فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      كلمة أخيرة فاصلة في موضوع نظرية المؤامرة

      كلمة أخيرة فاصلة في موضوع نظرية المؤامرة

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

      من أشق الأمور على نفسي، هو تناول موضوع ما أكثر من مرة، شرحاً أو بياناً، أو استدلالاً، إذ من طبيعتي كراهة التكرار، بكل صوره!

      لكن الأمر هنا يتعلق بطبيعة الناس عامة، وهي الاختلاف، الذي هو سمة من سمات البشر لا تراوحه أبداً " وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ" يوسف 119.

      ولهذا الاختلاف بين الناس سببان أساسين، أولهما شخصيّ والآخر موضوعي.

      فأما الموضوعيّ، فهو أن لكل وجه من أوجه المسألة التي يختلف عليها الناس شواهد ودلائل وقرائن، لا أقول أدلة وبراهين يقينية، إذ لو كانت ترقى لهذا ما اختلف الناس فيها، قال تعالى " قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا" الإسراء 95. فمدار الاختبار هو في إظهار الشواهد والأدلة والقرائن، التي يضعها المرء في شبكة متكاملة تصل إلى يقين جازم، حقاً أو باطلاً كان، والسعيد من وفقه الله تعالى.

      وأمّا الشخصيّ، فهو قدرة المرء على الاستدلال والاستنباط مما بين يديه من معلومات، صحيحة أو زائفة، وهي تتفاوت بتفاوت قدرته العقلية، ثم تركيبته النفسية التي ينفرد بها بين الخلق، لا يشركه فيها أحد، من نفسية شكاكة، أو مدققة، أو متزنة، أو قابلة موافِقة، أو مُخَالِفَة مُبَايِنَة.

      وهذا الذي نقول قد ظهر مؤخراً في جدلٍ اعتبره عقيماً، لأسباب سأذكرها لاحقاً، عن "نظرية المؤامرة"، بين:

      1. جازم بوجودها: فهو يرى أن ّكل حدث أوفعل له أثر في حياة الناس، خاصة المجتمع الإسلاميّ، هو من تدبيرٍ وأعداد وترتيب وتخطيط مُسبق، مُتّفقٌ عليه، يمكن أن يقال فيه إنه "في كتاب مسطور لديهم من قبل أن يقع"، لكنه كتاب من وضع العدو من البشر.

      ومن الطبيعي أن تجد من بين هؤلاء أصحاب ثقافة، وأطباء ومهندسين ومستشارين في كافة المجالات. فإن الصفات الشخصية التي أوردنا ذكرها، موجودة في كلّ طبقة من الخلق، فقراً وغنى، علماً وجهلاً، صغراً وكبراً. ومن بين هؤلاء من يقدّم لتلك الفئة القرائن والشواهد "الموضوعية"، التي ألمحنا إليها.

      فهذه الفئة لا تتحدث من فراغٍ كاملٍ أو دون أساس ما، بل لديها شواهد وأدلة، يضعها بين يديها العالم الفلاني، أو الصحفي العلاني، أو الشخصية الدولية، أو الأستاذ الجامعي أو غيرهم، من هنا وهناك، ومن كلّ أمة من الأمم، يستوى فيها الشرقيّ والغربي. فإن تلك الصفات التي ذكرنا هي صفات بشرٍ بعمومه، لا بخصوص جنس منه.

      وبالنسبة لهؤلاء، إن اعتبرنا الصفات "الشخصية" فإن معناها ونتيجتها واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، مدعومة بأقوال أصحاب وزن ما! فلا سبيل إلى إنكارها، خاصة و"الهوى" هنا يعتمل مع العامل الشخصيّ، فيجعل رؤية غير تلك النتيجة مستحيلاً، قولاً واحداً.

      1. منكرٌ لوجودها بالكلية: وهؤلاء، وبين أيديهم نفس الشواهد والقرائن والدلائل، وتتراوح شخصياتهم بين تلك الطبائع التي ذكرنا، تجدهم يفندون هذه الشواهد والقرائن كلها، واحدة واحدة، لا يرونها في كليتها، فيرجعون إلى إنكار مصداقيتها في ذاتها مفردة، أو إلى إغراض صاحبها أو الآخذ بها، سواءً كان مُغْرضاً أو مُضَلَلاً. فهم يرون أن أمور الناس، والمجتمعات، والدنيا، تسير على منوال سنة مُعينة، موكولة إلى الصدفة عند الملحدين، أو القوانين الطبيعية عند الطبيعيين، أو على كتاب مسطور عند الله سبحانه، عند المسلمين، وكثير من أهل الكتاب، ولا شأن للناس به.

      وكلا الفريقين مشوش الفكر، مضطرب الفهم، مختلط المنهج، مع الأسف، مثقفاً أو صاحب منصب علمي أكاديمي أو غير ذلك.

      أولاً: فإن الجازم بوجود هذه المؤامرة، ليس لديه في الحقيقة إلا "شواهد عليها"، فإنه لم يجلس على طاولة يتآمر الجالسون عليها بالفعل!، إنما هي متواليات عقلية منطقية (بالنسبة له) تصل إلى تلك الشبكة من التدابير المسطورة مسبقاً في مخططاتهم (كتابهم المسطور)، الذي لا يخرج عنه حدثٌ له شأن في حياة الناس. ومن المعلوم، أنه يمكن للمرء أن يُركّب شبكة منطقية من معلومات بين يديه ليصل إلى عشرات النتائج المختلفة، بتغيير ترتيبها أو التدقيق في مصدر أحدها. ولنا في هذا اللون من النقد ما قام به أصحاب علم الرجال من رفض أحاديث أو تضعيفها لأمور يظهر للعاميّ بساطتها، مثل الأكل أثناء السير، الذي اعتبروه من قلة المروءة! فضوابط قبول الأخبار أدق كثيراً جداً مما يُدرك أولئك الجازمون.

      ولو دققنا في حقيقة ما يقول هؤلاء لوجدنا أنهم، بقصدٍ أو بغير قصد، فيهم قدرٌ من شرك الربوبية. ذلك أن شرك الألوهية هو أن يجعل البشر كتباً للقانون يتَّبعونها، بدلاً مما أنزل الله من تشريعات. لكن افتراض أن هناك كتبا (فلنسميها مخططات) يسير عليه المجتمع البشري، بفعل حفنة من البشر، لا يخرجون عنها، و"أدلتها وبراهينها" جاهزة عندهم، هو بلا شك، لون من ألوان شرك الربوبية. وقد يقول قائل: ولكننا نزعم أن تلك المؤامرات والتخطيطات هي بعد أن يأذن بها الله!؟ قلنا: قف يا أنت، فإن تسيير المجتمع عامة وإدارة دفة الأحداث، سواء الأمراض أو الأوبئة أو الأزمات الاقتصادية أو الأمراض الاجتماعية، حين تكون كلها مخططة مسبقاً في كتب مسطورة، هي من قبيل ما تصف الصوفية أولياءها وأركانها من نيابة عن الله في تسيير كونه! والله سبحانه، لا يدع لبشر، ولا للأنبياء مثل هذه السطوة العظيمة المهيمنة القاهرة، التي لا فكاك منها.

      والأمر أنّ هؤلاء لا حلّ لديهم في مقابل ما يجزمون بوجوده وسيطرته وقهره إلى هذه الدرجة، بل هم أولاً وأخيراً مستسلمون ضعفاء لا حيلة لهم ولا سبيلاً، إلا ما يدّعونه من "توعية الناس"! وأي فائدة في توعية مَنْ إنْ قام بردَّة فعل أو ثورة، أولتموها بعدها بأنها "مؤامرة جديدة". دائرة مفرغة عبيثة لا معنى لها. ومن هنا ذكرت من قبل معنى الجدل العقيم.

      ثانياً: أما المنكر لوجود المؤامرة بالكلية، فهو يعيش في عالم مثاليّ بسيط مريح، يترك نفسه كريشة في مهب الريح! فهو راض، موافق، متقبل لكل ما يجري حوله، أنه قدر الله، ولا فكاك منه، وأن ليس للبشر دخلٌ في اصطناعه أو توجيهه!

      وهذه سذاجة وسطحية، مهما كانت درجة الآخذ بها، علمياً أو ثقافياً أو اجتماعياً.

      فهؤلاء هم عبيد السادة من طبقة الملأ، وإن رأيت بعضهم ساخطٌ في بعض الأحيان، فهو سخطٌ عبثيّ، لا يرى نمطاً من وراء الأحداث، على الإطلاق، بل هي دائماً، كما هي، بلا كيف ولا سبب!  

      فأين الحق إذن، في هذا المجتمع الدوليّ الشديد التعقيد، الموغل في الشرّ، الجانح للإفساد ما استطاع، وهي حقيقة اجتمع عليها الفريقين كلاهما؟

      التوفيق ... نعم، منهج التوفيق، والنظر في المسائل نظرة كلية، لنرى إن كان هناك رابط يربط شواهدها وقرائنها، ثم نظرة جزئية، تنظر في كلّ حدث وحده بمفرده، فقد يقع تحت كلية نظرية المؤامرة، أو قد لا يقع تحتها.

      ونظرية المؤامرة، لا شك في وجودها، بحجمٍ ما، يتناسب مع قدرة البشر على تسيير أحوال الدنيا، والسيطرة على مقدرات ومصائر وتصرفات الناس، في حدود أن القائمين بها بشر لا يزالون، دون افتراض قدر من الربوبية في أفعالهم. لكن هذا القدر، محدود، يمكن كشفه، ومعرفة أبعاده.

      والغالب أنّ المؤامرة، تنقسم إلى قسمين، قسم ينشؤه العدو إنشاء، مثل تكوين الجيوش العربية على عقيدة صراع شعوبها وخيانتهم، الانقلابات العسكرية في بعض الدول، كما رأينا في بعض دول أمريكا اللاتينية، أو اختيار شخصية ما مثل عبد الناصر المجرم ليكون رمزاً مناهضاً للشيوعية، ومعيناً للنفوذ الغربيّ في الباطن، مع عدائه لهما في الظاهر، تحت شعار القومية العربية.

      والقسم الآخر، هو ما يكون من مؤامرة بعد أن تقع السنة الإلهية، سواء بوباء أو ثورة أو سيطرة كفار على الحكم. فإن المؤامرة ساعتها تأخذ بتلابيب الحدث، فلا تفلته، وترعاه فلا تجعه يصل لهدفه الأساسيّ، بل ليصل إلى هدفٍ لها. وقد رأينا في التاريخ مئاتٍ من هذه الملابسات، وليس قتل الملك فيصل على يد من رعته ال CIA من أسرته، منا ببعيد (ولست في مقام تقريظ لأحد) ولا يظن عاقلٌ أن منع البترول عن الغرب عام 1973 كان تدبيراً غربياً! أو أحداث سبتمبر، التي هي من تدبير من ادعوها بالكامل، لكن كان العدو على علم بها بعد بداية خطواتها، فلم يعرقلها، بل أعان في تحقيق التدمير بشكل أكبر مما خُطِّط له، ليصل العدو إلى هدفه. لكنها من تخطيط وتنفيذ الجماعة التي ادعتها بلا شك، وليست مؤامرة بهذا المفهوم.

      أقول، الانتباه لتصرفات العدو، وتحليل تحركاته وسكناته، ومعرفة مخططاته، أمر هام وحيويّ أساسي بالنسبة للمسلمين الذين يفكرون في مستقبل هذه الدين.لكن استغراق الجهد، وصرف الوقت كاملاً في تتبع الدلائل والعلامات وغرائب التفصيلات، لن يعين أحداً على شئ أبداً، فالأمور، حسب نظرية هؤلاء، خارجة عن أيدينا على أية حال!

      كما أن الذهول عن واقع مكر العدو "وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ" إبراهيم 46، هو خيبة وضعف عقل وطريقٌ ممهد إلى الهزيمة واستمرار العبودية.

      اختبار الشواهد المعروضة، والنظر في مصادرها، ومدى معقوليتها، والثقة في رواتها، ومدى انطباقها على كلية نظرية المؤامرة، ثم مدى صدقها كفردية مخصوصة، وعدم القفز إلى نتيجة أنْ "انظروا هذا من تدبير هؤلاء ... قلنا لكن ... هذا دليل آخر وبرهان جديد!!"، لا، هذا شاهد جديد، يصدق أو يكذب، فهو محل اختبار.

      ولا شكّ أن تكاثر الشواهد والقرائن على كلية ما (وجود نظرية مؤامرة، دون الألف واللام) يدل على صحتها في الجملة، وهي قاعدة ثابتة في الأصول وفي العقول (ليس هناك دخان بغير نار!)، لكن الحذر الحذر من التمادي في تقدير حكم تلك النار، أو ثقل ذاك الدخان.

      والله تعالى أعلم

      د طارق عبد الحليم

      28 رمضان 1441

      21 مايو 2020