فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      أزمة اللسان .. وأزمة البيان

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه بعد

      العقل، بطبيعة تكوينه، أداة لصنع الأفكار وإفرازها، من خلفية البيئة والتعليم. واللسان، أو القلم، هو أداة إبراز هذا الإفراز، يدور بين الناس في شكل حوارات ونقاشات. وتتوقف القيمة الغذائية الفكرية لهذا الإفراز على رصيد المتكلم من أبواب العلم الذي يتحدث فيه، سواءً شرعيا أو وضعيا. وقد كان هذا الإفراز في الأيام الخوالي، يدور بين الناس في الدوائر الضيقة، يعبر كل امرئ عمّا يرى لمن حوله، لا تعدى المر ذلك، بينما يكون لأصحاب الشأن، ممن ثبت لهم قدرة في مجال ما على الإفرز المثمر المفيد فرصة أبرازه فيما عُرف من قبل باسم "الكتب والمرجع العلمية"! قبل أن يأتي عصر العالم الأكبر "جوجل" ليعطي كل فرد مادة كيمائية مصطنعة يضيفها لمحلول إفرازاته الواهية، 

      وقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أداة في غاية القوة، جعلت تحاورات الناس تكون على نطاق الأمم والشعوب لا الأفراد. ينطق "صاحب رأي" بكلمة فتدور بين آلاف بل بين مئات الآلاف في لحظات. 

      ولا شك أن لكل امرئ الحق في الحديث والتعبير عن الرأي، فالكلمة حقٌ موروث لا يمكن أن يُنتزع من أحد، إلا في الديكتاتوريات البغيضة. لكن المشكلة في المُستمع، إلى أي حديث يستمع، ولمن، وفي أي موضوع؟ كل فردٍ له حق الكلام، لمن ليس كل من تحدث استحق أن يُستمع اليه، إلا بشروط. 

      وأمر الحديث في شؤون العامة في الإسلام غيره في أيديولوجيات الدنيا كلها. فالحياة في الإسلام، سياسة واقتصاداً واجتماعا، سواء في مجال الأسرة أو الجماعة أو المجتمع، صغارا وكبارا، رجالا ونساءاً، هي من أمر الدين. وعقل الفرد وحده ومنطقه المحدود، لا يكفي أن يعطي المرء القدرة على إبداء الرأي الصائب في كثير من الأحيان، لا كلها. ذلك أن أحكام الإسلام بنيت على أن تتوافق مع العقل السويّ والفطرة السليمة. لكن أينهما في عالم الناس؟ يقترب منهما الأفراد ويبعُدوا حسب ما صرفوا من جهد في تعلم الشريعة من مصادرها، ومعرفة تكاليفها ومبانيها، وترتيب أولياتها، وأحوال نوازلها. 

      والمتكلمون في أحوال الناس، ثلاثة أصناف. صنف يتحدث من خلفية عامية، وقد يكون دون خبرة ولا علم في دين أو دنيا، أو حامل شهادة جامعية، أو صاحب خبرة عملية، منهم محامون وأطباء ومهندسون، وغالبهم لا يزالوا في المدارس الثانوية يكافحون! ومنهم أصحاب وجوه تليفزيونية أو مناصب سياسية أو غير ذلك مما يُذيع الشهرة بين الناس، ويولّد إحساسا خاطئا بالمعرفة والتمكن. 

      والعامية تعنى عدم الدراسة المتخصصة لأحوال الناس بشقيها، الشرعي والواقعي. وهذا الصنف تجده يتحدث بما قد يصيب فيه حينا، ويخطأ فيه أكثر الأحيان. فتراه ينخدع بما أصاب فيه، فيعتقد أنه قد أصاب لصحة المنهج في النظر، لا من حيث أنّ الفطرة أو المنطق قد يتوافق مع الحق دون أن يعلم صاحبهما. ثم ترى هذا الصنف يضرب في كلّ مجال، بأقوال، ثم يبني عليها أفعال، فيُضل بها نفسه وغيره. لكن الغرور سطوة اللسان لا تجعله يرجع إلى أوليات صحة المنطلقات، من ضرورة العلم بالكليات والجزئيات، لتصح منه التصورات، ويتم له فهم الحادثات. وهذا الصنف هم من حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بعدم السير وراء "أرائهم" من حيث مصدرها الأصلي الهوى المذموم، فالهوى هو كل ما لم ينبني على علم، وإن وافق حقا، وصدق السلف "من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ"، الحديث الصحيح "قيل وما الرويبضة يا رسول الله، قال الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ". والرويبضة هو الرجل التافه، وإن كان ممن لهم باع في أمور أخرى لا تمت لأمور العامة بصلة. وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام عظيم في هذا الباب فليراجع في أعلام الموقعين الجزء4، ص 157 وما بعدها، طبعة دار الجيل.

      وصنف ثانٍ، هم طلاب العلم، وهؤلاء تجدهم أكثر ما يكون حديثهم سؤالاً واستفساراً، لا تقريراً أو إقراراً. وهم في طلب العلم صابرون على حفظ اللسان من الحديث حتى يستوى علمهم على سوقه، وتبدو ثماره، أبحاثا وكتباً، تجيزه الفحول، ويكتب له القبول في طبقة الصنف الثالث.

      أمّا الصنف الثالث، فهم أصحاب العلم، الذين جمعوا بين علم الواقع والعلم بالشرع، وبدت ثمار علمهم ونضج خراجهم، مع صحة العقيدة وإخلاص السريرة. فهؤلاء هم أقرب الناس إلى الحق والإصابة، وإن جاز على بني آدم كلهم الخطأ أو السهو والنسيان، والتقصير في بعض الأحوال أو الأزمان. لكن هذا الصنف من المتحدثين هم من كتب الله عليهم البيان، وكلفهم بعدم كتمانه، وأمر الناس أن يتبعوهم، بعد معرفة أحوالهم والتأكد من صدق توجههم وحسن قبولهم وولائهم لله ورسوله، وعلو شأنهم فيما يتحدثون فيه.

      وكما أنّ في الصنف الأول من أصحاب اللسان من لهم شهرة بين الناس، على عاميتهم، فإن من أصحاب الصنف اثالث من يخادعون الله والذين آمنوا، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويشترون بعهد الله ثمنا قليلاً. فأولئك خطرهم على العامة مثل خطر عوام أصحاب اللسان، من ذوى الوجه والأسماء المعروفة، بل أخطر منهم في بعض الأحيان، وكلاهما مصيبة في واقعنا.

      فكل امرئ، إذن، له حق الكلام، واستخدام اللسان، والتعبير عمّا يجيش في صدره من معان أو مشاعر، سيان. فلا يفهمن أحد أننا نحجر على أي إنسان كلمة يريد أن يقولها أو يدونها. لكن، ليس لكل امرئ الحق في أن يكون صاحب رأي في أمور العامة، وفي نوازل الأمة، وفي الأزمات المدلهمة، فهذه لها رجالها وكبراؤها. والأصل تقليل فرص الخطأ في بيانها ورفع احتمال الإصابة لا العكس، وإن أعجبَ الناس كلام بعض منتمي الصنف الأول.

      والنفس هنا تُحسّن للمرء ما ينطق به لسانه، إذ هو جزء من كينونتها، وصناعة عقلها وصياغة فكرها، فكيف لا يختال به، حين يراه ينتفض حيا أمامه على صفحات التواصل الإجتماعي، التي ثبت أن ضرّها أكبر من نفعها ولا شك. ثمينتل المرء من الزهو بنفسه إلى الوهم بقدرته، إلى الإداء برأيه في مسائل لا علم له باصولها ولا تفريعاتها، بل ومحاجة من هم من أهل الصنف الثالث، أصحاب العلم والفقه. وهنا تكمن المصيبة ويعسر الأمر على أصحاب العقول الأريبة. ولو التزم بعض هؤلاء بما عليه أصحاب الصنف الثاني، فسَألوا دون أن يجيبوا، لكان خيراً لهم، لكن يأبى الهوى والجهل إلا أن يصوّر لهم ما ليس بكائنٍ حقيقة.

      ولولا أنّ الناس اليوم تصلهم الأقوال في لحظة "توصيل للمنازل"، دون مراجعة أو تحقيق، من كل صوب وحدب، يقصفون به من كل صوب وحدب، علمي وعاميّ، ما كان هذا الأمر ليشغل بالنا. لكن الخلط في المصادر، وتعدد الآراء ممن لا باع له، قد أبطأ بالناس في فهم الحقائق على وجهها، ومن ثم، اتخاذ الجانب الصائب، ومتابعة الحق.ولكل تلك الأصناف معاييرها وموازينها التي تبين انتماء امرئ إلى واحد منها، وإن لم يكن هنا موضوع بيان ذلك.

      فغايتنا هنا هي ان نبين أن هناك فارق بين حديث اللسان، وبين واجب البيان الذي كتبه الله على الذين أوتوا الكتاب، أي العلم به. 

      والله ولي التوفيق.

      د طارق عبد الحليم

      3 فبراير 2016 – 24 ربيع أول 1437