فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      دراسة مقارنة في الشعر العربي - القسم الرابع والأخير

      دراسة مقارنة في الشعر العربي  .. القوس العذراء مثالاً

      الحمد لله والصلاة والسلام والسلام على رسول الله ﷺ وآله وصحبه ومن والاه، وبعد

      القسم الرابع

      1)    وقبل هذا، كانت ليلة لا مثلها ليلة، تناجيا فيها بعد أن قدّت له صكّ الوفاء، وقدّم اليها فرض الولاء، فحنى عليها، ووألبسها ما يحفظ عليها متنها من قطر الندى، بعد ان انصرف عنها حزن فراق أحبتها، ألبسها ما يحفظها، ونام وعليه سمل من اللباس لا يعنيه!

      كـَأَنَّ عَلَيْهَـا زَعْفَرَانَاً تَميرُهُ *** خـَوَازِنُ عَطـَّارٍ يَمـَان كَوَانِزُ

      إذَا سَقَط الأَنْدَاءُ، صِينَتْ وأُشْعرِتْ *** حَبِيرًا، وَلَمْ تُدْرَجْ عَلَيهَا المَعَاوِزُ

      فكان صدى شاعرنا:

      يُغَازِلُهَا، وَهْيَ مُصْفَرَّةٌ، عَلَيْها بَقِيَّةُ حُزْنٍ رَحَلْ

      تُنَاسِمُهُ ([1]) عِطْرَها، وَالشَّذَا شَذَا زَعْفَرانٍ عَتِيقِ الأَجَلْ

      تَوَارَثْنَهُ الغِيدُ يَكْنِزْنَهُ لِزِينَتِهنَّ، خَفِيَّ المَحَلّْ

      فَسَاهَرهَا ([2]) يَزْدَهِيِه الجَمَالُ وَيُسكِرُهُ العَرْفُ، حَتَّى ذَهَلْ

      فَنَادَتْهُ : وَيْحَكَ! أَهَلَكْتَنِي! أَغِثْنِي... هَذَا النَّدَى قَدْ نَزَلْ

      فَطَارَ إلَى عَيْبَة ([3]) ضُمِّنَتْ حَرِيرًا مُوَشَّى نَقِيَّ الخَمَلْ

      كَسَاهَا حَفِيّ بهَا عَاشِقٌ! إذَا أَفْرَطَ الحُبُّ يَوْمًا قَتَلْ

      فَأَلْبَسَها الدِّفْءَ ضِنَّا بِها... وَبَاتَ قَرِيرًا ([4]).. عَلَيْه سَمَلْ!!

      2)     ثم يأتي الموقف الرهيب المهيب، الذي تفتقت عنه عبقرية الشمّاخ، من قبل قرون خمسة عشر، فلتقفها خيال شاعرنا، فأضاف وفَصّل وجعله موقف يمثل جزءاً من حياة كلّ إنسان يمتلك شعورا بمعنى الحياة، حلوها ومرّها، فرحها وترحها، وما تأتي به حوادثها من تقلبات، تعترى حياة الناس، فتسلب غالياً، وتُذبلُ وارفاً.. لكنها، في آخر الأمر، تُقدّم النهار مهما طال الليل، وتعرِضُ الأمل مهما تغلغل اليأس، عكس ما قصد الشمَّاخ كما سنرى.

      توجه القوّاس إلى موسم الحج، حيث يبيع الناس ويشترون، وحيث يجتمع خبراء التحف و صيادو الفرص، يغتنمون حاجة المحتاج وفاقة الفقير. فما لبس أن رمقت عينا أحدهم تلك القوس العذراء في فتوتها وقوتها، بعينيّ نمر يتربص بفريسته

      عرض ذلك المترصد المال والمتاع ما أذهل القوّاس البائس، المُفرط في الحاجة عن صنيعة يديه

      فوافى بها أهلَ المواسمِ فانبرى    لها بيعٌ يغلي بها السومَ رائزُ[5]

      فقال لهُ : هل تشتريها فإنها      تباعُ بما بيعَ التلادُ الحرائزُ[6]

      فقال : إزارٌ شرعبيٌّ وأربعٌ        من السِّيَراءِ أو أَواقٍ نواجزُ[7]

      ثمانٍ من الكيريَّ حمرٌ كأنها      من الجَمْر ما ذّكى من النارِ خابِزُ[8]

      وبُردانِ من خالٍ وتسعون درهماً  ومعْ ذاكَ مقروظٌ من الجِلْد ماعِزُ[9]

      وفي نسخة الشمّاخ، لم يكل الحوار أكثر من فكرة عابرة، دارت في خلده، ومعركة بين الحفاظ على تليده الجديد، أم أن يشريه بما يفيد في زمنه الماحل العنيد؟

      فظلَّ يناجي نفسه وأميرها        أيأتي الذي يُعطى بها أم يُجاوزُ[10]

      وجاءت أصوات الجمهور من حوله، تدفعه دفعا إلى أن يبع ما لديه، إذ هي صفقة، في نظر من لم يعاني صنعتها، جديرة بالاعتبار والقبول

      فقالوا لهُ بايعْ أخاك ولا يَكُنْ      لكَ اليومَ عن رِبْحٍ من البيع لاهِزُ[11]

      فجاء القرار سريها، والبدل أسرع، ثم خيبة الأمل والحزن أسرع وأسرع، فنسحب القواس من الساحة، يجرّ أذيال الخيبة والحسرة، على ما معه من جنى الثمن الي باع به صنعة يديه.

      فلما شراها[12] فاضتِ العينُ عبرة ً  وفي الصّدرِ حُزّازٌ من الوجْد حامِزُ[13]

      هذا هو! تلك هي نهاية الموقف المهيب. استسلام الفقر للغنى، وبيع المحب لمن أحب بالمال، فالفقر ضعف لا قوة معه، والعوز قوة لا مقاومة له.

      وبهذا البيت أنهى الشمّاخ رحلته مع القوس، وسجّل فراقه لها مهزوما مدحورا، فاقدا للأمل، عازفا عن الدنيا.

      فماذا كان موقف شاعرنا في هذا الموقف العصيب الرهيب؟

      3)     الصراع النفسي عند محمود شاكر

      كانت معالجة شاعرنا لذلك الموقف ذاته، مختلفة إلى حدٍ كيير عن معالجة الشمّاخ. فقد أوحى له الموقف العاصف بالمشاعر الإنسانية، بين التردد والإقدام، والأمل واليأس، والعزة والحاجة، والإقدام والإحجام، ما جعل هذه القصيدة جوهرة فريدة في نوعها بين فرائد الشعر التمثيلي، كما في مجنون ليلى لشوقي على سبيل المثال، إنما الفرق أن شاكر قد أقام ليلاه من غصن صنعته يداه، فكانت أقرب له من ليلى قيس!

      تمادى شاعرنا في وصف العلاقة المتطاولة النامية بينه وبين قوسه، فهي ليست أياما قليلة العدد، بل زمن طويل، وليالٍ ذات عدد، يسير بها، بين طلول بادت، ومنازل زالت، لأقوام ما بقي منهم إلا خبر يتردد بين الناس في سمرْ.

      صاحبته القوس، ليله ونهاره، في صعوده الجبل وانحداره للواد، بين الأدغال الكثيفة والأشجار المنيفة، يتحاكيا بينهما بسرٍ لا يفهمه عنهما أحدٌ، إلا هما. وهي كالطالبة بين يدي معلمها، يهديها حكمة الزمن، ويريها سنن تقلباته، وتقلبات الناس به، مؤكدا لها أنه ضنين بها أن يجعلها تحيا تلك الحياة المرة الشاقة التي يحياها الناس، "فَعَرْشٌ يَخِرُّ، وَسَاعٍ يَقَرُّ ([14])، وَسَاقٍ يَمِيلُ.. وَنَجْمٌ أَفَلْ!"    

      وتجلّت الحكمة له، ولها، أنّ وفاء الأخلاء نادرٌ عزيز، وأنّ البعد عن الخلق مغنم لا مغرم، ففيهم الواشي وفيهم الحاسد وفيهم الخصم المقارع، فما لهم ولهذه المناوشات التي تملّ منها النفوس، لكنها لا تملّ من صحبة الخليل الودود.

      تَمَتَّع دَهْرًا بأَيَّامِهَا وَلَيْلاَتِهَا نَاعِماً قِدْ ثَمِلْ ([15])

      يَرَاهَا، عَلَى بُؤْسِهِ، جَنَّة تَدَلَّتْ بِأَثْمَارِهَا، فَاسْتَظَلّْ

      تُصَاحِبُهُ فِي هَجِير القِفَارِ، وَفِي ظُلَم الَّليْلِ أَنَّى نَزَلْ

      فَيَحْرُسُهَا وَهْو فِي أَمْنَةٍ  ([16])، وَتَحْرُسُهُ فِي غَوَاشِي الوَجَلْ

      يَجُوبُ الوِهادَ ([17])، وَيَعَلُو النِّجادَ، وَيَأْوِي الكَهُوفَ، وَيَرْقَى القُلَلْ

      ويُفْضي إلَى مُسْتَقَّر الحُتُوفِ: فِي دَارِ نِمْرِ، وَذِئْبٍ، وَصِلّْ ([18])

      مَنَازِلَ عَادٍ، وَأَشْقى ثَمُودَ، وَحِمْيَرَ، وَالبَائِدَاتِ ([19]) الأُوَلْ

      مَجَاهِلَ مَا إنْ بِهَا مِنْ أَنِيسٍ، وَلاَ رَسْم دَارٍ يُرَى أَوْ طَلَلْ

      يُعَلِّمُهَا كَيْفَ كَانَ الزَّمَانُ، وَمَجْدُ القَدِيم، وَكَيْف انَتَقَلْ!

      وَكَيْفَ تَسَاقَى بِهَا الأَوَّلُونَ رَحِيقَ الحَيَاةِ وَخَمْرَ الأَمَلْ!

      وَأَيْنَ الأَخِلاَّء كَانُوا بِها يَجُّرونَ ذَيْلَ الهَوَى وَالغَزَلْ!

      وَملْكٌ تَعَالَى، وَطَاغٍ عَتَا، وَحُر أَبَى وَحَرِيصٌ غَفَلْ!

      فَدَمْدَمَ ([20]) بَيْنَهُمُ صَارِخٌ: بَقَاء قَلِيلٌ!! وَدُنْيَا دُوَلْ!!

      فَعَرْشٌ يَخِرُّ، وَسَاعٍ يَقَرُّ ([21])، وَسَاقٍ يَمِيلُ.. وَنَجْمٌ أَفَلْ!!

      زَهِدْتُ إليْك وَفَارَقْتُهُمْ أَخِلاَّءَ عَهْدِ الصِّبَا وَالجَذَلْ

      فَنِعْمَ الصَّدِيقُ! وَنِعْمَ الخَلِيلُ وَنِعْمَ الأَنِيسُ.. وَنَعْمَ البَدَلْ!!

      صَدِيقٌ ([22]) صَدَاقَتُها حُرَّةٌ، وَخِل خِلاَلَتُهَا لاَ تُمَلّْ

      وَغَابَا مَعًا عَنْ عُيُونِ الخُطُوبِ، وَعَنْ كَلِّ وَاشٍ وَشى أَوْ عَذَلْ

      وَعَنْ فِتْنَةٍ تُذْهِلُ العَاشِقَيْن، تُضِيءُ الدُّجَى لِدَبِيبِ المَلَلْ

      لكن هل تصفو الدنيا لأحدٍ، أيّا كان؟ لا، ولن يكون، فهي " بَقَاء قَلِيلٌ!! وَدُنْيَا دُوَلْ!!".

      احتاج الصياد إلى أن يوافي موسم الحج، يبتاع ما يحتاجه الحيّ من متاعٍ وإن قلّ وحاجات وإن ندرت. فحمل قوسه وراح في طريقه، بعد أن استشارها واسشارته، وهو لا يعلم ما يخبئ له القدر، ولها!

      وَطَالَ الزَّمَانُ، فَحَنَّتْ بِهِ إلى الحَجِّ دَاعِيَةٌ تَسْتَهلّ ([23])

      آَذَانٌ مِنَ اللّْهِ! كَيْفَ القَرَارُ؟ وَأَيْنَ الفِرَارُ؟ وَكَيْفَ المَهَلْ ([24])

      تُرَدِّدُهُ البَيدُ بَيْنَ الفِجَاجِ، وَفَوْقَ الجِبَالِ، وَعِنْدَ السُّبُلْ

      أَصَاخَ لَهُ، وَأصَاخَتْ لَهُ، وَلَبَّتْهُ فَاْمْتَثَلتْ، وَامْتَثَلْ

      وَطَارَا معًا كَظِمَاءِ القَطَا ([25])، إلَى مَوْرِدٍ زَاخِرٍ مُحْتَفِلْ

      فَوَافى المَوَاسِم. فَاسْتَعْجَلتْ تُسَائلُهُ: مَنْ أَرَى؟.. أَيْن ضَلْ؟

      أَسَرَّ إلَيْها: أولاَكِ الحَجِيجُ!! فَلَبَّى لِرَبٍ تَعَالَى وَجَلْ

      ثم ترى القواس حين دخل موطن الحجيج، وموضع السوق فيه، آتيا من باديته، حاملاً قوسه، يواجه جموعاً كثيفة من البشر، يسعى كلّ لحاجته، فهم منشغلون بأنفسهم عن أنفسهم، وهم الشاغل والمشغول.

      وفي هذا الحجيج، ذي الضجيج والعجيج، إذا بذئب بشريّ يترصّد، يلمح "ذات القدّ المعتدل" فيتوله بها، ويرقبها بعيون كجمرة نار، أو كسيف بتَّار، وهي ترى ما تراه، واجلة جافلة، خائفة تترقب. ولا يلبث إلا أن يتبع قواسها، فيبغته بأن يمسّ خليلته، وإذا بخليلها يتركها للذئب، يحملها على كفه، فترتعش راجفة منزعجة لا تكاد تصدق ما فعله.

      وَنَادَتْهُ جَافِلَةً ([26]): مَا تَرَى! أَجَذْوَة نَارٍ أَرَى أَمْ مُقَلْ؟

      فَمَا كَادَ... حَتَّى رَأَى كَاسِرًا ([27]) تَقَاذَف مِن شَعَفَاتِ الجَبّلْ

      يُدَانِي الخُطَا، وَهْوَ نَارٌ تَؤُجُّ ([28])، وَيُبْدِي أَنَاةً تَكْفُّ العَجَلْ

      وَمَدَّ يَدا لا تَرَاها العُيُونُ، أَخْفَى إذَا مَا سَرَتْ مِنْ أجَلْ

      وَنَظْرَةَ عَيْنٍ لَهَا رَوْعَةٌ، تُخَالُ صَلِيلَ سُيُوفٍ تُسَلّْ

      فَلَمَّا أَهَلَّ وَأَلْقَى السَّلاَمَ، واْفتر عَنْ بَسْمِة المخْتَتِلْ ([29])

      وَقَالَ : أذِنْتَ؟! وَيُمنَى يَدَيْه تَمَسُّ أَنَامِلُهَا مَا سَأَلْ

      رَأَى بَائسا مَالهُ حُرْمةٌ تَكُفُّ أَذىً عنه..، بُؤْسٌ وذُلْ

      وَقَالَ : فَدَيْتُكَ! مَاذَا حَمَلتَ؟ وَمَاذَا تَنَكَّبْتَ ([30]) ياَذَا الرِجُلْ؟!

      وَأَفْدِي الَّذِي قَدْ بَرَى عُودَهَا، وَقَوَّمَ مُنْآدَها ([31])، وَاعْتَمَلْ!!

      فَهَزَّتْهُ مَا كِرَةٌ، ([32])لم يَزَلْ يَتِيهُ بِهَا السَّمْعُ، حَتَّى غَفَلْ

      فَأَسْلمَهَا لِشَدِيد المِحَالِ ([33])، ذَلِيقِ الِّلسَانِ، خَفِيِّ الحِيَلْ

      فَلَمَّا تَرَامَتْ عَلَى رَاحَتَيْه، وَرَازَ ([34]) مَعَاطِفَهَا وَالثِّقَلْ

      دَعَتْ: يَاخَلِيليَ! مَاذَا فَعَلْتَ؟! أَأَسْلَمْتَني؟! لِسَوَاكَ الهَبَلْ ([35])!!

      فَخَالَسَهَا ([36]) نَظْرَةً خَفَّضَتْ غَوَارِبَ جَأْشٍ غَلاَ بِالوَهَلْ

      قال الشمّاخ

      فَظَلَّ يُنَاجِي نَفْسَهُ وَأمِيرِهَا  ***  أيَـأْتِي الَّذِي يُعْطى بِهـَا أَمْ يُجـَاوزُ

      ثم بدأت المساومة. وراح الشاري يعرض ما لديه، يغري به حاحب الحاجة وشديد العوَز، ويتلاعب بما في نفسه من حبٍّ وتعلقٍ بقوسه التي زاملته مزاملة الخليلة الوفية، زمنا طويلا، وبادلته عشقا بعشق، ورعاية برعاية.

      قال الشمّاخ

      فَظَلَّ يُنَاجِي نَفْسَهُ وَأمِيرِهَا  ***  أيَـأْتِي الَّذِي يُعْطى بِهـَا أَمْ يُجـَاوزُ

      لكن شاعرنا راح، في أكثر من خمسة وثلاثين بيتا، يصف، بأدق وصف، اعتمال الأحاسيس وازدحام النفس بتلك المشاعر المتضاربة. قلق، واضطراب، وذهول، ودهشة، أستبدت بالخليلة المحبة، التي لا تكاد تُصدّق أن صاحبها تراوده نفسه في بيعها والتخلي عنه. وقواسّ ذاهل عن مشاعره، لا يرى ما يُكاد له، حالماً بغنى، وسد حاجات عرت عنها يداه زمن، فهو عن ندائها واستشفاعها بما كان بينهما في شُغُل.

      وَقَالَ : لَكَ الخَيْرُ! فَدَّيْتَنِي بنَفْسِكَ!!

      ـ بَارِي قِسِيّ!

      ـ أَجَلْ!!

      فَبِعْنِي إذَنْ!!

      ـ هِيَ أغـْلَى عَلَّي، إذَا رُمْتَهَا، مِنْ تِــلاَدٍ ([37]) جـَلَلْ!

      فَقَالَ : نَعَمْ! لَكَ عِنْدِي الرِّضى، وَفَوْقَ الرِّضَى!

      ـ [وَيْلهُ مَنْ مُضِلْ!]

      فَهَلْ تَشْتَرِيهَا ([38]) ؟!..

      ـ نَعَمْ أَشْتَرِي!

      ـ لَكَ الوَيْلُ مِثْلُك يَوْمًا بَخِلْ!

      فَدَيْتُكَ!! أَعْطَيْتُ مَا تَشْتَهِيهِ!.. مَابِيَ فَقْرٌ ولا بِي بَخَلْ ([39])!

      فَنَادَتْهُ، وَيْحَكَ! هَذَا الَخِبيثُ! خُذْنِي إَليْكَ، وَدَعْ مَا بَذَلْ

      فَبَاسَمَها ([40]) نَظْرَةً..، ثُمَّ رَدَّ إلَى الشَّيْخِ نَظْرَةَ سُخْرٍ مُطِلّْ:

      بكَمْ تَشْتَرِيها؟!..

      فَصَاحَتْ بِهِ : حـَذَارِ! حـَذَارِ! دَهَـاكَ الخَبَلْ!!

      لَهُ رَاحَةٌ نَضَحَتْ ([41]) مَكْرهَاَ عَلَي، فَدَع عَنْكَ! لاَ تُغْتَفَلْ

      فَقَالَ : إزَارٌ مِنْ الشَّرْعَبِيِّ ([42]) وَأَرْبَعُ مِنْ سِيَرَاءِ الحُلَلْ

      بُرُودٌ تَضِنُّ بِهِنَّ التِّجَارُ ([43]) إذَا رَامَهُنَّ مَلِيكٌ أَجَلّْ

      وَمِنْ أَرْضِ قَيْصَرَ : حُمْرٌ ثَمَانٍ جَلاَهَا ([44]) الهِرَقْلِيُّ، مِثْلُ الشُّعَلْ

      ثَمَان تُضيءُ عَليكَ الدُّجَى! إذا عَمِيَ النَّجْمُ، نعمَ البَِدلْ

      وَبُرْدَانِ من نَسْجِ خَالٍ ([45])، أَشَف وَأَنْعَمُ مِنْ خَدِّ عَذْرَاءَ..، بَلْ

      إذَا بُسِطَا َتْحَتَ شَمْسِ النَهارِ، فَالشَّمْسُ تَحْتَهُمَا..، لَيْسَ ظِلّْ

      وَتِسْعُون مِثْلُ عُيُونِ الجَرَادِ..، بَرَّاقَةٌ كَغَدِيرِ ([46]) الوَشَلْ

      كَمِرْآةِ حَسْنَاءَ مَفْتُونٍة، كَرَأْسِ سِنَانٍ حَدِيثٍ صُقِلْ

      أَجَلْ..!! وَأَدِيمٌ ([47]) كَمِثْلِ الحَرِيرِ، يُطْوَى وَيُرْسَلُ مثْلَ الخَصَلْ

      وَحَوْلَهُمَا زَفَرَاتُ الزِّحَامِ، وَأَذْنٌ تَمِيلُ، وَرَأْسٌ يُطِلّْ

      وَغَمْغَمَةٌ ([48])، وَحَدِيثٌ خَفِيٌ وَنَغْيَةُ زَارٍ، وآتٍ سَأَلْ

      وَعَاشِقةٌ في إِسَارِ ([49]) السوَامِ!! وَعَاشقُها في الشَرَاكِ اُحْتُبِلْ

      تُنَادِيه مَلْهُوفَة تَسْتَغِيثُ، ضَائَعَةُ الصَّوْتِ..، عَنْهَا شُغِلْ

      هي الحاجة اللعينة تفرض نفسها على الإنسان، فتلتوي به عن الطريق السديد، طريق العزة والود والمحبة والوفاء والتضحية والاستعلاء، إلى طريق الرغبة والأنانية والمادية والانكفاء.

      4)     

      وفي بيت واحد، يلخص الشمّاخ ما يحدث في هذا الموقف المهيب

      فَقـَالوا لـهُ : بَايِعْ أَخـَاكَ.. وَلا يَكُنْ  *** لَكَ اليَوْمَ عَنْ رِبْحٍ مِنَ البَيْعِ لاَهِزُ

      يبدع شاعرنا في أبيات تقارب الأربعين بيتا.

      الجمع يتكاثر حول المتساومَيْن. الناس كعادتها، كلّ يدلى برأي لم يكالبه به أحد، يعرب به عن نفسه لو كان في محل البائع، يعكس حالته الذاتية، وكأنه يعين البائع والشاري! فمن يقول "بعْ"، ومن ينصح "لا تبعْ".

      وتدور الدنيا بالقواس، فتجرى في نفسه مجادلة عنيفة بين دافع الغني الذليل والفقر العزيز، الإقدام والإحجام، التقدم والتقهقر، يتنازعه خاطران، أن كيف وأنّى له أن يتركها تضيع من بين يديه

      أَجَلْ!! بَلْ هُوَ البؤْسُ بَادٍ عَليَّ! فأَغْراهُ بي! وَيْحَهُ! مَا أَضَلّْ!!

      يُسَاوِمُنِي المَالَ عَنهَا؟! نَعَمْ!.. إذَا لَبِسَ البُؤْسُ حُرَّا أَذَلّْ

      لكنه شديد البؤس والفقر، لا يكاد يشعر به الناس، وتخترقه، إلا إن تحدّث!

      إذَا مَا مَشَى تَزْدَرِيِه العُيُونُ، وَإنْ قَالَ رُدّ كَأَنْ لَمْ يَقُلْ

      نَعَمْ! إنَّهُ البُؤْسُ!! أَيْنَ المَفَرُّ مِنْ بَشَرٍ كَذِئَاب الجَبَلْ؟!

      حتى يصل إلى قرار، وياله من قرار .. أن باعها .. نعم باعها، وهو لا يكاد يعي ما فعل، كأن من باع غيره لا هو، فكيف يبيع أحدٌ نفسه، وكميف تهون عليه .. لكنه باع، هل باع حقاً؟ نعم باع، ومضى الرجل بغنيمته، تاركاً المتاع، واختفى عن العيون.

      [أَعُوذُ بِرَبِّي وَرَبّ السَمَاء وَالأرْض!.. مَاذَا يَقْولُ الرَّجُلْ؟!

      أَجُنَّ؟! نَعَمْ.. لاَ!.. أَرَى سُورةً ([50]) مِنْ العَقْل، لاَخَلجَاتِ الخَبَلْ!

      وَعَيْنَيْ صَفَاءِ كَمَاء القلاَتَ ([51])، وَعِرْنِينَ أَنْفٍ سَمَا وَاعتَدَلْ

      وَجَبْهَةَ زَاك ([52])، نَمَاهُ النَّعِيمُ في سُؤْدُدٍ وَسَرَاءٍ نَبُلْ

      أَيُعْطِي بِهَا المَالَ؟! هَذَا الخَبَالُ! قَوْس وَمَالٌ كَهَذَا؟ ثُكِلْ!!

      وَيَارَبِّ! يـَارَبِّ! مَاذْا أقَولُ؟.. أقَولُ نَعَـمْ!.لا فَهَذَا خَطَلْ

      أَبِيعُ!! وَكَيْفَ!.. لَقَدْ كَادَنِي ([53]) بِعَقْلِي هَذَا الخَبيثُ الَمِحْل

      أُفَارِقُها! وَيْكَ ([54])!! هَذَا السَّفَاهُ! قَوْسِيَ! كَلاَ! خَدَيني وَخِلّْ!!

      أَجَلْ!! بَلْ هُوَ البؤْسُ بَادٍ عَليَّ! فأَغْراهُ بي! وَيْحَهُ! مَا أَضَلّْ!!

      يُسَاوِمُنِي المَالَ عَنهَا؟! نَعَمْ!.. إذَا لَبِسَ البُؤْسُ حُرَّا أَذَلّْ

      إذَا مَا مَشَى تَزْدَرِيِه العُيُونُ، وَإنْ قَالَ رُدّ كَأَنْ لَمْ يَقُلْ

      نَعَمْ! إنَّهُ البُؤْسُ!! أَيْنَ المَفَرُّ مِنْ بَشَرٍ كَذِئَاب الجَبَلْ؟!

      ثَعَالبُ نُكْرٍ ([55]) تُجِيدُ النِّفَاقَ حَيْثُ تَرَى فُرْصةً تُهْتَبَلْ

      كلاَبٌ مُعَوَّدَةٌ لِلهَوَانِ تُبَصْبِصُ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ بَذلْ

      فَوَيْحِي مِنَ البُؤْسِ!.. وَيْلٌ لَهُمْ!!. أَرى المَالَ نُبْلاً يُعَلي السِّفَلْ ([56])

      فَخُذْ مَا أَتَيِتَ بِهِ..!! إِنَّه مَلِيك يُخَافُ، وَرَبٌ يُجَلّْ

      وَسُبْحَانَ رَبِّي! يَدِي! مَا يَدِي؟! بَرِيْتُ القِسِيَّ بها لم أَمَلْ!

      حَبَاني ([57]) به فاطِرُ النَيِرِّات وَبَاري النَّباتِ وَمُرْسِي الجَبَلْ!

      وَأَوْدَعَهَا سِرَّهَا عَالِم خَبِيرٌ بَمكْنُونِها لَمْ يَزَلْ!

      وَفِي المَالِ عَوْنٌ عَلى مِثْلِها! وَفِي البُؤْسِ هُونٌ ([58])، وَذُلٌّ، وَقُلّْ!]

      تَنَادَوْا بِهِ : أنْتَ؟! مَاذَا دَهَاكَ؟! مَالكَ يَا شَيْخُ؟! قُلْ يَا رَجُلْ!

      وَآتٍ يُصِيحُ، وَكَفٌّ تُشِيرُ، وَصَوْتٌ أَجَشُّ ([59])، وَصَوْتٌ يَصِلّْ!

      وَطَنَّتْ مَسَامِعُهُ طَنَّةً..، وَزَاغَتْ نَوَاظِرُهُ وَاخْتُبِلْ

      .. وَأَفْضَى إِلَيْهِ كَهَمْسِ المَرِيضِ أَشْفَى ([60]) عَلَى المَوْتِ مَا يَسْتَقِلّْ..

      تُنَادِيِه: وَيْحَكَ! وَيحِي!! هَلَكْتُ!! أَتَوْكَ بَقَاصِمَةٍ! وَآثَكَلْ!

      تَلَفتَ يَصْغِي..، وَمِثْلُ الَّلهيبِ ضَوْضَاءُ وَعْوَعَةٍ ([61]) فِي زَجَلْ

      فَهَذَا يُؤُجُّ ([62])..، وَهـَذَا يَعَجُّ..، وَهَذَا يَخُورُ..، وَهَذَا صَهَلْ!

      وَدَان يُسِرُّ..، وَدَاعٍ يَحُثُّ..، وَكَفٌّ تُرَبِّتُ: بِعْ يَا رَجُلْ!

      لَقَدْ بَاعَ! بْع! بَاعَ! لاَ لَمْ يَبِعْ! غِنَى المالِ! وَيْحَكَ! بعْ يَا رَجْل!

      [وَحَشْرجَةُ ([63]) الموْتِ: خُذْنِي.. إلِيكَ!!

      ـ لَبِّيْكِ!! لَبِّيْكِ!]

      بِعْ يَا رَجُلْ!!

      [أَغِثْنِي!. أَجَلْ!]

      بَاعَ! مَاذَا؟! أَبـَاعَ؟! نَعْم بَاعَ قَدْ بـَاعَ! حَقّاً فَعَلْ؟!

      [أَغِثْنِي! أَغِثْنِي! نَعَمْ!]

      قَدْ رَبِحْتَ!!.. بــُورِكَ مــَالُكَ!

      أَيْنَ الرَّجــُلْ؟!

      5)     الألم والأمل عند محمود شاكر

      قال الشمَّاخ نادما

      فلما شراها[64] فاضتِ العينُ عبرة ً          وفي الصّدرِ حُزّازٌ من الوجْد حامِزُ[65]

      بكى الرجل بعد أن باع، وما أشد دمعة الرجل على نفسه، وقد استشعى وخزُ الألم يحز صدره، ومرارة الهزيمة تملأ حلقه.

      ثم لا نعلم ما حدث بعد مع قواس الشمّاخ! فقد انتهت به القصة إلى هذا المشهد الحزين الأليم .. حيث ينتقل بعدها إلى ذكريات مضت مع قوسه الغالية، وما وهبته من إفزاع الطرتئد، وإسقاط الفرائس.

      لكن الأمر عند شاعرنا الشيخ كان مختلفا جدّ الإختلاف. فالقواس قد تجمد في مكانه لا يكاد يُصدّق ما حدث، بل ينكره ويُكذبه، لولا أنه لم ير الرجل أمامه، وعرف أنه باعها حين لم يجد خليلته القوس بين يديه، فراح يردد كالتائه الذي ينادى على مُسعِفْه، فلا يجد  إلا صدى صوته يؤكد له ضياع نفسه "بعتها بعتها بعتها،مراراً وتكراراً، إمعاناًآ في تعذيب نفسه بالحقيقة المرّة، وتأكيداً لها على أن الأمر قد تمّ وانقضى.

      مَضَى!.. أَيْنَ!.. لاَ، لَسْتُ أَدْرِي!.. مَتَى؟

      لَقَدْ بِعْتَ ؟!.. كــَلاّ وَكَــلاّ.. أَجَلْ!

      لَقَدْ بِعْتَ! قَدْ بِعْتَ!

      ـ كــَلاّ! كَذَبْتَ!

      لَقَدْ بِعْتَ! قَدْ بـــَاعَ!

      وَيْحِي! أَجـــَلْ

      لَقَدْ بِعْتُهَا.. بِعْتُهَا.. بِعْتُهَا.. جُزِيتُمْ بَخْيرِ جَزَاء، أَجَلْ!!..

      أَجَلْ بِعْتُهَا.. بِعْتُهَا. بِعْتُهَا!! أَجَلْ بِعْتُهَا!! لا،َ أَجَلْ لا،َ أَجَلْ

      [أَجَلْ.. لاَ أَجَلْ بِعْتُهَا! بِعْتُهَا!. أَجَلْ بعتها! بِعْتُهَا!.. لاَ أَجَلْ

      رأى انفضاض الناس من حوله، يهنأه بعضهم بنعم البدل، ويلومه البعض على فعلته، ويكذّب البعض ما يرى عليه من صورة الألم الممض، ويضحك منه البعض، ويُشفق عليه البعض الآخر. وهو لا يزال تائها، ذبيح الصوت غائم العينين، داميَ القلب، ينوء تحت هموم كالجبال فوق صدره، وهو قائم القاعد، كأنه قد شُلت أعضاءه فما بها من حراك، فكأنه قد قُدّ من ضخر، عديم الروح، فاقد للحياة.

      وفَاضَتِ دُمُوعٌ كَمِثْلِ الحَمِيم ([66])، لَذَّاعَةٌ، نَارُها تَسْتَهِلّْ

      بُكَاء مِنَ الجَمْرِ جَمْرِ القُلُوبِ، أَرْسَلهَا لاَعِجٌ ([67]) مِنْ خَبَلْ

      وَغَامَتْ بِعَيْنَيْهَ، وَاْسْتَنْزَفَتْ دَمَ القَلْبِ يَهْطِلُ فِيما هَطَل

      وَخَانِقَةٌ ذَبَحَتْ صَوْتَهُ، وَهيضَ ([68]) اللِّسَانُ لَهَا وَاعْتقِلْ

      وَأَغْضَى عَلى ذِلَّة مُطْرِقًا، عَلْيه مِنْ الهَمِّ مِثْلُ الجَبلْ

      أَقَامَ..، وَمَا إِنْ بِهِ مِنْ حَرَاكٍ، تَخَاذلُ ([69]) أَعَضَاؤُهُ كَالأَشَلّْ

      وَفِي أُذَنْيهِ ضَجِيجُ الزِّحَامِ، وَ«بعْ بَاعَ، بعْ بَاعَ، بعْ يَا رَجُلْ»!

      وَأَخْلَدَ فِي حَيْثُ طَارَ السوَامُ ([70]) بِمُهْجَتِهِ، كَأرُومٍ مَثَلْ

      كَأَنْ صَخْرةٌ نَبَتَتْ، حَيْثُ قَامَ، تِمثَال حُزْنٍ صَلُودٍ ([71]) عُتُلْ

      وَمِنْ حَوْلِهِ النَّاسُ مِثْلُ الدَّبَى ([72]) عِجَالاً تَنَزى، دَهَاهُنَّ طلْ

      فَمِنْ قَائِلٍ : فَازَ! رَدَّت عَلَيْهِ قَائِلَةٌ : لَيْتَهُ مَا فَعَلْ!

      وَمِنْ هَامِسٍ: وَيْحَهُ مَادَهَاهُ! وَمِنْ مُنْكِرٍ: كَيْفَ يَبْكِي الرَّجُلْ!

      وَمِنْ ضَاحِكٍ كَرْكَرَتْ ([73]) ضَحْكَةٌ لَهُ مِنْ مَزُوحٍ خَبِيثٍ هَزَلْ

      ومِنْ سَاخِر قَالَ : يَا آ كِلاً! تَلَّبسَ فِي سَمْتِ ([74]) مِنْ قَدْ أُكِلْ!

      وَمِنْ بَاسـِطٍ كَفَهُ كَالمُعَزِّي وَهَيْنمَةٍ ([75]) غَمْغَمَتَ لَمْ تُقَلْ

      وَمِنْ مَشْفِقٍ سـَاقَ إِشْفَاقَهُ وَوَلَّى، وَمُلْ