فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      سؤال عن مهنة المحاماة

      ورد لي سؤال من أحد الإخوة عن تولى المسلم مهنة المحاماة، في باكستان، وما حكمها لو جاء ابنه إلى البلاد الغربية.

      فنقول وبالله التوفيق

      الأصل الذي يجب النظر إليه هو وضع الحكم في البلاد المشار إليها، بالنسبة للشرع. وهذا الأصل يرتبط بالتوحيد ومقامه في الإسلام. وهو الفصل في النظر إلى تلك المسألة.

      فدولة كباكستان لا تحكم بالشريعة، وتعتمد القوانين الوضعية في محاكمها. ومن ثم، فإن دراسة القانون فيها، يقوم على أساس وضعي، وإن كان فيه جانبٌ شرعي مختص بالأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والوصايا، مثله مقل البلاد العربية.

      أما عن مهنة المحاماة، التي هي موضوع السؤال، فإن النظام الإسلامي لا يعتمد "المحامي" بالمصطلح الحديث في بنائه القضائي. ولكن هناك "الوكيل" وهو أقرب ما يكون لمهنة المحامي، إذ الوكيل هو من يوكله الفرد ليؤدي عنه أعماله، سواء في التعاقدات بأنواعها أو المنازعات والخصومات. فله أن يتكلم باسمه أمام القاضي لشرح ظروف الدعوى وما يدّعيه موكله في شأن الوقعة، وما يتعلق بها من أدلة شرعية ومناطات واقعية تعين القاضي على تبيّن الحقيقة بين الخصم والمُخاصم.

      والشرط هنا أن يكون الوكيل (المحامي عرفا) محكوم بأحكام الشرع، وهو الحال في كثير من قضايا الأحوال الشخصية. فهذا اللون لا بأس أن يقوم به المسلم حتى في بلادٍ تحكم بغير الشرع في قانونها العام، وكذلك في قضايا ما يسمونه بالإرهاب والتخابر وسائر ما يكيدوه للمسلمين، من حيث إن تحقيق مصالح الناس واجب يجب إقامته والحفاظ عليه، وترك الدفاع عن المسلمين ودرء الضرر عنهم مفسدة مؤكدة. وقد جاء مثال هذا في تفسير المنار عن الشيخ رشيد رضا، في حكم تولي القضاء، ومصلها المحاماة في الهند إبان استعمار إنجلترا لها، أما إن كان الهدف من دراسة القانون وممارسته في تلك البلاد، تحت تلك القوانين، هو كسب العيش أو الوجاهة أو المنصب، فإن ذلك العمل يكون حراما قطعيا، فإن علم أنه يحكم بالقوانين الوضعية وأن في ذلك ما فيه، فرضي ولم يعدل، كَفَر.

      ويُبنى على هذا من يعمل في المحاماة أو القضاء في الغرب النصرانيّ، فإم ما تقدّم يكون أوقع في حالته، إذ حتى الأحكام الشخصية فإنها مستمدة من القوانين الوضعية البشرية، فيكون هنا عمل المحامي المسلم، بالشروط التالية:

      1. أن تكون النية قاصدة إلى دفع الضرر القضائي عن المسلمين قدر المستطاع، فإن كانت لغير ذلك من مال، أو جاه، أو سمعة، أو شرف، فهو كبيرة، فإن وصلته الحجة (سمعها، سواء فهما أم لا، وسواء اقتنع بها أم لا) أن ذلك مضاد للتوحيد، فلم يرتدع، فقد خرج عن ملتنا.
      2. ألا يتناول أية قضايا لا تدرأ مفسدة أو تعيد حقاً لمسلم. فالقضايا التي تخص ما يقع بين النصارى، يتولاها النصارى من حيث يتحاكمون فيها بشرعهم الذي ارتضوه. فإن تولاها مسلم مع علمه بمضادة ذلك للتوحيد، فقد خرج عن الملة.
      3. أن يكون دفاعه مبينا على الحق لا على الباطل، حتى لو كان وكيله مسلماً، فإن الله سبحانه يقول "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ" النحل 90، فتحقيق العدل هو المقصد الأعلى، وهو يكمن بأحسن أشكاله في تطبيق الشرع، فإن لم يمكن حرفيا في بلاد لا تحكم بالشرع، فإنه لا يصح لمحام مسلم أن يقصد إلى ظلم أو جور، ولو على حساب من هم من غير المسلمين.

      وقد أورد البعض حججاً لا استدلال فيها على جواز تولي الوظائف بعامة في الحكومات الكافرة، مثلما فعل ما يسمى بمجمع فقهاء الشريعة بأمريكا، في إصداره الخامس، حيث استشهد على ذلك بما عرفنا من استدلالات أصحاب الفكر الإرجائي، مثل تولى يوسف عليه السلام المال في ظل حكم فرعون. وهو كلام مردود عليه، بل إن النص الذي أورده الكاتب عن ابن العربي فيه الردّ عليه ظاهرا، فقد أقام الحجة على نفسه.

      قال الكاتب "أما الإمام ابن العربي فقد تساءل حول هذه الآية وقال: كيـف اسـتجاز أن يقبلها أي الوزارة بتولية الكافر وهو مؤمن نبي؟ وأجاب: قلنا لم يكن سؤال ولاية وإنما كان سؤال تخل وترك لينتقل إليه، فإن االله لو شاء لمكنه منه بالقتل والمـوت والغلبة والظهور والسلطان والقهر، ولكن االله أجرى سنته على ما ذكر في الأنبياء والأمم فبعضهم عاملهم الأنبياء بالقهر والسلطان والاستعلاء وبعضهم عاملـهم الأنبياء بالسياسة والابتلاء"

      ويظهر هنا من كلام ابن العربي أنه يرى أن تولية حاكم مصر ليوسف عليه السلام كانت تولية تنازل عن دور الحاكم فيما يخص خزائن الأرض، وتمكين نبي الله من إجراء الأحكام التي تخص المال على ما يراه، وإن التزم بالقانون العام المفروض في الأرض "ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك". لكن فيما يتعلق بأمور ولايته المالية فهة لا يطبق فيها حكما كافرا أبدا. فهذا دليل عليهم لا لهم، من حيث مناط الولايات والمناصب اليوم لا تتيح لأحد مهما علت رتبته، إجراء أي حكم في أية قضية، صغيرة أو كبيرة، إلا حسب ما وضعوه من قوانين. فهذا تدليس وإيهامٌ مكشوف ومرفوض. ومثل ذلك من تدليس وعدم إجراء المناط الحاصل في عصرنا، ما أورده الكاتب من نصوص لابن تيمية، فإن مخصصات الملك التي لا يتدخل فيها يوسف عليه السلام، على قول ابن تيمية، هي جزء مفروض لا شرع يحكمه، ولا تعني أن نبي الله كان كوزير المالية في حكومة السيسي، حاشاه!  

      ولكن الخلاصة التي خلص إليها الكاتب تشبه ما ذكرنا بشكل عام، فقد قال"

      "يجوز لبعض الناس الذين يظهر صلاحهم وقوتهم وقدرتهم على التغيير أو الحكم بالشرع ولو لم ينسب للشرع، بعد الاستفتاء الخاص: أن يتولوا الوظائف العامة إذا كان ذلك ضرورة ومصلحة للإسلام والمسلمين، كتولي منصـب القضـاء بـين الأقليات الإسلامية التي تقيم في بلاد الكفار، حيث ذكر بعض الحنفية أنه يجـوز تقليد القضاء من السلطان الجائر وإن كان كافرا. ولكن لـو ولاه المسـلمون أنفسهم ليحكم بينهم كان أولى، وهكذا في غير القضاء من الأعمـال الإداريـة كإدارة المدارس والمستشفيات ونحوهما.

      لا يجوز للمسلم أن يتولى هذه الوظائف للأغراض الدنيوية التي لا يوجد فيها مصلحة الإسلام والمسلمين، ولا ضرورة، لأنه بذلك يعارض النصوص الصـريحة المانعة والمكفرة من المشاركة في الحكومات التي لا تحكم بما أنزل االله أن وظيفة المحاماة أوسع في الرخصة لحرية الاختيار لدى المحامي؛ بـل ينبغـي للمسلمين أن يستغلوا هذه المهنة للمطالبة بحقوقهم والدفاع عن أنفسهم.

      والأصل عدم المشاركة في هذه الحكومات ويستثنى من الأصل بشروط: إذا كان ذلك نافعا للمسلمين بحفظ حقوقهم ويمنع أو يخفف الأذى الذي يقع عليهم وحينئذ قد يكون بمقتضى السياسة الإسلامية مستحبا أو واجبا حاشية ابن عابدين (٥/٣٦٨ (.

      ويشترط أن لا يكون ثمة موالاة للكفار إلا ما يقتضيه عمله من مجاملة ومخالطة ونحوها، وهذا يبنى على قاعدة الإمام مالك بن أنس المأخوذة من سياسة السـنة وسيرة الخلفاء الراشدين وهي أن أحكام العبادات تبنى علـى العمـل بظـواهر النصوص من الكتاب والسنة وأحكام السياسة والمعاملات الدنيوية تبنى على جلب المصالح ودرء المفاسد دون ظواهر النصوص وإن تعارضا يـؤول الـنص لمراعـاة المصلحة."

      ولم أنص في الشروط التي أوردتها ذكرٌ لشرط أن يكون قادراً على التغيير، فإن هذا مستحيل في واقعنا. وذكر هذا الشرك تمويه وتدليس، يستخدمه بعض الذين يرشحون أنفسهم لمناصب عامة، مستدلين بمثل تلك الإطلاقات العامة، لإيهام الناس أن لهم سند في ذلك، فلا يصح ذكر مثل هذا الشرط المنعدم تحققه أصلا، لعدم إمكان الترخص بحسبه.

      والله الموفق

      د طارق عبد الحليم

      24 صفر 1443 – 2 أكتوبر 2021