فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      تطور علم أصول الفقه .. بين الشافعيّ والشاطبيّ – الجزء السابع

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      (25) مرّ ما يقرب من ثلاثة قرونٍ بين تدوين الغزاليّ ت 505 هـ لكتابه "المستصفى"، وبين تدوين الشاطبيّ ت 790 هـ لكتابه "الموافقات في أصول الشريعة". وسأكون صريحاً واضحاً في النتيجة التي سأصل اليها في نهاية هذا البحث، وهي إنّ كتاب الشاطبيّ لا ينتمى لعلم أصول الفقه التقليديّ، كما انتهت معالمه على يد الغزاليّ في "المستصفى".

      وسنتحدث هنا أولاً عن تطور هذا الفن في تلك القرون الثلاثة التالية لمستصفى الغزاليّ، بطريق مختصر، يقف عند نقاط التجديد. ثم نأتي على النظر في موافقات الشاطبيّ كعمل خُتم به جهد التجديد الأصولي، بعما قدّم الغزاليّ مستصفاه، قبل قرونٍ ثلاثة.

      فقد ظهر في تلك القرون أئمة كُثر، لهم علم واسع وفضلٌ وتدوين. إنما لم يكن التجديد، بمعنى الإضافة والتنقيح فيه، من مظاهره المشهودة، بل كانت شروح على المتون، وشروح على الشروح ثم مختصرات للشروح.

      ولابد هنا من الإنكار على ما دأب عليه غالب من جاء في تلك القرون من مقدمات كلامية لا غنى فيها[1]، كموضوع شكر المنعم ومخاطبة الكافر بالتكليف وغيرها، فهي موضوعات مَمْجوجة لا داعى لها، بل هي بعيدة كل البعد عن الحس السني الأصيل، كما إنها لا تزيد من علم المسلم بتكاليف أمراً ولا نهياً.

      (26) وهناك الكثير من الأعلام نذكر منهم من عرفه الناس واشتهر من أصحاب الفن، وكان له مشاركات معروفة مطبوعة، منهم:

      الإمام أبو الوفاء علي بن عقيل بن محمد بن عقيل بن عبد الله البغدادي، الحنبلي المتكلم ت 513[2]، وهو أصوليّ لغوي متكلم كان مؤولاً للنصوص رغم حنبليته، وله كتاب "الواضح في أصول الفقه"، ونظرة في مقدمته المطبوعة تنبئ بما هو عليه من كلام، وجرى فيه على مذهب شيخه القضي أبي يعلي.

      الإمام محمد بن أحمد أبو الوليد ابن رشد القاضي المالكي ت 530[3]، صاحب تهافت التهافت، ومنهاج الأدلة في الأصول، وله شرح على المستصفى. وأشهر أعماله بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الذي هو من الفقه المقارن ويشهد له ببراعة فائقة في الفقه.

      الإمام محمد بن عبد الله أبو بكر بن العربي القاضي المالكي الأشعري الأندلسي ت 543، صاحب التآليف الفخيمة، منها عارضة الأحوذي في شرح الترمذي[4]، والعواصم من القواصم وهو من أجود الكتب في بيان مكانة الصحابة والرد على بدع الرفض. وله مصنف جيد صغير عنوانه "المحصول في علم الأصول"[5]. لكنه عرف بكتابه "أحكام القرآن"، وهو مؤلف جليل في التفسير وفقه الأحكام.

      الإمام الخطيب جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي التميمي البكري الحنبلي ت 597[6] المعروف بابن الجوزي. ومن أشهر كتبه "الوفا في التعريف بحقوق المصطفى"، و"صيد الخاطر" في الوعظ والحكم، وله مؤلفات أكثر من أن يتسع لسردها المكان. وله في الأصول كتاب "منهاج الوصول إلى علم الأصول".

      الإمام محمد بن عمر بن الحسين القرشي فخر الدين الرازي ت 606 المعروف بابن الخطيب، وقد عرف عنه قوله "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلا ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات الرحمن على العرش استوى إليه يصعد الكلم ، وأقرأ في النفي ليس كمثله شيء، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي"[7]. وله تصانيف عديدة، منها كتابه "المحصول في أصول الفقه" طبعته مؤسسة الرسالة في ستة مجلدات، وسنهتم بما جاء فيه بعد.

      الإمام الحافظ موفق الدين محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي ت 620[8] صاحب فريدة الفقه "المغني" في الفقه المقارن. وكان عالما فقيها زاهدا متواضعا، من أوسع الناس صدرا وأكثرهم تحقيقاً، قال عنه ابن تيمية "ما دخل الشام أحد بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق". وللشيخ الموفق كتاب شهير في الأصول هو "روضة الناظر وجنة المناظر"، وهو اختصار وتهذيب لكتاب "المستصفى" للغزالي.

      الإمام علي بن أبي علي سيف الدين الآمديّ الشافعي فارس الأصوليين ت 631[9]، وهو صاحب كتاب "الإحكام في قواعد الأحكام"، من أفضل ما ألف في بابه، من حيث الترتيب والفائدة، وقج استله صاحبه من الكتب الأربعة التي عدّها الأصوليون أعمدة هذا العلم، ونعى بها "البرهان" للجويني، و"المعتمد "لأبي حسين البصري، و "العمد" للقاضي عبد الجبار، و"المستصفى" للغزاليّ. زكان على علو كعبه في المنطق والأصول متحيراً. نقل الذهبي عن بن تيمية قوله فيه "يغلب على الآمدي الحيرة والوقف ، حتى إنه أورد على نفسه سؤالا في تسلسل العلل ، وزعم أنه لا يعرف عنه جوابا ، وبنى إثبات الصانع على ذلك ، فلا يقرر في كتبه إثبات الصانع ، ولا حدوث العالم ، ولا وحدانية الله ، ولا النبوات ، ولا شيئا من الأصول الكبار"[10].

      الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن موسى ابن الصلاح الكردي الشافعي ت 643[11]، صاحب "علوم الحديث" المعروف بمقدمة ابن الصلاح، والتي شرحها الحافظ العراقي في شرح جليل عنوانه "التقييد والإيضاح" وكلاهما مطبوع. ومنهم من عدّ بعض آرائه في تخريج الأحاديث من الآراء الأصولية التي انفرد بها.

      الإمام العلامة الأصولي الفقيه النحوي أبو عمرو عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس الكردي المالكي ابن الحاجب ت 646[12]، وكان ثقة حجة متواضعاً عفيفاً. صاحب كتاب "نهاية السول والأمل في علمي الأصول والجدل"، ومختصره[13]. وقد ناقش فيه ما أورجه الأصوليون من قبله، وعارضهم في بعضه فيقول "ولنا" أو يقرر مذهبه بعد المناقشة، كما في مناقشته لتعريفات العام والخاص عند الغزالي وأبي الحسين البصري، حيث أبان إنهما ليسا بمانعين، ووضع تعريفه "الأوْلى".

      الإمام عبد العزيز بن عبد السلام السلميّ المعروف بالعز بن عبد السلام الشافعي ت 660[14]، صاحب كتاب "قواعد الأحكام في مصالح الآنام"، وسنفرد له فقرة فيما بعد. وقد تفقّه على بن عساكر والآمدي، وتتلمذ عليه ابن دقيق العيد والباجي. وكان فيه تصوف وكلام حتى اختلفت فيه الآراء، رغم إنه قد "أزال كثير من البدع التي كان الخطباء يفعلونها مثل دقّ السيف وغيره، وأبطل صلاة الرغائب وليلة النصف من شعبان ومنع منهما"[15] كما حكى عنه شهاب الدين أبو شامة. وذمّه بن تيمية وغيره من أهل السنة والجماعة، على ما عُرف عنه من مواقف في مواجهة السلاطين.

      الإمام عبد الله بن عمر بن علي البيضاوي الشافعي ت [16]685، المعروف بالتفسير الشهير "أنوار التنزيل"، وله "مختصر المحصول" للرازي المعروف "منهاج الوصول إلى علم الأصول" وهو كتاب صغير كثير الفائدة، وإن لم يقدم جديداً.

      (27) الإمام أحمد بن إدريس القرافي المالكي ت684 [17]، قال بن فرحون "الإمام العلامة وحيد دهره وفريد عصره، انتهت اليه رياسة الفقه المالكي". وله أطول الباع في الأصول، من مؤلفاته شرح المحصول للرازي، ومن أجلها "القواعد الفقهية" المستخرجة من الذخيرة، واعلاها شأناً فيما نرى، "الفروق" في القواعد الفقهية وضوابطها، وهو كتاب ليس له مثيل في بابه، دوّن فيه مائتين وسبعين وأربعة فرق. وقد كان مجدداً في هذا الباب إذ، إنه قد ارتفع بعلم الخلافيات الفقهي[18]، ، فيما نحسب، إلى رتبة أعلى لم يلحقه فيها أحد، كما فعل الشاطبيّ في كتابه الموافقات مع علم أصول الفقه. كما أنّ له كتاب "تنقيح الفصول في شرح محصول الرازي" وهو من أجل ما كتب في الأصول. كذلك فقد أبدع في كتابه "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الحكام وتصرفات القاضي والإمام"[19] وهو كذلك فريد في بابه، يجب على طلاب العلم اليوم الاعتناء به من حيث أهميته في المرحلة الحالية من حياة الأمة.

      الإمام مظفر الدين أحمد بن علي بن ثعلب المعروف بابن الساعاتي الحنفي ت 694 [20]، صاحب "البديع في أصول الفقه" جمع فيه بين طريقتي البزدوي والآمدي في التدوين.

      شيخ الإسلام، الإمام أحمد بن محمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني ت 728[21]، وهو غنيّ عن أن يُعرّف به. أثنى عليه ما لا يحصى من العلماء كالذهبي والبرزالي وبن دقيق العيد وابن عبد الهادي، وقال عنه الإمام الحافظ المزّي: ما رأيت مثله وما رأي هو مثل نفسه"، وأجمعوا على بلوغه الاجتهاد المطلق. وله عشرات التصانيف الجليلة في كلّ العلوم، قبل إنها تبلغ الخمسمائة مجلد، وعلى رأسها مجموع الفتاوى، وفيها جزء مخصوص بأصول الفقه، وله اختيارات كثيرة سجن بسببها، كما توسّع في مسودة أصول الفقه لجده عبد الحليم بن تيمية، كذلك كتابه الردّ على المنطقيين، وهو ما سنرجع اليه في حديثنا بعد.

      الإمام شمس الدين محمد ابن أبي بكر الزرعي ابن قيم الجوزية ت [22]751، وهو الإمام الحافظ المحقق الفقيه الأصولي المجتهد، قال عنه ابن رجب "كان رحمه الله ذا عبادة وتهجد وطول صلاة إلى الغاية القصوى، وتأله ولهج بالذكر وشغف بالمحبة والإنابة والافتقار إلى الله تهالى الانكسار له، والاطراح بين يديه، على عتبة عبوديته، لم أشاهد مثله في ذلك، ولا رأيت أوسع علماً ولا أعرف بمعاني القرآن والحديث والسنة وحقائق الإيمان منه، ليس بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله"[23]. وهو صاحب المؤلفات الغنية العديدة، منها كتاب الصلاة، مدارج السالكين، طريق الهجرتين، وفريد بابه "زاد المعاد" في السيرة النبوية، ومنها إعلام الموقعين، وهو كتاب فريد في بابه يتناول الأصول بطريقة مناقشة الفروع، واعتم فيه جدا بسد الذرائع وبالمصالح والاستصحاب، ورد على منكري القياس بتوسع.

      الإمام عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي تاج الدين السبكي ت 771[24] وله طبقات الشافعية وشرح منهاج البيضاوي و"جمع الجوامع" في أصول الفقه وهو كتاب غزير المنفعة صعب العبارة ملئ بالكلاسم، شرحه الكثير من بعده، وذكر فيه سطورا عن المناسبة في علة القياس، ولم ترد فيه كلمة المصلحة إلا مرة واحدة.

      الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الغرناطي الشاطبي المالكي ت 790، وسنفرد له ترجمة خاصة فيما يأتي إن شاء الله.

      الإمام ممد بن بهادر التركي المصري الزركشي الشافعي ت 794[25] ، وله "البحر المحيط" في أصول الفقه، وهو كتاب مفيد عني فيه بالدليل أكثر من غيره، وربط فيه بين ضرورة معرفة الفقه لمعرفة أصول الفقه، وهو ما يبيّن اعتناءه بالفروع. وله شرح جمع الجوامع للسبكي.

      الحافظ زين الدين عبد الرحمن بن أحمد ابن رجب الحنبلي ت 795 ، جامع العلوم والحكم، وفضل السلف على الخلف، والقواعد، وأجاد فيها كلها بما ليس له نظير.

      وسنتوقف، فيما يأتي إن شاء الله عند قواعد الأحكام في مصالح الآنام لابن عبد السلام، وعند المحصول للرازي قبل أن نشرع في الحديث عن الغزالي والموافقات للشاطبي، من حيث إنها علامات على طريق تطور العلم، إلا الفروق من حيث هو كتاب في القواعد والأصول معا.

      والحكم على الكتب يحتاج لميزان قسطٍ دقيق يتعاون فيه طول النظر وسعته وعمقه، وهو ما تيسر لنا بحمد الله تعالى مع كتاب الموافقات.

      ونسأل الله إنارة البصيرة، فالعقول قاصرة إلا من أمدّ الله بمدد من عنده.

      يتبع إن شاء الله تعالى  (الأصول بين الغزاليّ والشاطبيّ)

      د طارق عبد الحليم

      13 فبراير يناير 2015 – 25 ربيع ثان 1436


      [1]  ارجع لكتابنا "المعتزلة بين القديم والحديث" ص 15 وبعدها لمعرفة في دوّنا علم الكلام، وخروجه عن نهج الاستدلال السنيّ. http://tariqabdelhaleem.net/new/upload/attach/12885454546AlMutazalah_arabic.pdf

      [2]  سير أعلام النبلاء ج 19، طبقات الحنابلة لأبي يعلي ص 510 مكتبة المشكاة

      [3]  سير أعلام النبلاء ج 21، وطبقات الأصوليين ج2 ص 38، طبقات المالكية لابن فرحون ج1 ص 221

      [4]  طبعته دار الكتب العلمية في 13 مجلدا

      [5]  سير أعلام النبلاء ج 20، البحر المحيط للزركشي ج1 ص 8

      [6]  سير أعلام النبلاء ج 21، قال عنه الذهبي "يكتب في اليوم أربع كراريس ، وله في كل علم مشاركة، لكنه كان في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفاظ، وفي التاريخ من المتوسعين، ولديه فقه كاف ، وأما السجع الوعظي ، فله فيه ملكة قوية".

      [7]  سير أعلام النبلاء ج 21 ولم يوليه اهتماما كبيراً، طبقات الأصوليين ج2 ص 47. ووفيات الأعيان ج4 ص 248

      [8]  سير أعلام النبلاء ج 22.

      [9]  سير أعلام النبلاء ج 22، وفبات الأعيان ج3 ص 293

      [10]  السابق ص 366

      [11]  سير أعلام النبلاء ج 23

      [12]  سير أعلام النبلاء ج 23

      [13]  طبع المختصر محققا للدكتور نذير حَمَادو – طبعة الجامعة الجزائرية

      [14]  طبقات الشافعية للسبكي ج 8 ص 209، والظاهر أنّ الذهبي لم يترجم له في سير الأعلام.

      [15]  السابق ج 8 ص 210

      [16]  طبقات الشافعية ج 8 ص 157، طبقات الأصوليين ج2 ص 88

      [17]  طبقات الأصوليين ج 2 ص 86، طبقات المالكية لابن فرحون ج1 ص 236

      [18]  الذي دَوّن فيه الدبوسي أول ما دُوِّن كتابه تأسيس النظر

      [19]  وقد أخرجه وحققه عبد الفتاح أبو غدة، وقد قدّم لطبعته الثانية (حلب) وهو مقيم في كندا في أوائل التسعينيات، قبل وفاته بالرياض. وهو تلميذ محمد زاهد الكوثري الحنفي الصوفيّ، بل سمى ابنه الأكبر على اسمه! وكان آية في التقليد ومعاداة أهل السنة والتعصب للمذهب، بل تفوق في هذا على الكرخيّ! وقد كتبت رداً على أبي غدة في رده على الشيخ الألباني.

      [20]  طبقات الأصوليين ج2 ص94

      [21]  شدرات الذهب ج 8 ص 150، البداية والنهاية ج 16 ص 210 في أخبار وفاته

      [22]  شدرات الذهب لابن العماد ج 8 ص 287، البداية والنهاية ج 16 ص 353 طبعة دار بن كثير

      [23]  شذرات الذهب ج 8 ص 288

      [24]  شذرات الذهب ج 8 ص 378

      [25]  شذرات الذهب ج 8 ص 572، طبقات الأصوليين ج 2 ص 211