فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      قيام دولة الإسلام .. بين الواقع والأوهام – دراسة سياسية تحليلية 12 - الأخير

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      انتهينا في المقال السابق إلى أنّه أمام أيّ كيان إسلاميّ وليد، ثلاث خيارات في التعامل مع القوى الخارجية التي تتحكم اليوم في مفاصل السياسة والاقتصاد وتحوز القوة العسكرية الفائقة.

      1. الفهم الظاهري والمواجهة الفورية
      2. اللين والتفاهم وسياسة التعايش والتوافق
      3. التوسط بتقسيم الأهداف إلى مرحلياتٍ تكتيكية

      ونضيف هنا أنّ السيكلوجية البارعة ليست التي تفكر فيما تريد أو كيف تصل إلى أهدافها مع عدوها، بل هي التي تفكر بعقلية أعدائها، وتضع نفسها محلهم، لترى الخطوات التي يمكن أن يتخذوها قبل أن يتخذوها. ضع نفسك محل عدوك، ثم انظر ما عساه يفعل، بعقله هو لا بعقلك أنت. وهي قدرة تحتاج إلى دربة كبيرة وطويلة، أن يضع الإنسان نفسه محل عدوه، في كل منحى من نواحي الفكر والتطبيق، ليرى ما يفعل عدوه، ويكون منه على أهبة الإستعداد. هذه الدربة معدومة في القيادات الحالية إنعدام الماء في الصحراء الجرداء. فالمسلمون لم يتعودوا هذا المنطق من النظر، بل هم يفكرون دائماً إلى "الخارج"، أيّ ماذا يريدون أن يفعلوا؟ أو ماذا هو ردّ الفعل الأنسب على فعل وقع من العدو؟ أمّا الفكر الاسْتباقي، الذي يتخذ من عادات العدو، ومن أهدافه، ومن مناحي قوته وضعفه، ومن احتياجاته المرحلية، ومن علاقاته الآنية ومصالحة العاجلة والآجلة، ومن طبيعة قياداته وعاداتهم وطرق تعاملهم وأساليبهم، عوامل يؤسسون عليها ما يمكن أن تكون الخطوات التالية للعدو، فهو ما ليس في فكر أحدٍ من قيادات العمل الإسلاميّ، ولا قريب منه.

      الأطروحة الأولي: الفهم الظاهري والمواجهة الفورية:

      وهي الأطروحة التي نراها اليوم سائدة على الساحة الجهادية، أ في التيار السلفيّ الجهاديّ بعامة، سواء من الحرورية أو من أهل السنة. وملخصها أننا سوف نفعل كذا وكذا، وسنحتل كذا وكذا، وسنقتل كذا وكذا. وهي أطروحة تعين على حماس المقاتلين، وتشدّ أزرهم، وتكتسب عطف الكثير من العوام الذين اشتاقوا إلى الإحساس بالعزة والكرامة والاستعلاء.

      لكننا لا نرى أنّ هذه الأطروحة هي المثلى في عالم اليوم، إلا بعد التمكن الحقيقيّ من الحرب والمواجهة. فإنه ليس من السياسة ولا من الحكمة مواجهة عدوكم بنواياك تجاهه وأنت تعلم أنك غير قادر على تحقيقها، بعد. ورسول الله صلى الله عليه سلم، لم يرسل وفوداً للفرس والروم وهو في مكة او في أوائل سنواته في المدينة قبل أن يتمكن من بقية الجزيرة، ويعلم قدرته على المواجهة. وعالم اليوم عالم تقنيّ، يقول القائد الكلمة، فإذا هي وفده إلى العالم كله، قريبه وبعيده، في لحظة واحدة.

       وهذا المنطلق ينشأ من ظاهرية عامة في تناول النصوص، وسطحية في فهم الواقع، وغلبة العاطفة على العقل، وقلة فقه بالسياسة الشرعية في عصرنا الحاضر. فكما أنّ الفقه قد تتغير فتاواه بتغير الزمان والمكان والحال، فإن السياسة الشرعية من الفقه. ومن ثمّ وجب أن ينظر اليها المجتهدون من باب ما تتغير فيه الفتاوى حسب حال القوة والضعف، والاستعداد والانتكاس.

      وهذا المنظلق يصح ويصلح في حالة وجود "دولة" قائمة لها جيش وعدة وعتاد، ليكون منثل هذه الكلمات واسياسات تخويفاً وإرهاباً للعدو أن يصول عليها. لكن، في مراحل النشأة والتكوين، فإننا لا نرى إلا إنها وبالاً على الحركات الجديدة الناهضة.

      الأطروحة الثانية: اللين والتفاهم وسياسة التعايش والتوافق

      وهذا المنطلق هو الطرف الآخر من سابقه، وهو إبداء الضعف والتنازل وإمكانية الخضوع للعدو من اللحظة الأولى، وتقديم الحركة على أنها صورة "معدلة" مما هو قائم! وهو المنهج الإخوانيّ في التعامل مع الخارج. وإن كنا نتحفظ، إحقاقاً للحق، فيما أبدي د محمد مرسي من رغبة في تغيير موازين التعامل مع العدو، وما صار له نتيجة ذلك، من حيث إنه لم يأخذ المنهج متكاملاً، بل اقتصر على العلاقات الخارجية، وترك ظهره مكشوفاً لعدوه الداخليّ الأخطر.

      وقد يبدو هذا المنطلق أكثر حكمة وروية وتعقلاً من سابقه، لكنه، في حقيقة الأمر، ليس إلا استسلاما مبكراً وحكماً على الحركة الوليدة بالوأد في مهدها. فهذا المنطلق لا يصح ولا يصلح، إذ ليس هو بموافق للشرع ولا للوضع والعقل.

      الأطروحة الثالثة: تقسيم الأهداف إلى مرحلياتٍ تكتيكية

      وهي التي نحسب أنها أفضل وسيلة للتعامل بين الحركات التي تسعى لبناء الدولة الإسلامية، وبين الخارج. وفي هذا المنطلق، تتعامل الحركة مع استراتيجية واحدة، وهي بناء دولة قوية منيعة مكتفية ذاتياً، لها هيبة وقدرة وصولة. لكن هذه الاستراتيجية لا يمكن الوصول لنتائجها أو تبنيها دفعة واحدة. ومن ثمّ يكون تقسيم الأهداف إلى مراحل تكتيكية. في كل مرحلة يتغير الخطاب إلى الخارج، حسب الحاجة، مع محاولة تقليل هذا الخطاب أصلاً، إن لم توجد الحاجة الملحة له. ففي المرحلة الأولى مثلاً، يجب تجاهل الخارج بشكلٍ تامٍ وإخراجه من معادلة الحوارات والبيانات، وهذا هو عين ما تجد الخارج يتعامل به مع الحركات الوليدة، تجاهلاً كأن امراً لا يحدث، إلا ما هو من قبيل ثرثرات الإعلام غير الرسميّ. وهذا التصرف مبنيّ على أنهم يدرسون الحركة، ويستوعبون أبعادها ليكون ردّ فعلهم مرسوماً مقدّراً(1). ومن ثمّ، فإنه كلما قلت المعلومات التي تخرج من الحركة كلما عُمِيّ عليهم معرفة أغراضها أهدافها، أو طريقة التعامل معها. وماكلّ هذه التصريحات النارية إلا سذاجة وصبيانية، ضرّها أكبر من نفعها. ثم تأتي مرحلة الإعلان، متأنية خافتة، تعنى بالداخل أكثر من الخارج، وتسمح بالحوار، ما لم يتجاوز الشرع، ولا يبعد عن ناظرها حاجتها للجيرة من حيث الإمداد والتموين.

      ونقطة الجيرة أو المتاخمة هذه، من أهم ما عميت عنه أبصار الحركات الجهادية اليوم، إذ إنه، سواءً أردنا أم لم نرد، أحببنا أم كرهنا، فإن حدود سايكس بيكو لا تزال جاثمة على صدورنا، ولا تزال الحكومات العميلة تتشبث بها حتى تسقط، إذ في انهيارها سقوطها على أية حال. والدولة الوليدة سيكون لها جوار معادٍ وكاره بلا شكّ، من كلّ ناحية. ولهذا نرى أنّ أبا حنيفة قد جعل من شروط دار الإسلام "الجوار" أو "المتاخمة". وهو رحمه الله، في هذا قد كان أبعد الفقهاء نظراً، حيث اتفق معهم في شرطيّ تطبيق أحكام الشرع، والأمان الأول للمسلم، ثم زاد عليهم شرط المتاخمة. وهو أجدر ما يكون بالاعتبار في عصرنا الحاليّ، إذ كيف يمكن أن يكون هناك دار إسلام، وهي محاطة من كل جانب بدول الكفر؟ هذا لايكون، شرعاً ولا عقلاً. فالأمان مفقود، وإمكانية الغزو قائمة، والاكتفاء الذاتي مستحيل، وفرار المرتد ميسور. وهي نقطة أخرى تضاف إلى عوار ما أسموه بالخلافة اليوم!

      ثم تكون بعد ذلك مراحل متلاحقة في الإعلان، تتصاعد فيها وتيرة الاستقلالية والاستغناء والكفاية، وإن لم يلزم منها "التحدي" والاستفزاز، والفرق بينهما واضح لمن لديه فقه في سياسة الشرع والعقل.

      خاتمة:

      بعدما قدمنا في بحثنا هذا من تفاصيل، فإن مما لا شك فيه، أنّ إقامة "دولة إسلامية" في عصرنا هذا، هو أمرٌ جللٌ يحتاج إلى جهدٍ في العلم والعمل، في الفقه والجهاد، في التخطيط والإعداد، في دراسة الماضي واستيعاب الحاضر، في فهم أنفسنا وقدراتنا، وفهم العدو الداخل والخارج. من ثمّ، فإن اعتساف هذا الأمر، ومحاولة اصطناع ظروف تتشابه في عقول العامة على أنها هي ما نسعي اليه، هو من قبيل خداع النفس، لكنه خداع للنفس ذو تكلفة باهظة، في الأنفس والأموال، وتأخيرٌ لجني ثمار الجهود الحقيقية المخلصة، وقد تقرر في الأصول، عقلاً وشرعا، أن من استعجل الثمرة قبل أوانها عوقب بحرمانها.

      وإذ وصلنا إلى هذا الحدّ في البحث، فإننا نكتفي بما قدّمنا، مع الاعتراف بالعجز والقصور، لكنه، يعلم الله، جهد المُقل. ونحن على يقين أنّ كلّ نقطة مما تعرضنا اليه في ثناياه، تحتاج إلى شرح وتفصيل وإيضاح، لعل الله سبحانه أن يقيد من العلماء أو طلبة العلم من يقوم بجبر تقصيرنا فيما قدمنا. لكننا نوصي أهل العلم أن ينظروا فيما دوّنا، ولعله أن يكون من مناهج التدريس في معاهدهم، ليتفهم من يريد أن يتأهل للجهاد، ما هو مقدمٌ عليه، فلا يقع فريسة أهواء ضالة وبصائر منحرفة.

      والحمد لله ربّ العالمين

      د طارق عبد الحليم

      14 يوليو 2014 – 16 رمضان1435

      (1) من أمثلة ذلك تلك الدراسة التي أصدرها جاريت براشمان، عام 2009، المتخصص في دراسة "الإرهاب" في قاعدة وست بوينت الأمريكية الشهيرة، قسم رصد الإرهاب. وقد تحدث فيها بتفصيل عن الحركات الجهادية، وعن عدد من أبرز الشخصيات في هذا المجال كأبي محمد المقدسي وكتابه "ملة إبراهيم"، وأبو يحي الليبي والشيخ أيمن الظواهري وكتابة "الولاء والبراء، كما نقل عنّا ما دوّناه في كتابنا "فتنة أدعياء السلفية وانحرافاتهم"، واستخدمه في بحثه على طول ما يقرب من عشرين صفحة. لإقرأ Global Jihadism, Jarret Brachman p22-41، وهو كتاب جدير بالقراءة لمن يهتم بأمر الفكر الغربيّ في الواقع الإسلامي الحرمي والجهاديّ.

      مقالات لها صلة بالموضوع

      1. 1.        الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (1) (18 يناير 2013)
      2. 2.        الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (2) (19 يناير2013)
      3. 3.        الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (3) (20 يناير 2013)
      4. 4.        الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (4) (26 يناير 2013)
      5. 5.        الجماعة الإسلامية .. في رحم المستقبل (5) (28 يناير 2013
      6. 6.        مفاهيم في طريق التمكين ..(3) (05 ديسمبر 2013)
      7. 7.        مفاهيم في طريق التمكين ..(2) (03 ديسمبر 2013)
      8. 8.        مفاهيم في طريق التمكين ..(1) (27 نوفمبر 2013)
      9. 9.        حقائق ثابتة على طريق التمكين (20 نوفمبر 2013) 
      10. 10.     جسر العبور .. من الإستبدال إلى التمكين (4 نوفمبر 2013) 
      11. 11.     المسلمون .. وفقه الغفلة عن الكوارث (01 ديسمبر 2013)
      12. 12.     بعد أن انقشع الغبار - الوثيقة الكاملة .. (14 أبريل 2014) وهي تتناول تطبيقاً على الحالة المصرية، في 18 مقالاً مجموعة في بحث متكامل.