فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      ... وإنهم ميتون

      الحمد لله والصلاة والسلام على الحبيب المصطفي وآله وصحبه

      يلح عليّ أمرٌ الموت، وتذكره، والصرف الوقت الطويل في محاولة استيعاب حقيقة أنه واقعٌ لا مردّ له، إلحاحاً شديداً منذ سنين عديدة. لكن أمر هذا الإلحاح قد ازداد في الآونة الأخيرة، حتى صارت الفكرة تسبق إليه قبل أي فكرة تطرأ على البال، حين يسرح العقل في مناحي الحياة، سواء في ماضي يُستعبر، أو مستقبلٍ يُستشرف أو حاضر يُستنطق. لكن جلالة الموضوع، وتقدير أثره على الناس، يجعله، كلّ مرة يتنحى لغيره مما يرد على الخاطر، فتجري بغيره الأصابع وتنتظم فيه الكلمات، ويؤجل الحديث فيه على الرغم مني. ويبقى أمر الموت، كامناً مستتراً، ينظر من خلف ستائر الفكر، كأنه مُحتجب منه، وهو ليس بمحتجب، وكأنه متوارٍ عن النفس وهو مكشوف لها، وأنّى له الاحتجاب والخفاء، وهو الحق الذي لا معدً عنه ولا مفر منه. أمرٌ لا جدل فيه حيث يمكن الجدل في أي أمرٍ سواه، فقد جادل الكفار في وجود الله سبحانه، خَذَلهم الله، لكن أحداً لم يجادل في قوله "فإنك ميتٌ وإنهم ميتون".

      كثيراً ما يقول لي قريب أو خليل: مالك تُكثر الحديث عن الموت!؟ كفاك تشاؤماً! فأقول، أولاً قول الحبيب المصطفى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله ﷺأكثروا ذكر هادم اللَّذات: الموت" الترمذي وابن ماجة وابن حبان. ولولا أهمية الإكثار من ذكر الموت، لما نبهنا عليها الحبيب المصطفى ﷺ. ولم نره ﷺ يقول أكثروا من ذكر الحياة ومتعها وملذاتها! بل أمر بذكر ما يهدم المتع والملذات، الموت! ثم ثانياً، أين التشاؤم في الحديث عن أمرٍ واقعٍ بلا بد، حقيقة كلية عامةٍ لا تخصيص فيها ولا استثناء، وما نهاية كل يومٍ إلا ونحن نقترب من تحققها يوماً آخر، لا مراء في ذلك. ليس هذا تشاؤماً لكنه واقعية وضعية شرعية، وحتمية من المحتوم القدريّ. والتشاؤم في إنْه لو منع هذا الفِكرَ صاحبُه من أداء مهامه في الدنيا أو عطّله عنه أو أعطله بالكلية. فهذا ما لا يستقيم معه أمر ذكر الموت، كما تفعل بعض الصوفية.

      لكن أمر الموت أمرٌ عظيمٌ جليلٌ، هو ليس إغلاق باب من أبواب الحياة على حيّ، وإسدال الستار على وجوده، بل هو فتح باب واسعٍ عريض على مصراعيه لوالجٍ إلى ما هو أعظم الأمور في سلسلة أحداث تلك الحياة التي انتهت في تلك اللحظة.

      الأمر هو ما يأتي بعد الموت. الأمر أمر الصحيفة أو الكتاب. أيكون المرء ممن يقول "هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَٰبِيَهْ"، أم ممن يقول "يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ"! أيكون ممن تبيض وجوههم أم ممن تسودّ وجوههم "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ"! أيكون ممن يدعوه الحبيب المصطفى ﷺ إلى حوضه يشرب منه، أم من يُدفع عن الحوض لآنه بدّل وغيّر كما في البخاري "إنِّي فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ مَنْ مَرَّ عَلَيَّ شَرِبَ ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، لَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: إِنَّهُمْ مِنِّي، فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا، سُحْقًا، لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي". أيكون ممن يؤذن للشافعين فيه فيشفعوا له عند ربه "وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ"، أم ممن تُردّ فيه الشفاعة فلا تقبل من الشافع "فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ" ؟ هذا ما يقض المضجع، ويهدم اللذات، ويترك المرء حيراناً لا يدري، أستُكتبُ له التوبة وتقبل فيه الشفاعة ويشربُ شربة لا يظمأ بعدها أبداً ويتيه بين الخَلق بما في كتابه، أم لا؟ وأي "لا" هذه؟! هي "لا" نافية لكل ما بعدها بلا نعم تالية، ولا جمل مستأنفة!

      ويسرح الخاطر، فيما قدّم المرء من عملٍ، في حياة طالت حتى قصر ما بقي منها، فقارب ظلّه الصفر. ويتذكر المرء ما وقع منه من تفريط وإفراط، ذنوب هنا ومعاصٍ هناك، وإصرار تلاه استغفار، وكثير، كثير مما نسيه صاحبه، لكنه باقٍ لا يُنسى "هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" الجاثية، وذلك لأنه "وما كان رَبُك نَسياً".

      الموت أمره عظيم، وسنلاقيه، قريباً لا بعيداً، كما ورد عن علىّ رضي الله عنه "كلّ آت قريب، وإنما البعيد ما ليس بآتٍ"، خاصة وعلاماته أظهر وأبين مع تقدّم العمر وتزايد الداء وضعف الجسد. لكن ما يجب أن أنصح به نفسي الضعيفة هو الهمة التي لا تفتر في عمل ما يرجى به القبول عند الله سبحانه، بقولٍ أو كلمة، فضعف الهمة داءُ النفوس وذكر الموت دواؤه إن صحت النية.

      الله اكتب لنا من رحمتك ما تمحو به خطايانا، ومن عفوك ما تبدل به سوء أعمالنا حسنات تفتح لنا أبواب جناتك، فإنك عفو تحب العفو.

      الضعيف لرحمة ربه طارق عبد الحليم

      16 جماد ثان 1442 –  30 يناير 2021