فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الوضع الإسلامي من المنظور الواقعي العالمي

       الحمد لله والصلاة والسلام على الحبيب المصطفي وآله وصحبه

      هذا مقال في سلسلة المقالات التي تسير في اتجاه أكتب فيه منذ سنواتٍ قليلة، وهو اتجاه يقرأ الواقع ويستشف الماضي، ويحاول استشراف المستقبل، قدر ما يمكن لإنسانٍ أن يتوقع ما يأتي به الغد المُغيّب. وهو أمرٌ له أهمية قصوى في واقعنا المعاصر من حيث إن المسلمين اليوم، عند من يرى ويبصر، لا عند من يتوهم ويخبط، لم يفقدوا القيادة وحدها، بل فقدوا الرغبة في القيادة، ومن ثم البوصلة التي توجه للنصر، حين تنازلوا عن ثوابتهم، وعن شريعتهم.

      معضلة التخبط الفكريّ

      أبدأ بقول ما أردده دوماً، أنّ رؤية الواقع على ما هو عليه ليست من قبيل التشاؤم، أو اليأس المُقصي عن العمل. كما أنّ ترديد الأوهام من قبيل تكهنات المنجمين والعرّافين دون ما يعضد ذلك بدليل واقعٍ، ليس بتفاؤل، بل هو من قبيل الإضلال والتخدير والتحريض الصامت على "بقاء الحال على ما هو عليه".

      والتخبط الفكريّ ليس مقتصراً على أولئك الضالين من أتباع السلاطين، ككافة معممي السيسي وابن سلمان. فيما يزعمون في رؤياهم لإسلام لا نعرف عنه شيئاً ولا يمت لصاحب هذه الشريعة ونبيها، عليه الصلاة والسلام، بصلة، أصلا ولا فرعاً. بل هي كذلك في بعض المنتسبين لتيارات فكرية منحرفة، سواء منهم من ينهج نهج الخوارج الصومالي، أو من ينهج نهج الإرجاء الكفري المعاصر مثل كتّاب الإخوان أو الريسوني والددو وسائر تلك الحثالة الفكرية، التي تضلّ الناس، وكأنها تعينهم على فهم الإسلام والدين! ثم هناك من كان على طريق حسبه الناس مستقيماً، ثم أعماه الله وأضله، فأضل بضلاله الكثير، مثل خونة الجماعة الإسلامية المنكوسة، أو من لم ينتم لجماعة، لكن الله أضله على علمٍ فصار منجما إسلاميا، وسبحان مقلب القلوب.

      ومثال على ما أقول ما قد سمعت بالأمس من أن شيخاً، انحرف عن مسار العقل والشرع معا منذ آن ليس ببعيد، يردد كهاناته وأوهامه، يتلاعب بقلوب العاطفيين من الجهلة، إذ لا عقل لمن يستمع إلى مثل ذاك الشيخ الذي أعماه الله عن أبسط الحقائق، وإذا هو يقول ما معناه "أن الجهاد على مرمى حجرٍ من بيت المقدس"! والله لو أنّ حجرا نطق لقال ما هو أقرب للعقل من هذا التخريف البحت! والاعتذار للأحجار!

      أي مرمى حجر يقصد هذا الكائن الكاهن؟ الكيان الصهيوني يتمدد لا ينكمش. وانظر إلى خريطته منذ 1948 إلى اليوم، حيث صار في سلامٍ مع مصر والخليج والجزيرة والمغرب العربيّ والسودان، وتغلغل في أفريقيا، كأثيوبيا وجنوب السودان. يقول الكاهن: نحن لا نقرأ التاريخ، فها هي الثورة البلشفية لم يتوقعها أحد، لكنها وقعت وغيّرت وجه روسيا الحديث!!! حديث خرافة وبلاء فكري ومغالطات تاريخية. فقد نشأ الحزب الاشتراكي الديموقراطي في روسيا قبل عهد لينين، في أيام بليخانوف، معادٍ للينين. في العقد الثامن من القرن التاسع عشر. واتسعت الحركة على يد لينين، وأصبح لها زخم عسكريّ مكّنها من جمع ما يزيد عن ربع مليون مقاتلٍ فيما يُسمى الجيش الأحمر أيام الحرب مع الجيش الأبيض المناصر للقيصرية.

      فأين ذلك مما نحن فيه اليوم، يا عقلاء البشر!؟ أين الجهاد الذي على مرمى الحجر؟! لقد قامت ثورات ما يُسمى بالربيع العربيّ، التي آلت كلها إلى فشلٍ ذريع، ظهر بعده تحوّل بشعٌ في الأخلاقيات الشعبية، بما فيها قبول الكيان الصهيونيّ، شعبياً! فأين الجهاد في المشرق والمغرب الذي يتحدث عنه ذاك الكاهن الإسلامي الواهم؟! أيقصد ربيبه ذاك الخائن العميل الجولانيّ؟ والله عجباً، فالجولانيّ نفسه قد أغلق باب الجه..اد، وسلّم نفسه للأتراك وللأمريكان من أجل تسوية سياسية يكون هو جزءٌ منها!!

      ولو كان هناك أملٌ قريب لكان في مصر، بعد أن وصل الإخوان، الذي يدعم ذاك الشيخ الكاهن آراءهم، لكن أين محمد بديع، صاحب "سلمية" من لينين، من ناحية الاستراتيجية السياسية لا دينا بالطبع؟ كيف يتجرأ إنسان يحترم نفسه وقراءه أن يخرج بمثل تلك المتشابهات من الآراء؟

      نعم، من الممكن أن يتحول بايدن غدا إلى الإسلام، ويعلن الخلافة في أمريكا! يمكن لبوتين أن يكون له شرف ذلك كذلك! ويمكن أن يتحول السيسي إلى شيخٍ معممٍ يقرأ القرآن على أرواح الموتى في مقابر السيدة! فإن الله سبحانه قادرٌ على كل شيء! لكن هل هذا الممكن، محتملاً أو قريبا من الواقع؟ هل يمكن الاعتماد على "الممكن" والقياس على أحداث وقعت في ظروف لا علاقة لها بما نحن فيه، أن نضع استراتيجياتٍ ونبشر بأحداث!؟ إن لم يكن هذا هو الجهل، وهؤلاء هم الرويبضات، فما هو الجهل ومن هم الرويبضات؟

      لكن بعيداً عن جهالات أمثال هذا الخبال المستتر تحت ستر الأقدار، وقراءة الكفِّ وضرب الودع السياسيّ، دعنا ننظر إلى ما نحن فيه اليوم نظرة واقعية حقيقية تعتمد على ما نشاهد عياناً كلّ يوم، وعلى المنحنى الذي تتحرك عليه الأحداث، لنعرف أين نحن في دنيا اليوم، وغدا.

      الساحة العالمية

      الغرب – أمريكا

      الغرب اليوم في صراع مع الهوية، مع الذات، بين اليمين المتطرف واليسار المتطرف. وقد تجسدت هذه الحرب، تجسداً واقعياً في أحداث الكابيتول الأمريكيّ منذ أيامٍ قليلة. وكان صدامٌ دامٍ لأول مرة، فألقى بظله الثقيل على شبح الديموقراطية التي يبشرون بها منذ عقود، رغم إعانتهم للديكتاتورية في كلّ بلد آخر! وهذا الصراع له جذوره المتأصلة في نفوس ما لا يقل عن 25% من السكان البيض في أمريكا. فهو صراعٌ قد بدأ ولم ولن ينته بسهولة إلا بحرب بين الطرفين. لن ينتهي بمحاكمة ترمب، أو فترة حكم بايدن، بل سيستمر سنواتٍ قادمة، يتحكم في سياساتهم الداخلية، ويوهن من قواهم، مهما حاولوا الظهور بمظهر الوحدة.

      وهذا الصراع موجود بالمثل في أوروبا بشكل يختلف قليلاً عن أمريكا لظروف أشرنا إليها إشارة موجزة من قبل[1].

      فالغرب إذن، في أفولٍ ولابد وأن يُسلم الراية، ولو بعد عقود معدودات، إلى مركز قوةٍ آخر، يحكم العالم.

      روسيا:

      أمّا روسيا، فإن طبيعة الوضع فيها لا يجعلها مؤهلة لقيادة العالم، من حيث إنها لا تمثّل قوة اقتصادية موازية للغرب أو الصين. كذلك فإنها غير مستقرة سياسياً، نظراً لأن الحكم الديكتاتوريّ السائد هناك، يتراوح أيديولوجيا بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي، وهم لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. بل هم أقرب إلى النظم الشرق-أوسطية التي لا أيديولوجية لها إلا عبادة رئيسها الديكتاتور العسكريّ. وحركة التوسع التي يقوم بها بوتين في الشرق الأوسط، لا تزيد عن محاولة تخفيف الضغط عليه داخلياً بإثبات الوجود الروسي على شواطئ البحر الأبيض، وهذا الوجود وجود استعماري عسكريّ، غير مُمَكّنٍ، معروف المصير، كسابقيه من المستعمرين طوال قرون عدة في تلك المنطقة من العالم.

      ثم هناك، ولو على أقل الدرجات، عدم الاستقرار السياسي المتمثّل في المعارضة الداخلية، مثل ما راينا في الانتفاضة الأخيرة بشأن ذاك المعارض "ناتانلي". بالإضافة إلى الصراع الذي لا ينتهي على الحدود الأوكرانية، والذي يتخذه بوتين فزّاعة للشعب الروسيّ، يدعي به إن البلاد في حالة حرب!

      فروسيا مشغولة بنفسها، غير مؤهلةٌ لقيادة العالم خلفاً للغرب.

      المسلمون - هل وصل المسلمون إلى قاع التدهور؟

      والجواب، لا. نحن لا نزال لم نصل إلى قاع الانحطاط الحضاريّ بعد. بل يتكشف لنا كلّ يوم بعد جديد من الانهيار والتدهور، يدع الحليم حيران، سواء على المستوى السياسي، كما نرى من التطبيع مع الكيان الصهيوني، على المستويين القيادي والشعبيّ، أو على المستوى الأخلاقيّ الذي بلغ حضيضاً لا نحسب أنّ له قرار.

      المشكلة في إننا فقدنا الهوية، أو أكثرنا، أو غالبنا. والهوية لا تعني اسما مسلماً، فإن هذا يكفي في بطاقات التجنيد! بل هي تعني الالتزام بأيديولوجية معينة، كما يلتزم اليمين الغربي أو اليسار الغربي أو اليسار الشيوعيّ. لم تعد لما هوية نتمسك بها، كمجتمعات، وإن خُدعنا بأفرادٍ أوهمونا أننا لا نزال عنصراً في الصراع الحضاري القائم، بل نحن على قمته، بل نحن على مرمى حجرٍ من الفوز بزعامته، حين تقضي على الكيان الصهيوني الحاكم للعالم اليوم! كما يزعم ضارب الودع السياسيّ الفلسطيني.

      ولا يحسبن أحد أنني أقرر هذا الأمر بسهولة ورضا! بل والله إن هذه الكلمات هي خناجر تطعن في قلب المرء، ورماح تنفذ في كبده المقروح مما يرى ويسمع، واقعاً معاشاً. لكن الحق أحقّ أن يُقال. وضرب الودع وقراءة الكف السياسيّ لن تصل بنا إلا إلى خيبة أملٍ وفشلٍ أعمق مما نحن فيه، ونحن في خيبة أمل مدمرة بالفعل، لا نحتاج إلى مزيد منها!

      إن الوقائع والأحداث تدور دائما على مقدماتها، والنتائج تُبنى على أسبابها. هذه هي سنة الحياة الدنيا كما خلقها الله سبحانه، إلا حين يريد سبحانه أن يكشف للناس وجها من وجه الإعجاز، انتصاراً لنبيّ كما في قصة إبراهيم عليه السلام، أو نصرا لرسالة كما في قصص يونس وموسى عليهما السلام. لكن أين هؤلاء الذين هم أمثال إبراهيم ويونس وموسى عليهم السلام، بل ولو قريب منهم، بل ولو مؤمنون برسالتهم حقّ الإيمان؟ أين في المشرق والمغرب تلك التجمعات العسكرية القوية التي تهدد الكيانات العميلة الحاكمة أولا، ثم الكيان الصهيوني، الذي هزم جيوش ثلاثة طول في ستة أيام، عام 1967، والتي عشناها رجالاً نرى ما يقع ولا نكاد نصدّق أعيننا وآذاننا، التي كانت تملؤها كلمات ضاربي الودع وقارئ الفنجان السياسي عن النصر الوشيك، من أسلاف الشيخ الفلسطيني، إن كنا قد نسينا!

      المسلمون لم يبلغوا بعد قاع الانحطاط والانهيار. لكنهم قطعوا شوطاً طويلاً فيه، ولا شك. ولن يكون لهم في رسم خريطة العالم القادمة، لقرنٍ أو قرنين، يدٌ أو قدم! والأحلام سهلة مُمتعة والخيال مريح واعدٌ، لكن الحقيقة تضرب الحالم الواهم على قفاه، فتوقظه من حين إلى حين، حتى يعود إلى سباته، أو إلى تعاطي مخدراته الكلامية التي يكيّفه بها أمثال الواهم الفلسطيني.

      الصين:

      والمرشح الأول اليوم لهذه الخلافة هي الصين. فالصين اليوم أكبر منتج لغالب البضائع العالمية وأكبر مسوّق للتجارة في الغرب. وقد ظهرت هذه القوة من تعاملها ومواجهتها لانتشار الكورونا، رغم إنها مصدرها من أول الأمر! ودع عنك خرافات مخابيل نظرية المؤامرة الذين يدّعون أن هذا من فعل فاعل لقتل ثلث سكان العالم .. !! كما يقال في مصر "المجانين في نعيم"!

      وما يجعل الصين هي المرشح الأول، والأوحد لقيادة العالم في المرحلة المقبلة هو إن لها أيديولوجية واحدة لم تتغير، لا مثل الغرب المنقسم على نفسه، ولا الشرق الروسي المنبطح تحت ديكتاتورية لا شرقية ولا غربية! وهذه الأيديولوجية هي إذابة الفرد في المجتمع ومحو ذاتيته وخصوصيته "كليّة" بحيث يصبح رقما في آلة إنتاجية رقمية، الفرد فيها رقم لا غير، مثل المساجين، وتطبيق تلك الأيديولوجية تحت ظل الماركسية المعدّلة صينياً. وبغض النظر عن الانتقادات التي تَعْرِضُ لمثل هذه الأيديولوجية، فإن حقيقة تمسكهم بها والتزامهم بتطبيقها بشكلٍ لا هوادة فيه، مع توحشهم السافر في التعامل مع المعارضين أو حتى المخالفين دون معارضة، مثل مسلمي تركستان الشرقية، جعل المجتمع متجانساً إلى حدٍ كبير، وأعطى القيادة الفرصة لصب الانتباه على الخارج، والتوسع الاقتصادي ونشر النفوذ، دون التورط العسكريّ، كما هو الحال مع الغرب أو الشرق الروسيّ.

      الصين اليوم هي محور القوة في العالم، وهو أمر ليس بجديد، بل عرضه صامويل هانتنجتون في كتابه الفذّ "صراع الحضارات" The Clash of Civilization" الصادر عام 1996، حيث اقترح أنّ المركز الحضاريّ، إن صح التعبير إنها حضارة حيث تغلب عليها الوحشية وفلسفة سحق الآخرين، اقترح أن هذا المركز سيتحول إلى جنوب شرق آسيا The Pacific Rim، وأكبر وأقوى مراكزه الصين.

      ولا شك أن العالم سيواجه في تلك الحالة لونٌ جديد من التعامل مع الآخر، يقوم على سيادة القوة والوحشية. وأول من سيعاني من هذا الأمر هم المسلمون، من حيث هم الجماعة الأضعف حالياً، وهي سنة السيطرة في عملية انتقال المراكز الحضارية، كما رأينا في ظهور الفرس، والروم والغرب المعاصر، بعد أن أخذ دوره من الصراع الداخلي القتّال، ثم اتجه من مراكز أوروبية لاحتلال العالم، مثل البرتغال واسبانيا وإيطاليا وانجلترا وفرنسا وألمانيا التي حاربت الدنيا بأسرها! ثم انتقال المركز من أوروبا إلى أمريكا، وما رأينا من تعاملها الوحشي السافر مع السكان الأصليين من الهنود الحمر، ثم مع الأفارقة السود. وسيتكرر هذا الأمر مع تحول ذاك المركز من الغرب الأمريكي إلى بكين. ولا يعلم مدى ما سيصل إليه توحش تلك النقلة إلا الله سبحانه. نسأل الله السلامة.

      ما هو مستقبل المسلمين؟

      يعلم الله وحده كيف سنخرج من هذه الأزمة، وبعد كم قرنٍ من الزمن. لكن المقدمات تنبأ عن زمن أسودٍ أشرٍ قادمٍ، قد لا يدع إلا من يعرف قولة لا إله إلا الله، لا يزيد عنها. والنصر الذي وعد الله لابد له من جيل آخر، وفهمٍ آخر والتزام آخر، وتغيّر شاملٍ في الخريطة السياسية التي رسمنا. كيف سيتم ذلك، وعلى يد من، وفي أي عصرٍ، فتقرير هذا ضرب من ضروب التكهن وقراءة الكفّ السياسيّ. لكن الثابت هو إننا لسنا على مرمى حجر من بيت المقدس، إلا جغرافيا، لا نفوذاً ولا سيطرة. وعلى القائل بهذا أن يبدّل الصنف الذي يتعاطاه ليقلل من حدة الخرافات التي يخرج بها على الناس في تصوّف كهنيّ يرتدي لباس السياسة والعلم وهو برئ منهما معا.

      المسلمون مقدمون على زمن، لا يعلم إلا الله مدى وحشيته على من يلتزم به ديناً، بل وعلى من لا يلتزم به كذلك، وما حدث في البوسنة والهرسك منا ببعيد.

      اللهم هيئ لنا من أمرنا رشدا.

      د طارق عبد الحليم

      7 فبراير 2021 – 22 جماد ثان 1442

      [1]  https://tariq-abdelhaleem.net/ar/post/73317 & https://tariq-abdelhaleem.net/ar/post/73316