فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      رؤية في سياسة القاعدة في عقدها الثالث .. الثابت والمتغير الجزء الثاني

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

      (3)

      انتهينا إلى أن "المتغير" في استراتيجية القاعدة بعد ربع قرن من الزمان، هو نظرتها إلى الأمة، بعمقها الاستراتيجي، الذي لا يمكن أن يكون هناك نصر حقيقي دون دعمه، وكذلك تحولها إلى العمل الأكثر محلية من باب أن العدو الأقرب أولى بالصدّ، وهي نظرة حصيفة صحيحة شرعاً وعقلاً، وإن لم يكن هناك فرق بين الشرع الصحيح والعقل الصريح.

      فقد أدركت القاعدة، فيما نحسب، أن استعداء القوى العالمية دون مبرر أو استعداد، هو من قبيل استدعاء الحرب غير المتكافئة دون العُدة، وهو محصور شرعاً، وإن تهيأ لبعض مخابيل الوقت من الحرورية أنه بطولة وشهادة! وعدم الاستعداء لا يعنى المولاة أو التعاون أو الرضى أو الموافقة إلا في عقل المخابيل ذاتهم. بل الثابت في فكر القاعدة، وفي الفكر الإسلامي السنيّ بشكل عام هو أنه لابد من أن يقوم القسط بين الناس، لا على أرض المسلمين وحدها، بل بين المسلمين وغيرهم من أهل الملل الأخرى، إذ لا يمكن أن يكون هناك عدل على أرض، وبقية من حولها ظالمون لها قاسطون لحقها.

      ومعنى ما نقول، هو ضرورة إقامة التوازن أولاً. والتوازن هنا هو محك القسط والعدل، ولا عدل إلا بتوازن في القوى، فطبيعة بني آدم الاعتداء والظلم والعلاج هو الصد والردع. وإقامة التوازن لن تكون بضرب سفارة هنا وسفينة هناك، أو قتل مدني هنا أو يهودي هناك. عرفت القاعدة، فيما نحسب وليس هذا بلسانها، أن هذه التصرفات لا تؤدى إلى توازن حقيقيّ، بل منها ما قد يكون غير شرعي بحسب بعض الآراء الفقهية في قتل غير المحاربين. لكن الأولى هو زعزعة من يميل القسط بالميزان ويطففه لحساب القوى المعادية للإسلام، وهم حكام السوء والرذيلة والردة.

      فالتغير في سياسة القاعدة، كان في اتجاه ضبط بوصلة الجهاد إلى ما يفيد في إحداث تغيير حقيقي على الأرض، لا ما يوهم الخلق أنّ هناك تغيير، بالإيحاء والدعاية والشعوذة الإعلامية.

      والإعلام والدعاية وتبيين المواقف وتوضيح الأهداف أمرٌ، والشعوذة الإعلامية التي تسير على المذهب الصهيوني الهوليوودي "إن لم تجد ما يؤيدك، أوْجده". وهو ما تتبعه الدعاية الصهيونية وأذنابها في البلدان "الديموقراطية" حين ترفع مرشحاً وتخسف الأرض بغيره، وليس في كليهما أمر مما يدعونه سلباً أو إيجاباً. هذه هي نوع الدعاية التي تتبناها الحرورية العوادية، وهي الدعاية التي لا ترضاها القاعدة، على ما نحسب، إذ ثوابتها تضاد الدجل والكذب، ويعرف علماؤها حدود ما يقع تحت خدعة الحرب والتدليس والكذب على أهل الملة الواحدة.

      (4)

      الثابت في استراتيجية القاعدة، حسب ما نرى من تصرفاتها، هو اتباع السنة، ورفض البدعة، والتمسك بمنهج السلف والرجوع إلى العلماء في أمر الدين والدنيا، وعدم تمكين الرويبضات، وصدق الكلمة والمروءة، وطيب اللسان، والرجوع إلى الحق إن ظهر إنه خلاف ما هم عليه. وهذا لا يعنى إنهم ليسوا بشراً يخطأ ويصيب، حاشا وكلا، لكن هم رجاعون إلى الحق، وهو غاية ما يمكن أن يطلبه المرء من بشر يسعى على الأرض. وهل يعنى ذلك أن كلّ اختياراتهم صحيحة، كلا والله، فقد أخذ كاتب هذه السطور عليهم بعض المآخذ، لكنها في حدود السنة، وداخل إطار الشرع وضمن حدود الخلاف المشروع وبوسائله وأساليبه.

      الوصول إلى حالة من التوازن بين قوة الإسلام وقوى الكفر لابد أن يتحقق على أرض المسلمين، لا على غيرها، ثم من هنالك، يمكن أن يكون تعايشاً بين دار إسلام ودار كفر. وهو ما كان على عهد كافة خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالكفر ثابت وموجود، ولأهله أحكام في التعامل، سواء في التجارة معهم أو السفر اليهم لغرض مشروع، من علم أو غيره. هذا كله لا مشاحة فيه إلا ما كان من نعيق بعض رويبضات هذا الزمان، وسفهاء الأحلام ممن يهرف بما لا يعرف. وهو ما لا يعنى ولاءً ولا غيره، بل هو محض تعامل بشريّ له أحكامه الشرعية.

      ولست منظراً للقاعدة، ولا متحدثا باسمها، وهو ما يجب أن يدركه قارئ هذا المقال، لكني أكتب من خلفية شرعية عايشت أحداث نصف قرن من الزمن، جرت فيه أحداث على غاية الأهمية، كلها جاءت بالسلب على الأمة، التي لا تزال لا تعرف من ورطتها مخرجاً. وما يظهر أنّ أيّ من الحلول التي طرحتها العقول في العقود السالفة، لم تأت بثمارها، إما لخطأ في تصورها أو لخطأ في تطبيقها.

      والكيانات الدولية المعادية للإسلام لا تعمل من خلفية مصالح شعوبها أو من زاوية عدل أو قسط، كما أوضحنا من قبل في مقالات عديدة. فقتل أفراد مدنيين لها هنا أو هناك لا تطرف له عين سياسيّ منهم، بل هم، في بعض الأحيان، يشجعونه، بل ويسمحون به، كما يظهر في موضوع الصحافي الأمريكي، حتى تتفاعل الشعوب مع تلك الحكومات الساقطة العفنة، فتقوم بما تقوم به من غزو وقتل وسفك دماء.

      لكن هل ينفع قتل أولئك المدنيين القضية الإسلامية؟ هل يحقق مصلحة؟ هل يضعف العدو؟ هل يعجّل بوقف اعتداءاته؟

      إبان حرب فيتنام، والتي دخلتها أمريكا بكل قوتها في الستينيات، قاومت فيتنام بجنودها ومدنييها ذلك الغزو، وأثخنت في المحتل الأمريكيّ حتى وصل الأمر إلى خسائر في الأرواح لم يمكن لأي حكومة تبريرها، فانسحب الغزاة.

      إبان الغزو السوفييتي لافغانستان، قاوم المجاهدون الأفغان، وطالبان والقاعدة الغزو السوفييتي، وأجبروه على الرحيل مذموما مدحوراً.

      لكن في كلتا الحالين، لم يتبنى أحد استراتيجية قتل مدنييّ الدول المعادية، إلا من كان مرافقا لقوات الاحتلال. ولعل هذا ما أدركته القاعدة، فركزت على قتال الحكام، أو القوات المحتلة، فإن قتل ثلاثة أو أربعة مدنيين كل بضع أعوام، لا يؤثر إلا سلباً على تطور القضية الإسلامية، لا أقول في المحافل الدولية، فهي كلها صهيونية الصنع والأداء، لا نفع فيها ولا خير، لكن في ميزان الأساس الذي تبنى عليه قوى الغشم المحاربة مبرراتها، وهو حسّ شعوبها ودعمه، أي حاضنتها الشعبية. فهم يعبئون ويعتنون بالحاضنة الشعبية أيما عناية، عكس ما كان عليه التصور الجهادي قبلاً، أو ما عليه مخابيل العوادية القتلة الآن.

      ثم إني أذكر مرة أخرى بأني لست مُنظراً ولا منتمياً للقاعدة أو غيرها، ولكن من لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم.

      د طارق عبد الحليم

      26 فبراير 2015 – 8 جمادي الأولى 1436