فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      الجهل بالجاهلية ... في مجتمعنا المعاصر

      الجزء الأول: المصدر

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،

      لا تكمن المشكلة الحقيقة التي نعيشها في مجتمعاتنا "الإسلامية!" اليوم في أنها تعيش في جاهلية عمياء، ضاربة بجذورها تحت التربة التي تقوم عليها تلك المجتمعات، إلى أعمق طبقاتها. بل المشكلة الحقيقية هي في إننا لا نرى هذه الجاهلية أصلاً، ولا ندرك وجودها حولنا، ومن ثم، فنحن لسنا في جاهلية!

      هذه هي المصيبة الكبرى ...

      وهذا العمى عن رؤية الجاهلية وحقيقتها وتشعباتها، وتحكمها في كلّ مفصلٍ من مفاصل حياتنا، العامة والخاصة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع، في التربية والتعليم، في الفكر والأدب والفنون بأنواعها، ليس خاصاً بالعامة وحدهم، بل هو شائع بين العامة وبين أكثر من هم من "أصحاب الدعوة" المنتسبين إلي "دعوة" ما، لا يعلم حقيقتها إلا الله!

      حين صرّح كبار أهل الدعوة، ومفكريها وقادتها، من أهل السنة، مثل الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، والإمام السيد أبو الأعلى المودوديّ، والعالم الشهيد سيد قطب، وكثيرٌ من طبقتهم، في القرنين الماضيين، أنّ مجتمعاتنا تعيش جاهلية صريحة، بكل معاني تلك الكلمة، تشريعاً وتطبيقاً، خارج إطار الشرع، رماهم "أصحاب الدعوة" الزائفة، من العلماء اسماً، العميان قلباً وعقلاً، بأنهم تكفيريون، وأنّه ليست هناك جاهلية في أيامنا هذه! بل هي خطايا وذنوبٌ، عمّت في الشعوب المسلمة، كما كانت في خلال القرون الخالية منذ عصر النبوة! قد يستثنون منها القرون الثلاثة الفضلى ...!

      أقول هذه هي المصيبة الحقّة ...

      الجهل بالجاهلية .. هي مصيبتنا الأولى، والكبرى ...

      المصيبة أنّ الداء قد تشخّص خطئاً، ومن ثم لم يُجْدى دواء في معالجة المشكلة على الإطلاق، وهو الواقع الذي نعيشه اليوم، لمن لم يلحظ ذلك.

      نعم، نحن نعيش جاهلية تامة، مظلمة، بكل أبعادها، ألقت برانها على القلوب فغلّفتها، وشدّت القيود على أيدي العاملين المخلصين، المُدركين للداء وصحيح الدواء.

      نحن نعيش جاهلية جديدة، أشدّ وأقسى، وأمكر وأخطر، وأقوى وأغلظ من جاهلية قريشٍ الساذجة البسيطة، التي كانت تتمثل في عبادة بعض الأصنام الحجرية، وتقنين شرائع لمجتمعهم البدائيّ حسب أهوائهم ورغباتهم الدنيوية.

      جاهليتنا جاهلية علمية، تكنولوجية، إعلامية، اقتصادية وسياسية وعسكرية وسياسية واجتماعية وثقافية، تستخدم كلّ ما وصل إليه البشر من معرفة، بسلطان من الله حقاً، ليثخنوا في الجسد الإسلامي الهزيل المتداعي، بعد أن نجحوا في إفقاده البصر، والبصيرة، فصار أهله، بل وكبارهم، لا يرون تلك الجاهلية وهي تعمل عملها في مجتمعاتهم، إذ جهلوا حقيقة معناها، شرعاً واصطلاحاً.

      يعايش الناس الجاهلية في تلفازهم، وما يُقدَّم لهم من مادة، تخجل منها جاهلية قريش! يعيشون جاهلية الأندية أو المنتديات الفاسقة، حيث يقيمون حفلات عهر، يندى لها جبين العربيّ الجاهليّ، ودعوات حقوق المرأة الجاهلية في التعرّى والاختلاط المُحرّم، والحرية بلا قيود ولا حدود. يعيشون الكذب في كلّ قولٍ وفعل، والرشوة والتضليل والمخادعة و"الشطارة"! وأكل أموال غيرهم بالباطل، وجحد الحقوق، وإنكار العهود، والتعارف على المنكر، وإنكار المعروف. والأدهي من ذلك، ذلك الكمّ الهائل منهم، ممن يؤيد أو يعين المجرمين السفاحين من طبقة الحكام المرتدين، صانعي الجاهلية وأحبارها وحرّاسها، رغن أنهم يتخذونهم سخرياً، ويتركونهم فقراء ومرضى وأذلاء، دون حقٍ ولا كرامة.

      والناس لا يرون كلّ هذا إلا بمنظار أولئك الفجرة من علماء دعوة السلطان...ويرددون كالببغاء كلمات "الإرهاب، التكفير، التطرف ..." دون وعي بما هم فيه من جاهلية يتبرأ منها الله ورسوله وأنبياءه والملائكة والمؤمنين جميعا!  وما أصدق قول الله سبحانه في وصف هذه المشهد الرهيب

      "وَلَوۡ تَرَىٰٓ إِذِ ٱلظَّٰلِمُونَ مَوۡقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمۡ يَرۡجِعُ بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٍ ٱلۡقَوۡلَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ لَوۡلَآ أَنتُمۡ لَكُنَّا مُؤۡمِنِينَ ﴿٣١﴾ قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُوٓاْ أَنَحۡنُ صَدَدۡنَٰكُمۡ عَنِ ٱلۡهُدَىٰ بَعۡدَ إِذۡ جَآءَكُمۖ بَلۡ كُنتُم مُّجۡرِمِينَ ﴿٣٢﴾ وَقَالَ ٱلَّذِينَ ٱسۡتُضۡعِفُواْ لِلَّذِينَ ٱسۡتَكۡبَرُواْ بَلۡ مَكۡرُ ٱلَّيۡلِ وَٱلنَّهَارِ إِذۡ تَأۡمُرُونَنَآ أَن نَّكۡفُرَ بِٱللَّهِ وَنَجۡعَلَ لَهُۥٓ أَندَادٗاۚ وَأَسَرُّواْ ٱلنَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ ٱلۡعَذَابَۚ وَجَعَلۡنَا ٱلۡأَغۡلَٰلَ فِيٓ أَعۡنَاقِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْۖ هَلۡ يُجۡزَوۡنَ إِلَّا مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ﴿٣٣﴾" سبأ ... جدلٌ بين الظالم والمستضعف المستسلم بسلمية ... حيث لا ينفع الجدل!

      نعم، أكرر، هذه هي مصيبتنا الكبرى ... لا ندرك إننا نعيش جاهلية متغلغلة في صميم بنياننا، مختلطة بلحمنا وعظامنا، متشابكة مع رغباتنا وشهواتنا، مقنِّنَةٍ لتك الرغبات والشهوات، حتى صارت جزءاً منّا، وصرنا جزءاً منها ... نسيج واحدٌ، أنَّى أن تفرّق بين خلاياه السليمة من الفاسدة!؟

      هذه هي مصيبتنا الكبرى ...

      ولا حول ولا قوة إلا بالله

      (2)

      الجزء الثاني: الغربة عن الجاهلية

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،

      لم يخلق الله داءً إلا وخلق معه الدواء ... هذه سنّة عامّة، سواء في عالم الطبيعة أو المجتمعات، في عالم الأجساد وعالم العقول.

      وأدواء المجتمع أو العقل، أشدّ خطراً وأفتك بأهلها من أدواء الطبيعة والجسد. ذلك من حيث إنها:

      أولاً هي أكثر انتشاراً وأوسع تأثيراً، حتى الأوبئة، إذ الأوبئة عمرها محدود بشهور أو سنين قليلة.

      وثانياً، لأنها باقية الأثر، تتطور نحو الأخبث فالأخبث مع مرور الزمن، مثلها كمثل السرطان، مع فارق أن السرطان الجسدي يصيب فرداً، لا مجتمعاً بأسره.

      وثالثاً، لأنها خافية عن الأعين، لا تكاد تلحظها إلا عين خبيرة بقواعد العمران وسنن الاجتماع ودلالات التفرق والتمزق.

      من هنا يعزّ الدواء ويصعب، في حالة أمراض المجتمع عن أمراض الجسد، كما نرى في مصيبتنا الكبرى، التي أشرنا إليها، ومختصرها "الجهل"، الجهل بطبيعة المرض، الجهل بطبيعة الجاهلية، التي هي المرض.

      ومثل أن لكل داء مضاد حيويّ، يعين الجسد على قهر المرض، فكذلك أدواء المجتمع. ومضاد الجهل العلم. فإعلام الناس بمعنى الجاهلية، ومظاهرها وتوابعها وآثارها، هو العلاج الأوحد الذي يمكن أن يحي بعض الأنفس الميتة، والعقول المنحرفة، والقلوب المغلّفة.

      ولا نتوقع أنْ تحيا كلّ النفوس، أو تُرَدّ كلّ العقول أو تتطهر كلّ القلوب. هذا لن يكون ... لكن الأمل في بعث عدد من خلق الله المصلحين الصادقين الربانيين، من أصحاب الخلق والدين واليقين، على بيّنة من ربهم، وعلى معرفة بواقعهم وفهم لعدوهم، ودراية بخطورة الجاهلية التي تحيط بهم، فيعملون على إشاعة الهدى ونشر العلم، وتوسعة رقعة الحق بين الناس، ونزع حجاب الجهل والعمى عن العيون والعقول، ليرى الناس الجاهلية ... كما هي ... على حقيقتها ... جاهلية القرن الواحد والعشرين ... القرن الخامس عشر الهجريّ ... بكل ملامحها المقيتة القبيحة المتزينة كالشمطاء في عين عريس غافل!

      فإن تمّ ذلك .. في جيل بعد جيل، تكوّنت البنية الصلبة على قواعد الحق، ونشأ جيش القوة المدعوم بالعلم والحق، والرؤية الصائبة، فلا تتكرر مأساة الجماعات الإسلامية الخائبة، التي عانى  منها الواقع الإسلامي خلال المائة عام السالفة، من إخوانٍ إلى سلفيين، إلى سروريين أو تحريريين، إلى خوارج ومرجئة من كلّ لون وعلى كلّ بدعة ... ودع عنك الكفار المستترين من الملحدين العلمانيين.

      وكشف ستار الجاهلية صعبٌ يحتاج إلى أمرين: أولهما من يفهم الجاهلية على حقيقتها، ومن ثم يفهم الإسلام على وجهه الصحيح. وصدق عمر رضي الله عنه حيث قال "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية"[1] مجموع الفتاوى ج10 ص 301.

      وثانيهما، أن يكون هناك جمعٌ من الناس على هذا الفهم والوعي، يكفي لينشأ عن دعوته أثرٌ يقوم به تغيير. أيّ، بكلمات أخر، يكون هناك الفرد، وتكون هناك الفئة، ثم تكون هناك المواجهة. ليس قبل ذلك بحال، ولا بعد ذلك بحال.

      نشر الوعي بالجاهلية التي نعيشها، وتعريف تفاصيلها ومفرداتها لأبنائنا، وشبابنا، وأهلينا، هو ما يمكن أن يؤجج في نفوسهم شعور الغربة عن هذا المجتمع الجاهليّ. فمن غير شعور الغربة عن الجاهلية، لن يكون هناك أملٌ في وعيٍ ولا تغيير، ولا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر.

      وكيف ينهى عن المنكر من لا يراه منكراً، أو من يراه مألوفاً عادياً؟! وكيف يأمر بمعروفٍ من لا يدرك مدى العرف فيه، وموضعه من شرعه ودينه، بل قد يراه غريباً على طبعه ومألوفه؟!

       كلها أمور تتشابك حلقاتها، وتتضافر أواصرها، لتصل إلى نتيجة واحدة، هي جدية الدعوة، التي تبدأ بالتعريف بالتوحيد، وتمييز الجاهلية والشرك، سلباً وإيجابا "فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ " البقرة 256، فإن كلّ المحاولات التي دارت حول حلول اإيجاب، أي شرح الإسلام وتحبيبه إلى الناس، دون بيان الجاهلية وما هم غارقون في أوحاله، قد باءت بفشل ذريعٍ.

      ودونك المنهج القرآني. يبيّن آيات الله، ويقدم ناذداً للمؤمنين الصادقين، يبيّن الكفر بأشكاله وأنواعه، وخطره ومكره وطرقه الملتوية، ويضرب أمثلة بألوان من الكافرين وأفعالهم.

      وهذا هو طريقنا، إن شاء الله، لمن أراد الرشد

      ولا حول ولا قوة إلا بالله

      د طارق عبد الحليم

      31 يوليو 2020 – يوم عيد الأضحى الموافق 10 من ذي الحجة 1441

       

      [1]  والأثر مروي بألفاظ أخرى غير ما أوردها ابن تيمية "عن شبيب بن غرقدة عن المستظل بن حصين البارقي قال
      خطبنا عمر بن الخطاب فقال : قد علمتُ وربِّ الكعبة متى تهلك العرب . فقام إليه رجلٌ من المسلمين فقال : متى يهلكون يا أمير المؤمنين ؟ قال : حين يسوس أمرَهم من لم يعالج أمر الجاهلية ولم يصحب الرسول صلى الله عليه وسلم" والمعنى واحد.