فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      حكم قتل المسلم بالكافر

      لقد اختلف الفقهاء في هذه القضية حسب فهمهم للنصوص الشرعية وهذا ما سنوضحه خلال تعرضنا لآراء أصحاب المذاهب حول هذه المسألة: قتل المسلم بالكافر. لكن قبل أن نشرع في توضيح ذلك نود أن نوضح ما المقصود بالكافر؟ فالكافر طبقاً لمنظومة فقهاء الإسلام هو غير المسلم؛ والكافر إما أن يكون حربياً أو غير حربي، فإن كان حربياً فالإجماع منعقد على أنه لا يقتل به مسلم، وإن لم يكن حربياً فلا يخلو إما أن يكون ذمياً أو معاهداً. إذن الخلاف بين الفقهاء في حكم الكافر الذمي والمعاهد لا في الكافر الحربي. وبناء على ذلك نستطيع أن نخلص إلى عدة آراء لأصحاب المذاهب الإسلامية حول قضية قتل المسلم بالكافر وهي كالتالي:

      الرأي الأول: لا يقتل مسلم بكافر ذمياً كان أو مستأمناً.

      الرأي الثاني: يقتل المسلم بالكافر الذمي.

      الرأي الثالث: يقتل المسلم بالكافر إن كان القتل غيلة.

      الرأي الرابع: يقتل المسلم بالذمي إذا اعتاد قتل أهل الذمة.

      الرأي الأول

      لا يقتل مسلم بكافر ذمياً كان أو مستأمناً

      قال بهذا الرأي الشافعية والحنابلة وبعض المالكية والظاهرية والإمامية سواء كان هذا الرأي على وجه الغيلة أو على غير هذا الوجه. وحجة القائلين بعدم قتل المسلم بالكافر بعض النصوص لتالية:

      (1) ساق البخاري بسنده: عن مطرف سمعت الشعبي يحدث قال: سمعت أبا جُحيفة قال: سألت علياً رضي الله عنه هل عندكم شئ مما ليس في القرآن؟ وقال ابن عيينة: مرة ما ليس عند الناس. فقال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهماً يعطى رجلٌ في كتابه، وما في الصحيفة. قلت: وما في الصحيفة قال: العقلُ، وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر"[1][2]

      (2) وفي سنن أبي داود: "عن علي رضي الله عنه أن النبي قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، لا يُقتل مؤمنٌ بكافر، ولا ذو عهد في عهده"[1][3]

      وجه الدلالة من هذين النصين: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم لا يقتل بالكافر؛ والكافر يشمل الذمي والمستأمن قال في المغني: "أكثر أهل العلم لا يوجبون على مسلم قصاصاً بقتل كافر أي كافر كان. روى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت ومعاوية رضي الله عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء والحسن وعكرمة والزهري وابن شبرمة ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي واسحاق وأبوعبيد وأبو ثور وابن المنذر. وقال النخعي والشعبي وأصحاب الرأي يقتل المسلم بالذمي خاصة. قال أحمد: النخعي والشعبي قالا: دية المجوسي واليهودي والنصراني مثل دية المسلم وإن قتله يقتل به. هذا عجب! يصير المجوسي مثل المسلم سبحان الله ما هذا القول؟ واستبشعه أي (أي الإمام أحمد) وقال: النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقتل مسلم بكافر" وهو يقول (أي الشعبي والنخعي): يقتل بكافر فأي شئ أشد من هذا؟ واحتجوا بما روى ابن البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم أقاد مسلماً بذمي وقال: "أنا أحق من وفى بذمته" ولأنه معصوم عصمة مؤبدة فيقتل به كالمسلم. ولنا (أي الحنابلة) قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ولا يقتل مؤمن بكافر" رواه الإمام أحمد وأبو داود، وفي لفظ (لا يقتل مسلم بكافر) رواه البخاري وأبو داود، وعلي رضي الله عنه قال: "من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر" رواه الإمام أحمد. ولأنه منقوص بالكفر فلا يقتل به المسلم كالمستأمن والعمومات مخصوصة بحديثنا، وحديثهم ليس له اسناد قاله أحمد وقال الدارقطني: يرويه ابن البيلماني وهو ضعيف إذا أسند فكيف إذا أرسل؟ والمعنى أنه مكافئ للمسلم بخلاف الذمي، فأما المستأمن فوافق أبو حنيفة الجماعة في أن المسلم لا يقاد به وهو المشهور عن أبي يوسف، وعنه يقتل به لما سبق في الذمي ولنا أنه ليس بمحقون الدم على التأبيد فأشبه الحربي"[1][4]

      ويرد ابن المنذر على استدلال الأحناف بقوله: "لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر يعارضه (أي حديث: المسلمون تتكافأ دماؤهم..) ولأنه لا يقاد المسلم بالكافر فيما دون النفس بالإجماع، كما قال ابن عبد البر، فالنفس بذلك أولى والحديث المذكور يقتضي عموم الكافر، فلا يجوز تخصيصه باضمار الحرب ولأنه لو كان المعنى كما قال الأحناف لخلا عن فائدة، لأنه يصير التقدير لا يقتل المسلم إذا قتل كافراً حربياً، ومعلوم أن قتله عبادة، فكيف يعقل أنه يقتل به؟!"[1][5]

      أما وجه استدلال الشافعي أنه: "احتج في عدم قتل المسلم بالذمي بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه لا يقتل مؤمن بكافر وهذا نص في الباب ولأن عصمته شبهة العدم لثبوتها مع القيام المنافي وهو الكفر لأنه مبيح في الأصل لكونه جناية متناهية فيوجب عقوبة متناهية وهو القتل لكونه من أعظم العقوبات الدنيوية إلا أنه من قتله لغيره وهو مقتضى العهد الثابت بالذمة فقيامه يورث شبهة ولهذا لا يقتل المسلم بالمستأمن فكذا الذمي ولأن المساواة شرط وجوب القصاص ولا مساواة بين المسلم والكافر ألا ترى أن المسلم مشهود له بالسعادة والكافر مشهود له بالشقاء فكيف يتساويان"[1][6]

       

      مناظرة شيقة في مسألة قتل المسلم بالكافر

      ذكر ابن العربي هذه المناظرة في كتابه أحكام القرآن قائلاً:

      "ورد علينا بالمسجد الأقصى سنة سبع وثمانية وأربعمائة فقيه من عظماء أصحاب أبي حنيفة يعرف بالزوزني زائراً للخليل صلوات الله عليه فحضرنا في حرم الصخرة المقدسة طهرها الله معه، وشهد علماء البلد، فسئل على العادة عن قتل المسلم بالكافر، فقال: يقتل به قصاصاً؛ فطولب بالدليل فقال: الدليل قوله تعالى (ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى..) وهذا عام في كل قتيل.

      فانتدب معه للكلام فقيه الشافعية بها وإمامهم عطاء المقدسي وقال: ما استدل به الشيخ الإمام لا حجة فيه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الله سبحانه قال: (كتب عليكم القصاص) فشرط المساواة في المجازاة، ولا مساواة بين المسلم والكافر فإن الكفر حطّ منزلته ووضع مرتبته.

      الثاني: أن الله سبحانه ربط آخر الآية بأولها، وجعل بيانها عند تمامها فقال: (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى..) فإذا نقص العبد عن الحر بالرق وهو من آثار الكفر، فأحرى وأولى أن ينتقص عنه الكافر. الثالث: أن الله سبحانه وتعالى قال: (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف) ولا مؤاخاة بين المسلم والكافر، فدلّ على عدم دخوله في هذا القول.

      فقال الزوزني: بل ذلك دليل صحيح، وما اعترضت به ولا يلزمني منه شئ. أما قولك: إن الله تعالى شرط المساواة في المجازاة وكذلك أقول. وأما دعواك أن المساواة بين الكافر والمسلم في القصاص غير معروفة فغير صحيح؛ فإنهما متساويان في الحرمة التي تكفي في القصاص، وهي حرمة الدم الثابتة على التأبيد، فإن الذمي محقون الدم على التأبيد، والمسلم محقون الدم على التأبيد ، وكلاهما قد صارا من أهل دار الإسلام، والذي تحقق ذلك أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي، وهذا يدل على أن مال الذمي قد ساوى في مال المسلم؛ فدل على مساواته لدمه؛ إذ المال إنما يحرم بحرمة مالكه. وأما قولك: إن الله تعالى ربط آخر الآية بأولها فغير مسلم به؛ فإن أول الآية عام وآخرها خاص وخصوص آخرها لا يمنع من عموم أولها؛ بل يجري كل على حكمه من عموم أو خصوص. وأما قولك: إن الحر لا يقتل بالعبد فلا أسلم به، بل يقتل به عندي قصاصاً، فتعلقت بدعوى لا تصح.

      وأما قولك: (فمن عفي له من أخيه شئ) يعني المسلم، فكذلك أقول، ولكن هذا خصوص في العفو؛ فلا يمنع من عموم ورود القصاص، فإنهما قضيتان متباينتان؛ فعموم إحداهما لا يمنع من خصوص الأخرى، ولا خصوص هذه يناقض عمومَ تلك. وجرت في ذلك مناظرة عظيمة حصلنا منها فوائد جمة؛ أثبتناها في نزهة الناظر، وهذا المقدار يكفي هنا منها"[1][7]

      الرأي الثاني

      يقتل المسلم بالكافر الذمي

      وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، والشعبي والنخعي، وابن أبي ليلى.. قال في بداية المجتهد: "أما أصحاب أبي حنيفة فاعتمدوا في ذلك آثاراً منها: حديث يرويه ربيعة بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن البيلماني قال: "قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أهل القبلة برجل من أهل الذمة، وقال: (أنا أحق من وفى بعهده)[1][8] وروى ذلك عن عمر، قالوا: وهذا مخصص لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل مؤمن بكافر) أي أنه أريد به الكافر الحربي دون الكافر المعاهد. وضعف أهل الحديث حديث عبد الرحمن البيلماني، وما روي عن عمر. وأما طريق القياس: فإنهم اعتمدوا على إجماع المسلمين في أن يد المسلم تقطع إذا سرق من مال الذمي، قالوا: فإذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم فحرمة دمه كحرمة دمه، فسبب الخلاف: تعارض الآثار والقياس"[1][9] أما الكاساني فقد رد على أدلة الشافعي بقوله: "ولنا عمومات القصاص من نحو قوله تبارك وتعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) وقوله سبحانه وتعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وقوله جلت عظمته (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً) من غير فصل بين قتيل وقتيل ونفس ونفس ومظلوم ومظلوم فمن ادعى التخصيص والتقييد فعليه الدليل وقوله سبحانه وتعالى عز من قائل (ولكم في القصاص حياة) وتحقيق معنى الحياة في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم لأن العداوة الدينية تحمله على القتل خصوصاً عند الغضب ويجب عليه قتله لغرمائه فكانت الحاجة إلى الزاجر أمس فكان في شرع القصاص فيه في تحقيق معنى الحياة أبلغ"[1][10]

      أما الطحاوي فقد دافع عن رأي الأحناف في شرح معاني الآثار بقوله:

      "حدثنا بن مرزوق قال ثنا أبو عامر قال ثنا سليمان بن بلال عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن البيلماني ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل من المسلمين قد قتل معاهدا من أهل الذمة فأمر به فضرب عنقه وقال أنا أولى من وفي بذمته.. حدثنا سليمان بن شعيب قال ثنا يحيى بن سلام عن محمد بن أبي حميد المدني عن محمد بن المنكدر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم مثله والنظر عندنا شاهد لذلك أيضا وذلك أنا رأينا الحربي دمه حلال وماله حلال فإذا صار ذميا حرم دمه وماله كحرمة دم المسلم ومال المسلم ثم رأينا من سرق من مال الذمي ما يجب فيه القطع قطع كما يقطع في مال المسلم فلما كانت العقوبات في انتهاك المال الذي قد حرم بالذمة كالعقوبات في انتهاك المال الذي حرم بالإسلام كان يجئ في النظر أيضا أن في الدم الذي قد حرم بالذمة كالعقوبة في الذي قد حرم بالإسلام فإن قال قائل فإنا قد رأينا العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الأموال قد فرق بينهما وبين العقوبات الواجبات في انتهاك حرمة الدم وذلك أنا رأينا العبد يسرق من مال مولاه فلا يقطع ويقتل مولاه فيقتل ففرق بين ذلك فما تنكرون أيضا أن يكون قد فرق بين ما يجب في انتهاك مال الذمي ودمه قيل له هذا الذي ذكرت قد زاد ما ذهبنا إليه توكيدا لأنك ذكرت أنهم أجمعوا أن العبد لا يقطع في مال مولاه وأنه يقتل بمولاه وبعبيد مولاه فما وصفت من ذلك كما ذكرت فقد خففوا أمر المال ووكدوا أمر الدم في الدم حيث لم يوجبوها بالمال فلما ثبت توكيد أمر الدم وتخفيف أمر المال ثم رأينا مال الذمي يجب في انتهاكه على المسلم كما يجب عليه في انتهاك مال المسلم كان دمه أحرى أن يكون عليه في انتهاك حرمته ما يكون عليه في انتهاك حرمة دم المسلم وقد أجمعوا أن ذميا لو قتل ذميا ثم أسلم القاتل أنه يقتل بالذمي الذي قتله في حال كفره ولا يبطل ذلك إسلامه فلما رأينا الإسلام الطارئ على القتل لا يبطل القتل الذي كان في حال الكفر وكانت الحدود تمامها أحدها ولا يوجد على حال لا يجب في البدء مع تلك الحال ألا ترى أن رجلا لو قتل رجلا والمقتول مرتد أنه لا يجب عليه شيء وأنه لو جرحه وهو مسلم ثم أرتد عياذا بالله فمات لم يقتل فصارت ردته التي تقدمت الجناية ملكا طرأت عليها في درء القتل سواء فكان كذلك في النظر أن يكون القاتل قبل جنايته وبعد جنايته سواء ولما كان إسلامه بعد جنايته قبل أن يقتل بها لا يدفع عنه القود كان كذلك إسلامه المتقدم لجنايته لا يدفع عنه القود وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهم أجمعين "[1][11]

      حكم القاضي أبي يوسف في قتل المسلم بالكافر

      أقول: ورغم أن الأحناف يقولون بقتل المسلم بالكافر الذمي إلا أنهم لم يستطيعوا تطبيق ذلك من الناحية الواقعية والعملية. فقد ذكر الماوردي أن نفوس الناس لا تتحمل قتل المسلم بالكافر وهذا قد منع القائلين به من العمل عليه.. ويستشهد على ذلك بالقضية التي رفعت إلى أبي يوسف أيام الرشيد قائلاً:

      "وقال أبو حنيفة لا اعتبار لهذا التكافؤ فيقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر كما يقتل العبد بالحر والكافر بالمسلم، وما تتحاماه النفوس من هذا وتأباه قد منع القائلين به من العمل عليه. وحكي أنه رفع إلى أبي يوسف القاضي: مسلم قتل كافراً فحكم عليه بالقود فأتاه رجل برقعة فألقاها إليه فإذا فيها مكتوب (من السريع):

      يا قاتل المسلم بالكافر *** جرتَ وما العادلُ كالجائرِ

      يا منْ ببغدادَ وأطرافه *** من علماء الناس أو شاعرِ

      استرجعوا وابكوا على دينكم *** واصطبروا فالأجرُ للصابرِ

      جار على الدين أبو يُوسُف *** بقتله المؤمنَ بالكـــــــافر

      فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر وأقرأه الرقعة؛ فقال له الرشيد تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة فخرج أبو يوسف وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها فلم يأتوا بها فأسقط القود؛ والتوصل إلى مثل هذا سائغ عند ظهور المصلحة فيه"[1][12]

      رجوع زفر عن رأي أبي حنيفة

      وذكر ابن حجر في الفتح أن زفر صاحب أبي حنيفة قد رجع عن رأي أبي حنيفة حيث ساق الحافظ ابن حجر بسنده : "وذكر أبو عبيد بسند صحيح عن زفر أنه رجع عن قول أصحابه فأسند عبد الواحد بن زياد قال: قلت لزفر: إنكم تقولون تدرأ الحدود بالشبهات فجئتم إلى أعظم الشبهات فأقدمتم عليها. المسلم يقتل بالكافر! قال: فأشهد على أني رجعت عن هذا"[1][13]

      أقول: هذا لا يؤثر في الرأي الغالب والمشهور لدى الأحناف الذي يشبه الإجماع في فقه الحنفية القائل بقتل المسلم بالكافر.

      الرأي الثالث

      يقتل المسلم بالكافر إن كان القتل غيلة

      يرى مالك والليث أن المسلم يقتل بالكافر إن كان القتل غيلة قال مالك "لا يقاد المسلم بالذمي إلا أن يقتله غيلة أو حرابة، فيقاد به"[1][14]

      هذا يقودنا إلى تفسير معنى الغيلة:

      "الغيل بالكسر الأجمة، وموضع الأسد وجمعه غيول. قال الأصمعي: الغيل: الشجر الملتف. والغيلة بالكسر: الإغتيال. يقال: قتله غيلة: وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله فيه"[1][15] وقال ابن رشد: "فقتل الغيلة أن يضجعه، فيذبحه، وبخاصة على ماله"[1][16]

      وحجة المالكية حديث عبد الله بن عامر إلى عثمان رضي الله عنه وسياقه كالتالي: "عن عبد الملك بن حبيب الأندلسي عن مطرف عن ابن أبي ذئب عن مسلم بن جندب الهذلي قال: كتب عبد الله بن عامر إلى عثمان: أن رجلاً من المسلمين عدا على دهقان فقتله على ماله؟ فكتب إليه عثمان: أن اقتله به ـ فإن هذا قتل غيلة على الحرابة"[1][17]

      قال ابن حزم: "ورويناه أيضاً عن أبان بن عثمان، وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، ورجاله كثير من أبناء الصحابة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن كل ذلك من رواية عبد الملك بن حبيب الأندلسي ـ وفي بعضها ابن أبي الزناد ـ وهو ضعيف ـ وبعضها مرسل، ولا يصح منها شئ"[1][18] وفي مراسيل أبي داود حديث آخر مرسل: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلماً بكافر قتله غيلة، وقال: أنا أولى وأحق من وفى بذمته" وهذا مذهب مالك وأهل المدينة أن القتل غيلة لا تشترط له المكافأة فيقتل فيه المسلم بالكافر"[1][19]

      ويرد ابن حزم على رأي المالكية بقوله:

      "وأما قول مالك ـ في الفرق بين الغيلة وغيرها ـ وكذلك أيضاً سواء سواء، إلا أنهم قالوا: إنما قتلناه للحرابة! فقلنا:: أنتم لا تقولون بالترتيب في حد الحرابة، ولو قلتموه لكنتم متناقضين أيضاً، لأنه لا خلاف بين أحد ممن قال بالترتيب في أنه لا يقتل المحارب إن قتل في حرابة، ومن لا يقتل به إن قتله في غير الحرابة، وأنتم لا تقتلون المسلم بالذمي في غير الحرابة ـ فظهر فساد هذا التقسيم بيقين. وأما المشهور من قول المالكيين أنهم يقولون بتخيير الإمام في قتل المحارب، أو صلبه، أو قطعه، أو نفيه ـ فمن أين أوجبوا قتل المسلم بالذمي ـ ولا بد في الحرابة وتركوا قولهم في تخيير الإمام فيه ـ فوضح فساد قولهم بيقين لا إشكال فيه، وأنه لا حجة لهم أصلاً وبالله تعالى التوفيق"[1][20]

      الرأي الرابع

      يقتل المسلم بالذمي إن اعتاد قتل أهل الذمة

      هذا ما قالت به الإمامية؛ قال في شرائع الإسلام في باب شروط القصاص: "التساوي في الدين فلا يقتل مسلم بكافر، ذمياً كان أو مستأمناً أو حربياً ولكن يعزّر ويغرّم دية القاتل، وقيل: إن اعتاد قتل أهل الذمة، جاز الاقتصاص بعد رد فاضل ديته"[1][21]

      وفي تفصيل وسائل الشيعة: "باب أنه لا يقتل المسلم إذا قتل الكافر إلا أن يعتاد قتلهم فيقتل بالذمي بعد رد فاضل الدية"[1][22] وساق بسنده عن محمد بن يعقوب عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم وغيره، عن أبان بن عثمان عن إسماعيل بن الفضل، قال سألت أبا عبدالله عليه السلام، عن دماء المجوس واليهود والنصارى، هل عليهم وعلى من قتل، إذا غشوا المسلمين وأظهروا العداوة لهم؟ قال: لا، إلا أن يكون معقوداً لقتلهم، قال: وسألته عن المسلم هل يقتل بأهل الذمة وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال: لا إلا أن يكون معتاداً لذلك لا يدع قتلهم، فيقتل وهو صاغر"[1][23]

      "وبالإسناد عن يونس عن ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قتل المسلم يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً فأرادوا أن يقيدوا ردّوا فضل دية المسلم وأقادوه. وعن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد عن فضالة عن أبي المفرا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قتل المسلم النصراني فأراد أهل النصراني أن يقتلوه قتلوه، وأدّوا فضل ما بين الديتين. وعن أحمد بن الحسن اليثمي عن أبان عن إسماعيل بن الفضل، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن المسلم هل يقتل بأهل الذمة؟ قال: لا إلا أن يكون متعوداً لقتلهم وهو صاغر. ومحمد بن الحسن بإسناده عن جعفر بن بشير عن إسماعيل بن الفضل، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: رجل قتل رجلاً من أهل الذمة، قال: لا يقتل به إلا أن يكون متعوداً للقتل"[1][24]

      وفي جامع المدارك: "لا يقتل مسلم بكافر مع عدم الاعتياد ذمياً كان أو مستأمناً أو حربياً، ويدل عليه النصوص منها: قول أبي جعفر عليه السلام على المحكي في صحيحة محمد بن قيس: "لا يقتل مسلم بذمي في القتل ولا في الجراحات، ولكن يؤخذ من المسلم جنايته للذمي على قدر دية الذمي ثمانمائة درهم. ومنها معتبرة إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن المسلم هل يقتل بأهل الذمة؟ قال: لا إلا أن يكون متعوداً لقتلهم فيقتل وهو صاغر. ومنها صحيحة إسماعيل بن الفضل الثانية عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: قلت له: رجل قتل رجلاً من أهل الذمة، قال: لا يقتل إلا أن يكون متعوداً للقتل"[1][25]

      لكنهم اختلفوا هل يقتل المسلم بالذمي قصاصاً أم حداً قال في جامع المدارك: "واختلف في أن القتل مع التعود قصاص أم حد، وقد يستظهر كونه قصاصاً لما دلّ من الروايات على أن المسلم يقتل بقتل الكافر حيث إنه مطلق يحمل على صورة كون المسلم معتاداً في قتله كما دلت عليه الروايات المتقدمة"[1][26]

      أقول: هذا ما أفتى به المتأخرون من فقهاء الشيعة منهم أبوالقاسم الخوئي.. ويتفق أيضاً رأي الإمامية مع قانون العقوبات المصري في مسألة العود حيث يجوز للقاضي أن يحكم على المتهم بأكثر من الحد الأقصى المقرر قانوناً للجريمة وقد بينت المادة 49 من هو المتهم العائد وذكرت ثلاث حالات نختار منها: "يعتبر عائداً: من حكم عليه بعقوبة جناية وثبت ارتكابه بعد ذلك جناية أو جنحة"[1][27] وقد أعطى القانون سلطة للقاضي لتشديد العقوبة على المتهم العائد جاء في نص مادة 50: "يجوز للقاضي في حال العود المنصوص عنه في المادة السابقة أن يحكم بأكثر من الحد الأقصى المقرر قانوناً للجريمة بشرط عدم تجاوز ضعف هذا الحد. ومع هذا لا يجوز في حال من الأحوال أن تزيد مدة الأشغال الشاقة المؤقتة أو السجن على عشرين سنة"[1][28]

      إذن هناك سبق للشريعة الإسلامية على القوانين الوضعية في نظرية العود أو المجرم الذي اعتاد الإجرام لأن هذا المتهم ألف الإجرام وليس له رادع ولا زاجر إلا أن تشدد عليه العقوبة.

      قول ابن حزم الظاهري ومناقشته للأقوال السابقة:

      يرد ابن حزم على استشهاد الأحناف بقتل المسلم بالكافر الذمي: "أما قول الله عز وجل (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)[1][29] فإن هذا مما كتب الله عز وجل في التوراة، ولا تلزمنا شرائع من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام. وأيضاً ففي آخر هذه الآية بيان أنها في المؤمنين بالمؤمنين خاصة، لأنه قال عز وجل في آخرها: (فمن تصدق به فهو كفارة له)[1][30] ولا خلاف بيننا وبينهم في أن صدقة الكافر على ولي الكافر الذمي المقتول عمداً ولا تكون كفارة له، فبطل تعلقهم بهذه الآية. وأما قوله عز وجل: (والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)[1][31] فإن الخطاب في هذه الآيات للمؤمنين لا للكافرين، فالمؤمنون هم المخاطبون في أول الآية، وآخرها بأن يعتدوا على من اعتدى عليهم، بمثل ما اعتدى به عليهم، وليس فيها: بأن يعتدي غير المؤمنين على المؤمنين باعتداء يكون من المؤمنين عليهم أصلاً. وإنما وجب القصاص من الذمي للذمي بقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله)[1][32] لا بالآية المذكورة.وأما قوله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها)[1][33] فهو أيضاً في المؤمن يساء إليه خاصة لأن نصها: (وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله)[1][34] ولا خلاف في أن هذا ليس للكفرة ولا أجر لهم البتة. وأما قوله عز وجل (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثلما عوقبتم به)[1][35] فكذلك أيضاً إنما هو خطاب للمؤمنين خاصة، يبين ذلك ضرورة قوله تعالى فيها (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)[1][36] ولا خير لكافر أصلاً صبر أو لم يصبر. قال الله عز وجل: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً)[1][37] وأما قوله تعالى (ولمن انتصر بعد ظلم فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق)[1][38] وقوله تعالى: (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً)[1][39] وقوله تعالى: (ثم بغي عليه لينصرنه الله)[1][40] وقوله عز وجل: (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)[1][41] والأخبار الثابتة التي فيها (النفس بالنفس) و (من قتل له قتيل فإما أن يودى وإما أن يقاد)، فإن كل ذلك يخص بقول الله عز وجل (أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون)[1][42] وقوله تعالى: (أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون)[1][43] وبقوله تعالى: (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)[1][44] فوجب يقيناً أن المسلم ليس كالكافر في شئ أصلاً ولا يساويه في شئ فإذا هو كذلك فباطل أن يكافأ دمه بدمه أو عضوه بعضوه أو بشرته ببشرته فبطل أن يستفيد الكافر من المؤمن أو يقتص له منه فيما دون النفس إذ لا مساواة بينهم أصلاً، ولما منع الله عز وجل أن يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً وجب ضرورة أن لا يكون له عليه سبيلاً في قوده ولا في قصاص أصلاً ووجب ضرورة استعمال النصوص كلها إذ لا يحل ترك شئ منها"[1][45]

      ورد ابن حزم على استشهاد الأحناف بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقتل مؤمن بكافر فمن قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول فإن شاءوا قتلوه وإن شاءوا أخذوا الدية).. قال أبو محمد بن حزم: "حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده صحيفة لا يجوز الاحتجاج بها وهي مملوءة مناكير. ثم لو صحت لما كانت لهم فيها حجة، بل كانت تكون حجة لنا عليهم، لأن فيها أن لا يقتل مؤمن بكافر، فهذه قضية صحيحة قائمة بنفسها وهي قولنا. ثم فيها حكم من قتل عمداً فلو دخل في هذه القضية المؤمن يقتل الذمي عمداً لكانت مخالفة للحكم الذي قبلها ـ وهذا باطل ـ فلو صحت لكانت بلا شك في المؤمن يقتل المؤمن عمداً، لا فيما قد أبطله قبل أن يقتل مؤمن بكافر. وقالوا (أي الأحناف): معناه لا يقتل مؤمن بكافر حربي، أو إذا قتله خطأ، فكان هذا من أسخف ما أتوا به، وكيف يجوز أن يظن هذا ذو مسكة عقل، ونحن مندوبون إلى قتل الحربيين، موعودون على قتلهم بأعظم الأجر، أيمكن أن يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم مع هذا الحال وأمره عليه الصلاة والسلام بالجهاد يتكلف أن يخبرنا أننا لا نقتل بالحربيين إذا قتلناهم، ما شاء الله كان؟ وكذلك في تأويلهم أنه عليه الصلاة والسلام أراد أن لا يقتل مؤمن بكافر إذا قتله خطأ ـ هذا والله يقين الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم الموجب للنار، وكيف يمكن أن يسع هذا في دماغ من به مسكة عقل أن يكون مذ بعث الله نبيه عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة قد أمنا أن يقتل منا أحد بألف كافر قتلهم خطأ ثم يتكلف عليه الصلاة والسلام إخبارنا بأن لا يقتل المؤمن بكافر قتله خطأ ثم لا يبين لنا ذلك إلا بكلام مجمل لا يفهم منه هذا المعنى، إنما يأتي به المتكلفون لنصر الباطل، وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أعطى جوامع الكلم، وأمره ربه تعالى بالبيان لنا: فلا، ولا كرامة، لقد نزهه الله عز وجل عن هذا وباعده عن أن يظن به ذلك مسلم"[1][46]

      ويقول ابن حزم أيضاً: "وقالوا في قوله عليه الصلاة والسلام (لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده) تقديم وتأخير، إنما أراد أن يقول: لا يقتل مؤمن، ولا ذو عهد في عهده بكافر ـ وقد صح ـ بلا خلاف ـ وجوب قتل المعاهد بالذمي. فصح أنه إنما أراد بالكافر: الحربي. قال أبو محمد: إذ وجد نص منسوخ لم يحل لأحد أن يقول في نص آخر لم يأت دليل بأنه منسوخ: هذا منسوخ. وقالوا (الأحناف): إن الشعبي هو أحد رواة ذلك الخبر وهو يرى قتل المؤمن بالذمي؟ فقلنا (ابن حزم): هذا لم يصح قط عن الشعبي، لأنه لم يروه إلا ابن أبي ليلى ـ وهو سئ الحفظ، وداود بن يزيد الزغافري ـ وهو ساقط. ثم لو صح ذلك لكان الواجب رفض رأيه واطراحه. والأخذ بروايته. لأنه وغيره من الأئمة موثوق بهم في أنهم لا يكذبون لفضلهم غير موثوق بهم بأنهم لا يخطئون، بل كل أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معصوم من الخطأ ولا بد، وليس يخطئ أحد في الدين إلا لمخالفة نص قرآن، أو نص سنة بتأويل منه قصد به الحق فأخطأه. فهذا ما اعترضوا به فقد أوضحنا سقوط أقوالهم. وأما احتجاجهم بخبر ابن المنكدر وربيعة عن ابن البيلماني فمرسلان ولا حجة في مرسل. فإن لجوا: قلنا لهم: دونكم مرسلاً مثلهما ـ نا حمام بن أحمد نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الديري نا عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن شعيب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض على كل مسلم قتل رجلاً من أهل الكتاب أربعة آلاف درهم، وأنه ينفى من أرضه إلى غيرها). وأما قصة عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وقتله الهرمزان، وجفينة وبنت أبي لؤلؤة ـ فليس في الخبر نص، ولا دليل على أن أحداً قال بقتل جفينة ـ فبطل بذلك دعواهم. وصح أنه إنما طولب بدم الهرمزان فقط، وكان مسلماً ـ ولا خلاف في القود للمسلم من المسلم، فلا يجوز أن يقحم في الخبر ما ليس فيه بغير نص ولا إجماع. ومن غرائب القول: احتجاج الحنفيين في الفرق بين قاتل المستأمن فلا يقيدونه به، وبين قاتل الذمي فيقيدونه به. فإن قالوا: الذمي محقون الدم بغير وقت، والمستأمن محقون الدم بوقت ثم يعود دمه حلالاً إذا رجع إلى دار الحرب؟ ولا ندري من أين وجب إسقاط القود بهذا الفرق، وكلاهما محرم الدم إذا قتل: تحريماً مساوياً لتحريم الآخر. وإنما يراعى الحكم وقت الجناية الموجبة للحكم ـ لا بعد ذلك ـ ولعل المستأمن لا يرجع إلى دار الحرب، ولعل الذمي ينقض الذمة ويلحق بدار الحرب فيعود دمه حلالاً ولا فرق "[1][47]

      · الرأي المختار:

      رجح جماعة من المعاصرين رأي الأحناف منهم أبو زهرة وفاروق النبهان ويوسف علي محمود ومحمد سليم العوا وآخرون.

      ذكر أبو زهرة بعد تحقيقه لهذه المسألة: "وإننا مع إجلالنا لآراء تلك الكثرة من الفقهاء لا نجد تلك الأدلة مسوغة لإسقاط القصاص بالنسبة لقتل غير المسلم، فالدليل الأول غير سليم في المقدمة؛ لأن الخطاب للمؤمنين لا يقتضي أن يكون القصاص خاصاً بقتلى المسلمين، إذ الخطاب للمؤمنين باعتبارهم أهل التكليف، فهم المخاطبون بتنفيذ الأحكام الشرعية، سواء أكانت تطبق على المسلمين وحدهم أم تطبق على المسلمين وغيرهم، والتعبير بقوله تعالى (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان)[1][48] لا يقتضي الاقتصار على قتلى المؤمنين وحدهم؛ لأن هذا النص خاص بالعفو وليس خاصاً بالقصاص، وما يكون في مقام العفو قد يكون خاصاً بالمؤمنين فيما بينهم، وأما فيما بينهم وبين غيرهم لا يكون مجالاً للعفو، هذا على فرض أن الأخوة لا تكون إلا أخوة الدين، فلماذا لا تكون أخوة الآدمية والإنسانية، ولا يكون ثمة تخصيص، بل الحكم يكون عاماً، وإن قريشاً وهم على الشرك لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا خيراً أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ولم يرد النبي ذلك، بل عاملهم كما عامل يوسف إخوته، وهو عليه الصلاة والسلام قرر في هذه الأخوة الإنسانية العامة في قوله عليه الصلاة والسلام: (كلكم لآدم وآدم من تراب) والآيات في ذلك كثيرة. وأما الدليل الثاني، وهو الحديث (لا يقتل مسلم بكافر) وهو الذي جر الكثرة من الفقهاء إلى ذلك الرأي ـ فنقول فيه إن الحديث كان وارداً في الحربي لا في الذمي، فإن الذمي وإن كان كافراً كان تعبير النبي صلى الله عليه وسلم عنه بالذمي. وأما الذمي غير محقون الدم بإطلاق، بل بقيد الوفاء بالذمة، فالمسلم كذلك محقون الدم بقيد البقاء في الإسلام، فإن زايله قتل"[1][49]

      أما يوسف علي محمود فيقول: "من مناقشة الأدلة السابقة يترجح لنا صحة قول الحنفية ومن معهم في قتل المسلم بالذمي للأسباب الآتية:

      (1) للأدلة التي احتج بها الحنفية. (2) إن قتل المسلم بالذمي يحقق الحكمة التي من أجلها شرع القصاص كما قال تعالى: ((ولكم في القصاص حياة) ففي القصاص حياة للمسلم والذمي على حد سواء. (3) لو لم يقتل المسلم بالذمي لأدى ذلك إلى مخالفة القاعدة المقرة (لهم مالنا وعليهم ما علينا)"[1][50]

      أما فاروق النبهان فقد اكتفى بترجيح أبي زهرة ومال إليه.[1][51]

      أما العوا فقد قال: "وعلى أساس هذه الحجج وغيرها يؤيد معظم المعاصرين رأي الأحناف في وجوب قتل المسلم إذا اعتدى هو بالقتل على الذمي: أي أنهم لا يفرقون بسبب اختلافهم في الدين بين المواطنين في الدولة في النتائج المترتبة على أفعالهم، ولا شك أن هذا الرأي يتفق مع المبادئ المسلم بها اليوم عالمياً في المساواة بين المواطنين في تطبيق القانون الجنائي عليهم"[1][52]

      ويرى عبد القادر عودة أن "رأي أبي حنيفة يتفق مع القوانين الوضعية الحديثة، فهي لا تفرق بين ذمي ومسلم فكلاهما يقتل بالآخر"[1][53]

      أقول:السبب في ذلك أن القوانين الوضعية المعمول بها في العالم العربي والإسلامي مصدرها قوانين فرنسية وإنجليزية كما أن نظرة القانون الوضعي إلى شخص الجاني أو المجني عليه تختلف عن نظرة الشريعة الإسلامية فالقانون الوضعي ينطلق من مفهموم المواطنة فينظر إلى الشخص الذي توافرت فيه شروط المواطنة سواء بالميلاد أو الإكتساب وينظم ذلك قانون التجنس للذين يكتسبون الجنسية بالشروط والضوابط المنصوص عليها ومن ثم كل من يطلق عليه مواطن ويقترف جريمة القتل العمد يعاقب بحكم القانون لا فرق بين مسلم أو نصراني أو يهودي أو أي صاحب معتقد آخر.

      فالبون شاسع بين النظرتين الوضعية والشرعية.. رغم أن نظرة الأحناف تتفق مع نظرة القوانين الحديثة إلا أن منطلق الأحناف واجتهادهم مصدره الشريعة الإسلامية ودليل ذلك أن الأحناف لا يرون قود المسلم بالكافر الحربي بمعنى أن هذا الكافر الحربي لو قتله مسلم فإن القانون الوضعي لا يبيح قتله لآحاد الناس بل إن من يقتله يخضع للعقاب لأن نظرية الدولة الحديثة ترى أنها هي صاحبة العقاب.

      كما أن الأحناف لا يرون أيضاً قتل المسلم بالمستأمن على المشهور في مذهب الأحناف عن أبي يوسف. بمعنى لو أن كافراً حربياً جاء مستأمناً لبلد ما وقتله رجل مسلم فإنه قد يقتل به طبقاً للقانون العقوبات الوضعي أما الأحناف فلا يرون القصاص من المسلم الذي قتل هذا المستأمن.

      فعلى سبيل المثال نجد أن قانون العقوبات المصري ينص في الكتاب الأول تحت عنوان (أحكام عامة) الباب الأول (قواعد عمومية) تنص المادة الأولى: "تسري أحكام هذا القانون على كل من يرتكب في القطر المصري جريمة من الجرائم المنصوص عليها فيه. مادة 2 تسري أحكام هذا القانون أيضاً على الأشخاص الآتي ذكرهم: أولاَ: كل من ارتكب في خارج القطر فعلاً يجعله فاعلاً أو شريكاً في جريمة وقعت كلها أو بعضها في القطر المصري. م3: "كل مصري ارتكب وهو خارج القطر المصري فعلاً يعتبر جناية أو جنحة في هذا القانون يعاقب بمقتضى أحكامه إذا عاد إلى القطر وكان الفعل معاقباً عليه بمقتضى قانون البلد الذي ارتكبه"[1][54]

      هكذا نلاحظ أن قانون العقوبات المصري لم يفرق بين المسلم والذمي أو الحربي فيكفي أن يكون مواطناً مصرياً ومن ثم لو أن مسلماً قتل نصرانياً أو يهودياً أو أي شخص من ديانة أخرى سواء كان هذا الشخص مصرياً أو أجنبياً فقانون العقوبات تسري أحكامه على المسلم القاتل ويحكم عليه بالإعدام في حالة توافر أركان جريمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد المنصوص عليها في المنظومة القانونية.

      صفوة القول

      بعد هذا التطواف حول آراء فقهاء المذاهب الإسلامية أرى أن الرأي القائل بعدم قتل المسلم بالكافر الذمي أولى بالاعتبار وذلك للأسباب التي ذكرها جمهور الفقهاء وأهل الحديث بالإضافة إلى الأسباب التالية:

      أولاً: فعلى الرغم من وجاهة قول الأحناف وبعض العلماء المعاصرين كأبي زهرة فإن في النفس شيئاً من قبول رأي الأحناف وذلك لصحة حديث (لا يقتل مسلم بكافر)[1][55] الذي رواه البخاري.

      ثانياً: ضعف أدلة الأحناف مثل استشهادهم بحديث ابن البيلماني (أنا أحق من وفى بعهده). ولتناقض الأحناف؛ ففي الوقت الذي يقولون بقتل المسلم بالكافر الذمي.. لا يرون قتل المسلم بالمستأمن أو المعاهد وهو المشهور عند أبي يوسف. رغم أنهم يحتجون بآية القصاص (كتب عليكم القصاص في القتلى) وأفاضوا في شرح هذه الآية وبينوا وجه العدل والإنصاف في قتل المسلم بالكافر الذمي لكنهم خالفوا قاعدتهم المذكورة في قتل المسلم بالكافر المستأمن.. فقالوا بعدم قتل المسلم بالمعاهد أو المستأمن!! فأين عموم النص هنا ولماذا لم يشمل المعاهد أو المستأمن الذي دخل دار الإسلام بأمان؟! وكما ذكرت آنفاً أن الفقيه الحنفي الشهير زفر وهو من سادة وأحد أعمدة الأحناف قد رجع عن رأي أبي حنيفة كما ذكر ابن حجر في الفتح (فاشهد علي أني رجعت عن هذا).

      ثالثاً: لقد رد ابن السمعاني على الأحناف رداً وجيهاً:

      "وأما حملهم الحديث على المستأمن فلا يصح لأن العبرة بعموم اللفظ حتى يقوم دليل على التخصيص ومن حيث المعنى أن الحكم الذي يبنى في الشرع على الإسلام والكفر إنما هو لشرف الإسلام أو لنقص الكفر أو لهما جميعاً. فإن الإسلام ينبوع الكرامة، والكفر ينبوع الهوان، وأيضاً إباحة دم الذمي شبهة قائمة لوجود الكفر المبيح للدم، والذمة شبهة قائمة لوجود الكفر المبيح للدم، والذمة إنما هي عهد عارض منع القتل مع بقاء العلة فمن الوفاء بالعهد أن لا يقتل المسلم ذمياً، فإن اتفق القتل لم يتجه القول بالقود لأن الشبهة المبيحة لقتله موجودة ومع قيام الشبهة لا يتجه القود"[1][56]

      رابعاً: مما يعضد وجهة نظرنا في عدم الارتياح للأخذ برأي الأحناف ما ذكره البخاري في صحيحه: باب إذا لطم المسلم يهودياً عند الغضب. ثم ساق بسنده: "عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لُطِم وجهه فقال: يا محمد إن رجلاً من أصحابك من الأنصار قد لطم وجهي. فقال: ادعوه. فدعوه. فقال: ألطمت وجهه. قال: يارسول الله إني مررت باليهود فسمعته يقول: والذي اصطفى موسى على البشر، ثم قال: فقلت: أعلى محمد صلى الله عليه وسلم. قال: فأخذتني غضبة فلطمته. قال: لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جزي بصعقة الطور"[1][57]

      أقول: الشاهد هنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقصاص واكتفى بقوله (لا تخيروني من بيين الأنبياء) وهذا ما ذهب إليه البخاري وذكره ابن حجر في الفتح حيث قال: "قوله (باب إذا لطم المسلم يهودياً عند الغضب) أي لم يجب عليه قصاص كما لو كان من أهل الذمة، وكأنه رمز بذلك إلى المخالف يرى القصاص في اللطمة فلما لم يقتص النبي صلى الله عليه وسلم للذمي من المسلم دل على أنه لا يجري القصاص"[1][58]


      هوامش

       

      هذا البحث من كتاب فضيلة الشيخ الدكتور هاني السباعي (القصاص) طبعة 1425هـ الموافق 2004م.[1][1]

      [1][2] ابن حجر: فتح الباري / ج14 / ص258.

      [1][3] أبو داود: سنن أبي داود / ج4 / الحديث رقم 4530. أقول: تتبع الزيلعي عدة روايات لهذا الحديث وللذي سبقه قائلاً: " قلت: أخرجه البخاري "في كتاب العلم"، وفي موضعين في "الديات" عن أبي جحيفة، قال: سألت علياً هل عندكم شيء مما ليس في القرآن؟ فقال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر، انتهى. وأخرج = أبو داود، والنسائي عن قيس بن عباد، قال: انطلقت أنا، والأشتر إلى علي رضي اللّه تعالى عنه، فقلت له: هل عهد إليك رسول الله صلى اللّه عليه وسلم شيئاً لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا، إلا ما في كتابي هذا، فأخرج كتاباً من قراب سيف