فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      دراسة حول المرونة في السياسة الشرعية .. والوضع الدولي

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وبعد

      (1)

      لا شك أن فهم الواقع وتقديره، ومن ثمّ التعامل معه، هو نصف الشريعة. فلا يمكن لفقيه أو عالم أن يغض الطرف عن واقعه، أو ألا يكون على بينه منه، ثم يصدر الفتاوى، سواءً كانت خاصة لفرد أو عامة لأمة. والأخيرة هذه، هي ما نقصد من مقالنا هذا.

      الواقع الدوليّ في غاية التعقيد والتشابك، على سهولته ويسره. فهو سهلٌ واضح المعالم حين تقسمه إلى شقين، شقٌ معاند للشرع كاره للإسلام، وهو كافة الحكومات في عالمنا اليوم، شرقاً وغرباً. وشقٌ محبٌ للإسلام، حريص عليه، راغب في الحياة بحسب قوانينه وتصوراته، وهو أقل الأقلية في خضمّ الشعوب المسلمة في الشرق.

      لكنه واقع معقدٌ متشابك، حين يريد المهتم بأمر تلك القلة أن يتعامل معه، ليحقق ما يهدف اليه. إذ وجود الهدف لا يعنى إمكانية تطبيقه، من حيث توفر الشروط ووجود الموانع ودرجة قوتها. وهذا اللون من الفقه، فقه الواقع بشقيه، أعنى الحكم الشرعي والواقع الدولي، هو ما يسمى السياسة الشرعية.

      وعملية المزج بين الحكم الشرعي والواقع العمليّ للخروج بفتوى، أي طريق التعامل في مسألة معينة، يسبقها تحديد الحكم الشرعيّ الملائم للتطبيق من حيث إدراجه في بابه الفقهي، أو تحت قواعده الكلية، وفهم الواقع المتشابك المعقد، بكلّ أبعاده، كما ذكرنا.

      وقد اختلف الناظرون في زمننا هذا، في مسائل السياسة الشرعية، وتضاربت أنظارهم واختلفت فتاواهم، ومن ثم تعارضت الطرق التي يسلكونها على أرض الواقع. وما ذلك إلا بسبب ضعف أو قوة لدى الناظر في الجانب الشرعي، أو غبش وضبابية في فهمه للواقع، أو كليهما، مع هوى مسبق مترصد بالعقل والقلب.

      وقد سمعنا في العقود الأخيرة نغمات يرددها عدد من العاملين في حقل الحركة الإسلامية، والمتصدين لأمور "الأمة" العامة، تدعو إلى "المرونة" في التعامل مع الواقع، وفي اعتبار معطياته بشكلٍ واقعيّ لا خيال فيه ولا شطط.

      وقد قامت جماعات بأكملها على أساس من تلك "المرونة" كجماعة "الإخوان"، ووليدتها غير الشرعية "السرورية". وقد أقصينا الجماعات السلفية السلطانية من هذه المرونة، إذ ليس أتباعها في حاجة أصلاً للتعامل مع واقعٍ هم يرونه لا مخرج منه كما هو اليوم، فيستسلمون له بكامل معطياته، ويزعمون أنه في حاجة للإصلاح لا للتبديل! وكيف تصلح كبداً مقروحة بسرطان خبيث انتشر فيها، وفيما حولها، إلى العمق؟!

      وكان من جرّاء الإحباط الشديد لدى أبناء السنة، من محبي الإسلام، الراغبين في تطبيقه، أن توجه عدد منهم إلى الغلو المفرط، فوقعوا في شباك الحرورية، ووجدوا في دعاتها ما يخدم تصوراتهم الطفولية البدائية، فارتموا في أحضان من لم يرحمهم ولم يرحم الأمة. وهؤلاء رفضوا "المرونة" أصلاً، بأي مفهوم لها، وأي درجة من درجاتها.

      لكن في مقابل هؤلاء، وبدافعٍ من نفس الشعور بالإحباط، صارت تصورات البعض من هؤلاء من محبي الإسلام، الراغبين في تطبيقه، تتحول من الوسطية في التصور، إلى تبنى "المرونة" الإخوانية السرورية، في محاولة للوصول إلى حلّ يخرج بهم من أزمة لم تسعفهم فيها "الوسطية السنية" كما عُرضت عليهم أولاً، ومن حيث غاب تطبيقها على الأرض، بما يرضيهم عقلاً وقلباً.

      فكان من الضروري أن نتعرض لمفهوم "المرونة" ومحاولة وضع أسس لدرجاتها، حتى لا تتحول إلى "رمال متحركة" تنسحب فيها أقدام، ساقتها تعاسة واقعها إلى حيث تغرقها في خطأ التصور والتصرف، بكلّ قسوة وعنف.

      (2)

      قلنا إن الطريق التي يجب على مسلم، في محلّ القرار، أن يتبعها، أو بتعبير شرعي "الفتوى"، تشمل تحديد حكم شرعي، وتوصيف واقع عالمي.

      أمّا الحكم الشرعيّ، فهو مجال العلماء الربانيين، الذين إن عُرض عليهم واقع ما، دلّوا على الحكم الشرعيّ الملائم لاعتباره في الفتوى، وأقاموا عليه الدليل الشرعيّ، النصي أو الاجتهاديّ حسب المسألة. وهذا مجاله بحث آخر في موضعٍ آخر.

      ولابد من الإشارة هنا إلى أن الناظرين في الأدلة الشرعية صنفان، صنف يأخذها لتهديه إلى ما هو حقٌ في مناسبتها، وهو مذهب الافتقار، وصنف يستدل بها على ما تقرر في ذهنه من قبل النظر وهو مذهب الاستظهار، على ما وسمهما به الشاطبي.

      أما هؤلاء الذين يعرضون الواقع ويفصّلونه، من قيادات أو سياسيين، فهم يقومون بعملٍ مزدوجٍ، وهما شقيّ الواقع العالمي الثابت الذي يجب التعامل معه ويشارك العلماء في هذا الشق ، والثاني واقع الجماعة المسلمة المحليّ الذي تنطلق منه للتعامل مع ذلك الواقع الأكبر، وهو موكول اليهم خاصة.

      فالعالِم، يمكنه، بل يلزم له، أن يكون على بينة من أوضاع عالمه الذي يعيش فيه، وبدرجة عالية من الوضوح، حتى يمكنه أن يجد الحكم الملائم، وأن يطبق الدليل النصيّ أو الاجتهاديّ. والقائد أو الأمير أو السياسي أو المسؤول، سمه ما شئت، يجب أن يكون على بينة من واقعه المحلي بأدق صورة ممكنة، ليمكن أن يرى محله من الحكم الشرعيّ الصادر من عالمٍ، والواقع العالمي، ومن ثم، يتبنى الفتوى على أساس العلم والصواب.

      (3)

      والحق، أن "المرونة" في التعامل مع الواقع، تعتمد على التصور العقديّ للناظر أولاً، وعلى صنفه، افتقاراً أو استظهاراً، وهواه الشخصيّ وطموحاته، ومدى علمه إن كان معدودا من العلماء، أو تسوّره وتعديه على العلم إن لم يكن.

      ومصدر "المرونة" عادة يأتي من ثلاث توجهات مختلفة:

      أولها: أن يكون الناظر متجرداً عن الهوى، ناظرا للدليل نظرة إفتقار، فاهماً للواقع الدوليّ والمحليّ. فهذا تكون مرونته في حدود الشرع الحنيف، سواء سماها من يعارضه مرونة أو تشدداً، فهما يستويان عنده. وهذه المرونة تكون في صلب الشريعة أصلاً، من حيث الآيات "ما جعل عليكم في الدين من حرج"، و "إن بعد العسر يسرا"، و"لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، والقواعد "المشقة تجلب التيسير" ومثلها.

      والثانية: ما يبدأ بالهوى، ومن ثمّ يكون الناظر مستظهراً بالدليل على ما يريد، وما يراه حقاً، رغم علمه بما عليه الحق، وهؤلاء أصنافهم كثيرة في علماء السلاطين، ودعاة الهوى.

      والثالثة: ما يبدأ بانحراف عقديّ، نتيجة فقر في النظر أو السقوط في شراك بدعة، أو الاحباط من واقع، فيرجع الأخذ بالدليل إلى الاستظهار على ما يريد والاستشهاد به عليه، وإن انخدع بالهوى، واعتقد صحة رأيه، فأضله وأعماه. وقد يقود هذا الصنف صاحبه إلى تأويل التاريخ نفسه والانحراف به، ليناسب فهما محبباً إلى نفسه، مستقراً في عقله، الذي كثيراً ما يطلق عليه "العقل" بأل التعريفية! ، وأمثلة ذلك لا تُحصى في أصناف الفرق المعاصرة، وفي أنصارها، سواء العلمانية أو البدعية، القاعدين منهم والمحاربين.

      ومن أصعب الأمور الكشف عن مصدر "المرونة" خاصة في التوجه الثالث، إذ لا يرى "المَرِنُ" من الدليل إلا ما يريد أن يرى، مع بعض إخلاص أصليّ في العقيدة. لكنك تراها عادة فيمن تبدلت مواقفهم، فهم مترددون متذبذبون، كانوا، ثم أصبحوا ..!

      (4)

      ما هي المرونة في الشريعة الإسلامية:

      وهو السؤال المحوريّ في هذه الدراسة، أهُناك في الشريعة "مرونة"، وهو ما يستدعى أن يكون فيها تصلبا وتشدداً؟ الحق، أنّ هذا التعبير غير دقيق على الإطلاق. الشريعة فيها الأخذ بالأيسر وتجنب جلب المشاق التي لا حاجة لها، أو التي هي فوق المعتاد. لا أكثر من هذا.

      وهذه المعاني قد تمهدت في أصول الفقه، بناءً على نصوص وكليات شرعية ثابتة لا خلاف عليها، ومنها باب الرخص وعموم الاستثناءات في الشريعة. وفي البخاري "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما". وهو من تمام رحمة الله بالعباد. لكن يجب أن يعتبر الناظر أن التيسير هو فيما هو مخيّر فيه ابتداءً، أي بين أمرين ثبت صحتهما شرعاً، فللناظر أن يختار منهما ما هو أيسر له. كذلك يجب أن تُدفع المشقة الزائدة عن التكليف، كمن وُجد لديه ماء بارد ودافئ، وهو في شتاء، فلا يصح له استخدام ما يؤذيه، جلبا للمشقة دون داعٍ.

      وليس في هذا حمل للشريعة على معنى "المرونة" المقصود إلا بالتوسع في ذلك المصطلح دون داعٍ. فالمرونة تيسير، لكن مع احتمال الوجهين، المشروع وغير المشروع، أمّا التيسير بالمعنى الاصطلاحيّ، فهو يحمل تخييراً بين أمرين كلاهما مشروع ابتداءً.

      "المرونة" ،إذا، هي ما يراه الشرع في المسائل على اختلاف أنواعها، وهي ما يحدده الدليل دون التواءٍ وتأويل، وهي ذاتها المصلحة العامة، وهي التطبيق الصحيح لفهم "الواقع"، من حيث تُهيأ بعض العقول لأصحابها أنّ المرونة ستُفقده المصلحة، فيلتوى بعنق الدليل ليوجه مساره إلى ما يراه مصلحة، مدعومة "بدليل".

      (5)

      فإن انتقلنا إلى الواقع العالميّ، المتشابك المعقد، فيمكن لنا أن نلخصه في بضع نقاط:

      1. انعدام الدولة المركزية التي يمكن أن تقوم على أساسها "أمة" بمفهومها السياسي، من حيث وحدة الدفاع والاقتصاد والسياسة، وانتماء الفرد المسلم.
      2. توقُف وجود الأمة المسلمة كوحدة واحدة متماسكة، تتصل ببعضها البعض، لتُكوّن وحدة متماسكة ذات تمكين في أرضها، بعد انعدام الدولة المركزية.
      3. "أمة الإسلام"، بمعناها الخاص، أصبحت متناثرة مشتتة، تتمثل في مجموعات صغيرة موجودة في شتى بقاع الأرض، لا رابط بينها على الحقيقة. وهذا لا يعنى تكفير العوام، كما سيزايد البعض علينا به، لكنه يضع "الأمة" بتعريفها المحدد، بأنها من ينتمى للدين عقديا وعمليا ويتحرك به بين الناس، وضعاً خاصاً.
      4. تغلغل النفوذ الغربي الصهيو-صليبي في كافة مناحي الحياة، ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وعسكريا، في حياة ما تبقى، ومن تبقى، من أمة الإسلام في الأرض التي كانت عليها دولة الإسلام قبلاً.
      5. تسلم السلطة في أرض التاريخ الإسلامي لمن هم أعداء للإسلام باطناً أو ظاهراً وباطناً، سواءً انتموا للعلمانية، أو الإلحاد، أو ممن تبنى الإسلام العلماني الجديد، وكلهم سواء في المروق من الدين الحنيف، وإن تغيرت جلابيبهم وأوعيتهم وألفاظهم.
      6. صنع القرار، بكامل تفاصيله ومستوياته، في أيدى الغرب، وتطبيقه من خلال القائمين على السلطة في "الدول" التي تقع على أرض التاريخ الإسلاميّ.
      7. القوة العسكرية، التي هي الحامي الرئيس لأنظمة الغرب في أرض التاريخ الإسلامي، فائقة بشكلٍ كبير على أية قوة إسلامية محلية عسكرية، عدا الأرض التي فيها جهادٌ فعلي ضد النظم.
      8. ضعف الدعم الشعبيّ للإسلام الحنيف، نظراً لتمييع الإعلام لمفهوم الدين، ولما نبت من حركاتٍ ساهمت في اضطراب تلك الصورة، سواء بسوء أدائها السياسي كالإخوان، أو بإجرمها وتعدّيها كالعوادية الحرورية. ومن ثمّ، فإن الحركات الإسلامية لم يتحصل لها الكمّ الحرج، الذي يمكنها من التغلب على تلك القوة العسكرية والأمنية المسيطرة.

      (6)

      وبناء على هذا الواقع، فإنه تتكشف لنا عدة مُدركات تتعلق بالتعامل معه، منها:

      1. صعوبة التصرف الانفرادي، في هذا الواقع، من حيث إن القرار عادة ليس بيد صانعيه، بل بيد مُمَوّلي صانعيه، سواء جاء التمويل مباشراً أو غير مباشر.
      2. سيطرة الفرضية التي تقول بأنه لا يمكن التحرك في الواقع العالميّ القائم إلا من خلال تحالفات مع بعض الأنظمة الموالية للغرب، حتى يكون هناك منفذٌ على الأقل، وطريقٌ لتحقيق "شئ ما" لصالح "الأمة".
      3. عدم الاستقرار على تفسير لمصطلح "التحالفات"، وعلاقتها بمفهوم "الولاء والبراء"، ومدى صحتها ودرجاتها، بما يناسب مصلحة الأمة، ولا يصادم شرعاً محكماً.

      وهو ما يقودنا إلى النظر على أرض الواقع ومحاولة استشفاف ما عليه أطراف المعادلة القائمة اليوم، إن صحّ تعبير "المعادلة"، الذي يحمل معنى التكافؤ.

      ومع علمنا المسبق وإيماننا بأن الأمر كله بيد الله سبحانه، فإن غالب أوراق اللعبة السياسية اليوم على الأرض في يد الولايات المتحدة، شئنا أم أبينا. لكن ليست كل أوراق اللعبة بيدها، وفرق كبير جداً ما بين التصورين. وهو ما يجعلنا نحاول كشف الأوراق التي يمكن أن تكون بيد الأمة وممثليها من جماعات، والتي يمكن أن تستخدمها في هذا الصراع، وإنْ قلّت.

      فمن الأوراق التي بيد الولايات المتحدة، تحكّمها في مصادر التمويل بالشرق العربي والمسلم، ومنها سيطرتها الكاملة على الأجهزة السياسية والعسكرية في تلك البلاد عن طريق الحكومات العميلة التي ذكرنا. ومنها التفوق التكنولوجي الهائل الذي قد لا يعرف الكثير في الشرق عن مداه وبعد أثره، لضحالة ما يرى ويسمع، وإن عرفه من أقام في بلادهم ردحاً. وهو ما نرى أثره في الطائرات بدون طيار على سبيل المثال، ورصد التحركات لحظة بلحظة على الأرض بالأقمار الصناعية، وغير ذلك من وسائل تصنت وتجسس.

      أمّا الأوراق التي بيد ممثلي الأمة اليوم، فمنها أن الصراع دائر على أرض المسلمين، أو أرض التاريخ الإسلاميّ كما نحب أن نسميها. وحقيقة أن العدو يتحرك من أرضه إلى أرض المسلمين، يضع عليه عبئاً كبيراً مادياً ومعنوياً. ومنها الموروث الإسلامي العميق الذي لا يزال مكنوناً داخل النفسية المسلمة، ومتمثلاً في الشخصية المسلمة التي لا تزال تنفر من الصهيو-صليبية الظاهرة بطبيعتها، إلا ما قلّ، أو إن غيرت الصهيو-صليبية من ملامحها، وهو ما تلجأ اليه بواسطة الإعلام الموجّه الخبيث.

      والتوازن بين تلك الأوراق صعب إلى حدّ كبير. وهو في موقع الاختبار اليوم في الأراضي السورية والعراقية، والليبية واليمنية على الترتيب. أمّا ما عدا ذلك من أراض التاريخ الإسلامي كمصر والخليج وتونس والجزائر والمغرب، فالأمر محسوم لصالح الغرب الصهيو-صليبي والحكومات العميلة له بشكل شبه تام، إلى الآن، على الأقل.

      لكن كيف يعين هذا التصور على "المرونة" في صنع "الفتوى" وتبنيها؟

      (7)

      لا شك أنّ من مصلحة "الأمة" أن يكون لها دولة مركزية تحمى مواطنيها، على أرضها، وتدافع عن حقوقهم خارجها، وتصد عنهم الصائل، وترفع من مستوى معيشتهم، بتوجيه مصادرهم المالية لصالحهم، لا لصالح طبقة المستغلين منهم، سواءً حكاماً أو ملوكاً.

      والطرق التي تؤدى إلى تلك الدولة، تتغير بحسب فهم الناظر، كما بيّنا، وينعكس ذلك في تصورات ممثلي الأمة، سواء الممثلين الشرعيين لها (السنيين) أو غير الشرعيين (حرورية عوادية أو مرجئة إخوان)، وهو ما وضحنا في دراسة مُطوّلة من قبل عن "قيام دولة الإسلام .. بين الواقع والأوهام"[1].

      وننصح القارئ، من هنا فصاعداً، أن يكون ممن يتبنى تقييمنا لواقع الخريطة الإسلامية، من حيث انقسام ممثلي الأمة إلى ما قدّمنا، وإلى قيام الوسط السني، بأطيافه، بين طرفيّ الحرورية العوادية، والإرجائية الإخوانية، حتى يستفيد مما نقول، وإلا فلا فائدة من متابعته لهذه الدراسة ابتداء.

      ومفتاح ذلك التوازن في "المرونة"، هو حدّ الشرع فيها، لا ما يتصور الناظر إنه سيؤدى إلى قيام دولة مركزية، حتى يُستوفى شرط الافتقار للدليل أولاً، ومن جانب أنّ المصلحة مطابقة للدليل ابتداءً، على كلّ حال.

      ويجب أن يكون في اعتبار الناظر أنّ السياسة عامة هي عملية شدّ وإرخاء بين طرفين، نتيجتها تزحزح طرف تجاه الطرفٍ الآخر، حسب قوة جذب كل منهما. لكنّ الفرق أنه في السياسة الشرعية، هناك خطّ أحمر يجب أن يفلت فيه الطرف المسلم الحبل كليّة، إن تجاوزه موضع قدميه، وهو الشرع الحنيف، وما دّلت عليه الأدلة افتقاراً.

      والإخوان، وهم علامة الإرجاء في هذا العصر، من حيث رأوا أن الحكم بغير ما أنزل الله تشريعاً، وإخضاع المسلمين له، معصية، ليست بكفر، وبنوا جلّ سياساتهم ومواقفهم العملية من ذلك المنطلق، فرضوا بالمذهب الديموقراطيّ على أنه شورى، وأحلوا الدخول في المجالس النيابية التشريعية، مصلحة، رغم معارضة النص الشرعيّ. وهي أمثلة من أوضح ما يكون على أخذ الدليل مأخذ الاستظهار. ثم كان التعامل مع حكومات الطواغيت في الشرق، ومع النظم الغربية، بناءً على هذا التصور المختل أساساً، فأطلقوه من كلّ قيد، وسمحوا بأن يجذبهم طرف الحبل إلى أرض الحرام شرعاً.

      وكان من جرّاء تصوراتهم أن يذهبوا إلى القول بأن أوراق اللعبة في يد الغرب بكاملها، اللهم إلا ما كان من موقف شخصيّ، كما ظهر من د محمد مرسي، فكّ الله اسره، في تعامله مع الولايات المتحدة، ولم يتبناه أحدٌ من الإخوان في يومٍ من الأيام.

      فالمرونة في موقف الإخوان مثالٌ على تجاوز الحدّ الشرعيّ المرسوم، وهي ما لن يؤدى إلى قيام دولة الإسلام "الآن"، وحتى لو ظن عقل الناظر إن "عدم المرونة" تلك، سبب في ضياع مصلحة "التوسط الإسلامي". وأنه لابد من أن نواري ونصانع، ونمشي بين القوم بوجهين، كما يفعل جلّ قيادات الإخوان ومن قاربهم في فكرهم.

      المشاكل التي يواجهها هذا اللون من التوجه، وهو وجه "المرونة" الطليقة، إنها تستلزم بيع أجزاء من الدين الحنيف، وشراء صكوك ضمانات مزيفة من بنك الغرب الصهيو-صليبي.

      والفطرة، والخبرة والتجربة، وبديهيات العقل والمنطق، وقواعد الشرع العامة، تبيّن استحالة أن يقدم العدو يداً للتعاون، إلا وهو يحمل في الأخرى مشفراً مهيأ للذبح! هذا لا يكون في واقع البشر على هذه الأرض.

      واستخدام "السياسة" لخداع العدو، وأخذ مساعداته دون مقابل لا تكون إلا في حالات خاصة، منها على سبيل المثال ما وقع في أثناء حرب الأفغان مع الروس. وهو سيناريو وُجِدَ فيه طرفان متحاربان، كلاهما عدو للمسلمين، الروس والأمريكان، وقضت مصلحة الأمريكيين، كما قدّروها هم، بأن يُسلحوا المقاومة الأفغانية للتغلب على الوجود الروسي في بلادهم، لا لسواد أعينهم، بل للحدّ من الزحف الروسي في آسيا، وإعانة الثورات في الاتحاد السوفيتي أيامها، وحتى يفتحوا لأنفسهم الطريق أمام إحتلال أفغانستان بعد حين. ساعتها، يمكن تصور معونة بلا ثمن. أما غير ذلك، فالأصل هو أن أي معونة مدفوعة الثمن، معجّلا أو مؤجلاً.

      وهذا التقرير لا يختصّ بالغرب وحده، بل الأصل فيه هو في التعامل مع حكام العرب، إذ إن كانت حكومات الغرب خانت المسلمين مرة، فهؤلاء قد خانوهم مرتين، مرة حيث خانوا إسلامهم، وأخرى حيث اصطفوا فيها بجانب عدوهم.

      فالأصل هو أنّ أي تعامل مع حكومة عربية لابد وأن يكون من ورائه ثمنٌ مدفوع، لدفع مضرة عنها. فمنها، بل على رأسها دفع مضرة أن تقوم حكومة مسلمة سنية في أي بقعة أرضٍ، حيث ستكون الفاضحة لأنظمتهم العميلة العلمانية. مما يجعل نهاية تلك النظم قريبة المتناول. ولا نظن أنّ مسلما عاقلاً يؤمن بالله ورسوله، وقد بلغه التوحيد، وبلغ الرشد، لا يعرف نوعية أمراء الخليج وأفعالهم وتوجهاتهم، ومن خالف في هذا فلن تنفعه دراسة ابتداءً. ومن هنا فقد قذف الله في قلوبهم الرعب ممن هم أقل الناس ضرراً عليهم، ونعنى بهم "الإخوان"، فانظر ما فعلوا بهم! قد دفعوا للسيسي بلايين من الدولارات للقضاء على عصبة لا قوة لها أصلاً، وإلقاء عدد من أنصار السلمية في الزنازين، وإعدامهم بالجملة.

      من هنا فإن أيّ تعلقٍ بحكومة من تلك الحكومات، هو إنهاء لقضية إقامة دولة سنية مستقلة. مهما حاول من يتعاون معهم أن يصل إلى نتيجة غير هذه النتيجة. إلا أن يخدعهم، بأن يأخذ الدعم ثم يمضى لسبيله، وهو ما لا يمكن تصوره في الواقع الشاميّ بحال.

      فالمرونة هنا، لن تكون إلا بمحاولة بيع جزء من القضية إذن، ولا بأس بتزيينها بمعطياتٍ شرعية ومنطقية على وجه الاستظهار، وإنزالها للساحة في ثوبٍ علميّ مرتب، كما حاول ذلك صاحب معرف تويتر "شؤون استراتيجية"[2] الذي أصابته جرثومة التفريط والمرونة، من باب الاحباط.

      لو أنّ الله قدر، وما شاء فعل، أن تبقى حكومة د محمد مرسي في مصر، وقويت على صدّ طوفان السيسي اللعين، ثم عرضت مساعدة على حركات إسلامية سورية، ما ترددنا في اعتبارها، والنظرفي كونها مرونة مشروعة، بل يمكن فهمها ووضعها تحت حدّ الشرع. فموقف د مرسي لا يمكن أن يُقارَن بموقف ملوك وأمراء النفط، إلا عند من فقد عقله كليّة. فغاية محمد مرسى الخطأ في التأويل، لا الكفر. لكن أمراء الخليج!! أي تأويل فيما يفعلون؟ يعينون السيسي، ربّاه .. فليتق الله من يعقد مقارنة بينهم!

      إنّ الأمور قد تداخلت فأشكلت على الناظرين، فأدخلوا التعامل مع الكافر في دائرة التعامل مع المبتدع، ثم لمّا أدركوا ذلك، أخرجوا الكافر من دائرة الكفر، ليصح العمل، ثم ساووا بين أشكال التعامل، سواءً ما هو بثمنٍ، وما هو واقع بقدر من الله، كما بيّنا مثالا منه من قبل.

      والحق أنه ليس فقط جبهة زهران علوش هي من تساوم على مفهوم المرونة، بل يظهر – حسب مقال في الدرر الشامية[3] والعهدة على الناشر – أنّ أحرار الشام يعرضون فكرهم "المَرن" على الولايات المتحدة، وأنّهم يؤمنون، كما كتب لبيب النحاس رئيس العلاقات الخارجية لأحرار الشام، "أن سوريا تحتاج إلى مشروع وطني جامع لا يمكن أن تتحكم به أو تنجزه جهة أو جماعة واحدة، ولا يجب أن يرتبط الحل بأيديولوجيا واحدة". وهو بالضبط ما نقصد اليه بالانحراف في درجة المرونة ونوعيتها. ذلك أنه أولاً: الأمر ليس مجرد إيجاد حل، بل إيجاد "الحل" الذي يضمن على المدى الأطول على أقل تقدير، تحقيق طموحات السنّة وتصوراتهم في الحياة وفق شرعهم. وثانياً، فلا يمكن بحال أن يسمح مسلم سنيّ، غير منحرف، بأن يكون "حلاً" يتضمن دمج أيديولوجيات مختلفة معا، إسلام، وعلمانية ورافضية .. هذا ليس ما يسعى اليه الفكر السنيّ، لا عقدياً لا عملياً، من حيث إن نهاية طريقه معروفة، تكررت سينايوهاتها مرات من قبل، وهو السيطرة الغربية وانتشار العلمانية كالنار في الهشيم. فالمرونة والاعتدال لا يكونا في الخليط العقديّ المسموح به أن يكون أساساً لدولة، كما هو التوجه العلماني بالضبط، بل في الخليط العقديّ الذي يمكن أن يحيا تحت سطوة تلك الدولة التي أساسها الإسلام، والإسلام وحده.

      الصحيح الموافق للشرع إذن، هو:

      1. تحديد هوية من يتعامل معه المسلم الممثل عن الأمة.
      2. فإن كان مسلماً، سواء سنياً أو بتأويل مقبول، فلا حرج مع إبقاء البوصلة على السنية، وعدم التنازل عنها. فلو جاء مرسي يطالب بتقديم مساعدات مع ضرورة الرضا بالشكل الديموقراطي الغربيّ، ما قبلناها. وما حاولنا إصباغ الشرعية عليه لندعى مرونة، أو لنهتبل فرصة نحسبها تاريخية، ونحسب تأويلاتنا لها فهم راق واستيعاب للسنة!
      3. فإن لم يكن، لم تكن المرونة إلا سقوطاً في الهاوية، إلا إن كانت من قدر الله كما سبق البيان.

      وقد رأينا في الساحة الشامية من يتعامل مع الحكومات العربية، سواء في الأردن أو السعودية والإمارات، كزهران علوش، بشكلٍ مفتوح واضح، من باب إنهم أهل صلاحٍ وخيرٍ، وأن أهدافهم لا تتعدى إنهاء الغزو الرافضي لصالح إقامة دولة سنية حقة! وهذا نوع من السذاجة من ناحية، والتفريط المُفرط من ناحية أخرى. فقد يتفق هؤلاء مع السنة في ضرورة وقف الغزو الصفوي، لكن لقصد الحرص على عروشهم بحيث لو أمّنتهم دولة المجوس إيران، لقبلوا منها وصالحوها، لكنهم رأوها تتمدد حتى حدودهم الجنوبية، وتحيط بهم من كلّ صوب. فلم يعد إمكانية إلا أن يتعاملوا مع عدو مشترك، وهم بعض منتسبي السنة.

      وقد يقول قائل، فلمَ لا نعتبر هذا التعاون إذن من قبيل قدر الله، مصالح متقاطعة؟ كلانا يريد الإجهاز على الرافضة، فنتعاون، ثم ننفصل! قلنا، هذا نوع من الخيال العلميّ، وكأن هؤلاء الحكام لا مخابرات لديهم، ولا يعرفون توجهات من يتعاملون معهم حقيقة، بل هم من يختار من يتعامل معهم، بل ومع معرفتهم بمن يرضون التعامل معه، فهم يخذلونه في بعض أحيان، كما حدث الأسبوع الماضي مع زهران علوش في الأردن. ولا أشك في أن الخليج سيلقى بعلوش جانباً إن انحرف يوماً ورأي زيفهم وأفصح عنه علانية! ومن هنا تجد إنهم لا يمكن أن يستقبلوا أبا محمد الجولاني مثلاً، أو أبا مارية القحطاني في بلادهم، ولا بأي تأويل أو تنظير. فالمرونة، وتبنّى الوسطية الزائفة، التي تستبدل كفراً بإسلام، وإسلاما بكفر، في التعامل، ليست وسطية، بل هي خراج جهل وهوى. فالوسطية هي وسط بين باطلين، وليست وقوف في نقطة الوسط بين حق وباطل! وقد كرّرنا هذا المعنى مراتٍ عديدة من قبل.

       (8)

      خلاصة الأمر إذن هي إنّ:

      1. المرونة في الشريعة لا تكون إلا بمفهوم التيسير بين اختيارين، كلاهما مشروع.
      2. الدليل الشرعيّ يجب أن يُنظر له من باب الحاجة اليه، لا من باب الاستظهار وتقوية دليل الهوى به.
      3. فهم الأحداث التاريخية يجب أن يكون وفق ما تمهّد في قواعد الشريعة، لا وفق ما يناسب هوى الناظر فيه، يحمله على معانٍ ليستدل به على مراده، فالتاريخ مصدر من مصادر التشريع بدرجة ما، من حيث فعل الصحابة والقرون الثلاثة الفضلى.
      4. الناظر في هذا الأمر، سواء أمر الدليل أو الواقع يجب أن يكون ممن هم من أصحاب الأهلية في النظر، فالأمر ليس متعلقاً بفرد، بل هو أمر أمة تسقط، وأنفسٍ تزهق، فليتق الله ربه، وليعلم أين هو من مقام الإفتاء.
      5.  أوراق السياسة اليوم، لا يزال بعضها في يد ممثلي أمة الإسلام، فعليهم أن يتحركوا بها، دون أن يخترقوا حاجز الشرع بإعراض أو تأويل فاسد، فإن المصلحة لا يحددها عقل الناظر ثم يحمل عليها الدليل، بل يحددها الدليل أولاً، ثم يجد الناظر الوسيلة لتحقيقها.
      6. التعامل مع أنظمة ثبت معاندتها للشرع، ومحاربتها لأهله، وقتلها لأوليائه، وإعانة أعدائه عليه، هو أمر لا يمكن أن ينتج عنه خير أصلاً، والمغامرة به خديعة، يظهر إن المسلمين لن يستوعبوها مهما تكررت عليهم مراتٍ تلو مرات.
      7. التعاون، وملحقٌ به ما يسمى بتلقى "الدعم"، لا يأتي بلا ثمن، أو حتى بثمن بخسٍ، لكن قدر الله قد يوقع زمناً يكون فيه الاستفادة من شكلٍ من أشكال ذاك التعاون تحت حدّ الشرع. والحرص في تعيين هذا الزمن، وتحديد تلك الحالة هو  على أعلى درجات الأهمية، ولا يجب أن يُترك لقائد عسكريّ.
      8. إن وجود حلّ ومخرج للأزمة التاريخية التي فيها المسلمون اليوم، لا يجب أن يدفع ممثلوا الأمة أن يبيعوا جزءاً من تصورهم، أو يساوموا عليه، مهما بلغت التضحيات. ذلك هو الفرق الأدق بين التوجه السنيّ والتوجه "المعتدل"، بالتعريف الأمريكيّ. ووجود حلٍّ، أيّ حلٍّ ليس الهدف السنيّ، من حيث تُخلط الأوراق، ويُستلهم "الاعتدال" من وقائع في السنة لا تعنى ولا تدل على المُسْتَدَل عليه.

      والله ولي التوفيق

      د. طارق عبد الحليم

      26 رمضان 1436 – 12 يوليو 2015


      [1]  http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72693

      [2]  http://tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72885

      [3]  http://eldorar.com/node/81063 والنص الانجليزيّ We believe that Syria needs a national unifying project that cannot be controlled or delivered by a single party or group and should not be bound to a single ideology