهتم بصرف الوقت الكافي للتعليم الشرعي، وهو مع ذلك راغب في الحديث عن الشريعة حديث العالم الجهبذ، استدراجا له من الشيطان، يقول علي لسـن حاله: أنّ الله قد وهبني العقل لأكون أستاذا أو طبيبا، فما الفرق، والدين ملك للجميع، وليس في الإسلام كهنة وسدنة يهيمنون علي الناس بفهمهم… وأمثال ذلك من الخزعبلات التي لا تنبـئ إلا عن الجهل بالعلم الشرعي وعمقه، بل وبدين الله نفسـه وقـدره.

      فليتـق الله امرئ ليس بذي علم ، وإنمـا نحن نعظـه بواحـدة من اثنتـين: فإما أن يبدأ رحـلة العلم، علي يديّ من يرشـده ويهـديه، حتى يكتسب العلم اكتسابا، فأمر العلم ، كما قـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم، :" إنما العلم بالتعلم" ، فهو أمر تعلم وقراءة وبحث، وإما أن يـدع أمر الفتـوى والحديث في الدين لمن يقـدر عليه، ويكفي الناس شـر لسانه و أفـكاره، وصـدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.:"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خـيرا أو ليصـمت" رواه البخاري.