فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      سلسلة الرد على الشيخ أحمد ابن عمر الحازميّ 1

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم

      لفت نظرى عدد من الشباب عما أصدر الشيخ الحازمي، هداه الله، من تسجيلات في موضوع التوحيد ونواقضه، والإعذار بالجهل وقواعده، وما إلى ذلك مما يشدّ انتباه الشباب المتحمس عامة، وما يناسب هذه المرحلة التي شاع فيها النفاق والكفر، وقهر رجال الإسلام، وتكالب الخصوم عليه، مما دفع الكثير إلى ظاهرة الغلو، وهو ما عايشناه عياناً في نهاية الستينيات في مصر. حينها، ظهرت ظاهرة الغلو في التكفير، ولا أقول التكفير، إذ التكفير حكم شرعيّ كسائر الأحكام، لكنّ الغلوّ فيه، وتكفير من لم يثبت كفره بشكلٍ قطعيّ لا شك فيه، وهو عين الغلوّ. كما أن الامتناع عن تكفير من ثبت كفره بشكلٍ قطعيّ غلوّ في الطرف الآخر، وكلاهما ليست من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

      وقد دوّنت حينها، في نهاية السبعينيات كتاب "الجواب المفيد في حكم جاهل التوحيد" بياناً لمعنى العذر بالجهل، ودرجاته وحدوده، رداً على جماعة شكري مصطفي وقتها، التي عُرفت بجماعة التكفير والهجرة، والتي خرجت من رحم القسوة التي مارسها نظام الهالك عبد الناصر، فبدأت تنظيرها في نهاية الستينيات، ثم قُضِي عليها على يد الهالك السادات في النصف الثاني من السبعينيات[1]. ثم عاد الغلوّ، في ساحة الجهاد في الشام، بعد أن كان له دوره في إنهاء الجهاد في الجزائر في التسعينيات. ومما يبدو أنه يظهر على السطح كل عقدين من الزمن!

      وقبل أن أبدأ سلسلة الرد على ما جاء به الحازميّ من غلوٍّ، أريد أن أمهد ببعض قواعد عامة، تنير طريق الساري في هذه الدروب، وتضبط بوصلته، وتبيّن بعض المصطلحات التي يأتي التواء بها بكلّ مصيبة وبدعة.

      (1)

      أولاً: أن تعبير "كفر تارك التوحيد"، تعبير مبهم، فيه إشكال. إذ لا يشك مسلمٌ أنّ تارك التوحيد كافرٌ، إما أصلاً أو ردة. هذا من البديهيات المسلمات، ومن ضرورات الدين التي يكفر منكرها. لكن الإبهام والإشكال يأتي من تحديد معنى التارك، وحدود الترك، ومن معنى التوحيد وإدخال ما ليس منه فيه، أو إخراج ما فيه منه. ثم في مناط كلّ حالة على التعيين. هذه ثلاثة أمور يجب النظر اليها عند تحرير المصطلح. وهو موضوع ردّنا إن شاء الله.

      ثانياً: أنه يجب التفريق بين الغلاة المُفرطين من أهل السنة، وبين الخوارج. والخلط بينهما يقع عادة من العامة، ومن بعض من انتسب إلى العلم. فالخوارج فرقة اتفقت على أصولٍ كلية محددة، خالفت بها إجماع المسلمين، كتكفير مرتكب الصغيرة أو الكبيرة، أو الإصرار عليها، حسب فرقهم المتعددة، والتي وُصفت في الكتاب والسنة أنها من الكبائر أو من الصغائر، بحسب الحال. أمّا ما اختُلف في كونه من التوحيد أم لا، مما هو ليس من الصغائر أو الكبائر، بل يتعلق أصلاً بأمرٍ من أمور العقيدة، فهذا مناط التحقيق في المسألة، وتجلية الأصل فيه.

      وقد أخرج من قبل الأحناف العمل من مسمى الإيمان، فلم يكفرهم أحد، بل ألحق بهم بعض الفقهاء اسم "مرجئة السنة" لاشتراكهم في هذا الأصل مع المرجئة، لكن هذا لا يعنى أنهم مرجئة، إذ الأصول الكلية للمرجئة التي اجتمعوا عليها، وجعلت منهم فرقة بدعية لا يشاركهم فيها الأحناف[2].

      ثالثاً: أنّ التعميمات باستخدام الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، من غير تحقيق يؤدى إلى الغلوّ أو البدعة، فإنه يجب أن يُرد العام إلى الخاص، والمطلق إلى المُقيد، والمبهم والمشكل إلى المبيّن، وهكذا، وهو من باب ردّ المتشابهات إلى المحكمات، إّذ الاستشاد بهذه العمومات والمطلقات والمبهمات استشهادٌ بمتشابهات.

      فإن قال قائل، لكن مسائل العقيدة، ومن ثم التكفير ليس فيها أمورٌ متشابهة، بل كلها محكمة، قلنا هذا كلامٌ فيه حق وباطل. فإن إثبات الإيمان للمرء سهلٌ ميسرٌ كما في حديث الجارية، أمّا ما نحن فيه فهو نزعه عمّن ثبت له، وهو أمرٌ آخر بالكلية. إذ يستلزم تحقيق نوع ما ارتكب من ناقضٍ، أهو في أصل التوحيد أم في مسائل خفيه، أم فيما يجب فيه البيان قبل النقض، أم مما هو من أمور الإجماع والتواتر، أم من القواعد الكلية الثابتة في الشريعة. وهو الطريق الذي اتخذنا في كتابنا عن حكم جاهل التوحيد، إذ زيفنا قول من قال "هل هناك عذر بالجهل" مطلقاً، وبيّنا أنه يجب تحديد موضوع الجهل أولاً، وسيأتي التوسع في هذا عند الحديث المفصل عن أقوال الحازميّ.

      رابعاً: أن الطابع الذي يتخذه بعض ممن يتحدث بالعلم، من حديثٍ في حدود منطقية لا يتعرف عليها إلا العلماء المتخصصين، هو، في عصرنا هذا، يعتبر من التمويه والمزايدة وإضفاء صبغة العلم على الحديث، حتى إذا قرأ العاميّ من أول البحث عن المقدمات الصغرى والكبرى، والتهى ببعض ما ورد في مدونات الباجي وابن عقيلٍ والشيرازي وأضرابهم، قال، سبحان الله، هذا شيخٌ علّامة وحبر فهّامة، كيف يخطؤ وأنا لم أفهم من حديثه إلا آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم مما كتب؟! فيصدّق بعدها ما جاء به الباحث من عمومات وشُبَه. والعالم الحق من استوعب العلم حتى صار له طبعاً وطابعاً، ثم صاغه بأسلوب يفهمه العامي ولا ينكره العالم. والله المستعان.

      وأنهي هذه المقدمة بكلمة للشاطبي رحمه الله، بيّن فيها قدر اتباع السنة، وما لحق به حين أراد أن يزيّف أقوال الغلاة، إفراطاً أو تفريطاً، فوالله إنه لا جديد تحت الشمس. قال رحمه الله "فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة نجاة، وأن الناس لن يغنوا عنى من الله شيئاً، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في الأمور فقامت عليّ القيامة وتواترت عليّ الملامة وفوّق اليّ العتاب سهامه ونُسبت إلى البدعة والضلالة و إني لو التمست لتلك الحادثات مخرجا لوجدت، غير أن ضيق العطن والبعد عن الفطن، رقي بي مُرتقى صعباً وضيق عليَّ مجالا رحباً، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات، لموافقة العادات، أولى من اتباع من اتباع الواضحات، وأن خالفت السلف الأول .... ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره وأن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عنى من الله شيئاً، وإني مستمسكٌ بالكتاب والسنة"[3].

      " لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنۢ بَيِّنَةٍۢ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَىَّ عَنۢ بَيِّنَةٍۢ" الأنفال 42.

      يتبع إن شاء الله

      د طارق عبد الحليم

      9 جمادى أول 1435

      10 مارس 2014


      [1]  وقد أعدّ أخي أبو الوفاء التونسيّ بحثاً ماتعاً عن ظاهرة الغلو في التكفير، وبيان السنة الصحيحة فيها، سيصدر قريباً إن شاء الله.

      [2]  ومن أراد التوسع في هذا الباب فليرجع إلى كتاب "الاعتصام" للشاطبيّ ج2 في تعريف حدّ الفرق.

      [3]  "الاعتصام" ج1 27-29