فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      تطور علم أصول الفقه .. بين الشافعيّ والشاطبيّ – الجزء السادس

      الحمد لله الذي لا يحمد سواه، المحمود على كل حال، وبكل لسان ومقال، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد

      (19) تقويم الأدلة في أصول الفقه: للإمام أبي زيد الدبوسي الحنفي ت 430: وأول ما يفاجأنا، في مطالعة كتاب الدبوسيّ "الحنفي" هو ابتداؤه بمقدمات كلامية عن الحد وأنواع الحجج، وغير ذلك مما اتفقت فيه كتب الأصول على كلّ مذهب منذ القرن الرابع الهجري، في شكل مناقشة منطقية لمعنى الحجة والدليل والبرهان وحدودهم. ثم تبع ذلك بالحديث عن ثبوت الحجة في الكتاب والتواتر والاجماع والقياس[1] بأدلة عقلية وبأدلة سمعية، ناقشها بأصوله. قد ذهب بعض الباحثين إلى أن الدبوسي قد أكثر من الاستشهاد بالفروع فى رأس كل مسألة يناقشها، وهو ما لا نراه البتة، والكتاب تحت أيدينا يشهد بذلك. لنضرب مثلا بما جاء في باب "القول في أسماء الألفاظ في حق تناولها المسميات، وحكمها فيما تتناوله"، وهي ما ناقش فيها حجية العام والخاص والمؤول والمشترك، فاقرأ له الصفحتين الأولتين ص 94 و95[2] من هذا الباب، لا تجده يذكر استدلالاً إلا بآية البقرة في القرء، وبطلان الوصية وقول الرجل لإمرأته: إن نكحتك فأنت طالق، ذلك في حديثه عن الحقيقة اللغوية في الأسماء. وقس على ذلك تناوله لبقية ما كتب، وأكثره تقريراً للقواعد، ثم استدلالاً عليها بدليل، ثم إن ذكره لفروع أخرى أتى من باب "فإن قيل" أو في معرض مناقشة أدلة غير أصحابه كما فعل مع أقوال الإمام الشافعيّ قبولا أو ردّا.

      ثانيا: تدوين أئمة الشافعية:

      (20) "الدلائل والأعلام" لأبي بكر الصيرفيّ الشافعيّ المتوفي 330هـ: وللإمام الصيرفي كتب أخرى في الأصول منها شرح الرسالة وكتاب الإجماع، وإن لم يصلنا منها شيئا مع الأسف، وهذا مما يعزُ على طالب العلم. إلا أن المُطّلع على كتب الأصول بعده يجد الكثير منها يحمل رأيه في المسائل ويشير إليها في كثير من المواضع، حتى في بعض كتب الحديث مثل مقدمة ابن الصلاح، والتقييد والايضاح للحافظ العراقي. وكا أشرت مسبقا، قد وجدت رسالة مفيدة تجمعُ أراءه  الأصولية للباحث ابراهيم عقون، إلا إنها لا تكشف ما قصنا الي الكشف عنه في هذا البحث، من حيث تورد آراءه الأصولية مجردة، وتقرنها بما قال غيره فيها، دون كثير دلائل واستشهادات إلا القليل مما قد يعزى لمن نقل النص عنه، لكن فيه ما يدل على استدلاله بالفروع كذلك، كما في باب "النواهي" قال الرزكشي في البحر المحيط: ترد صيغة النهي لمعان مختلفة منها الكراهة، وقد يدل عليه السياق كقول تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) قال الصيرفي (لأنّ فيه حثهم على إنفاق أطيب الأموال)"[3].

      (21) القفال الكبير الشاشي، فإن شرحه للرسالة مفقود، ككثير من شروحها.

      (22) البرهان للإمام عبد الملك بن عبد الله أبي المعالي الجويني الشافعيّ، إمام الحرمين:

      وكتاب البرهان من عمدة الكتب في هذا الفن بلا خلاف في ذلك، وقد أخذ عنه كل من جاء بعده، سواءً صرح بذلك أم لم يصرح. وكان الإمام الجويني أشعرياً إلا إنه ترك الأشعرية والكلام وتسنن في آخر حياته، غفر الله له. ولعل كتابه البرهان هو ما لا يمكن أن يعتذر عنه أحدٌ في قلة استدلاله بالكتاب والسنة، فهو على طرف النقيض في التدوين مع رسالة الشافعيّ، وإنما نرجع ذلك إلى عدة عوامل، منها تأثر الجوينيّ الشديد بعلم الكلام ونقله لمذهب "أبي الحسن" الأشعري في الكثير من مسائله، وبإنه قد ناقش الكثير من آراء المعتزلة خاصة الكعبيّ، فأنت ترى صفحات تلوها صفحات لا يأتي فيها بآية أو حديث. كذلك فإنما نظن أنّ أحد الأسباب الرئيسة هو أن الآراء والتوجهات في كافة مسائل هذا العلم كانت قد اكتملت، وتم تدوين كافة الآراء، فجاء كتابه هذا كمحصلة لتلك الأصول والمقارنة بين مختلف أوجهها، لا لتأسيسها أو الاستدلال عليها أو إظهار التفريعات المتعلقة بها، وهو ما يكون في طور التطور عادة. فكأن الجوينيّ رأي أنّ العلم قد اكتمل، وأن دوره يكمن في "البرهان" على أصح القواعد الأصولية لا التدليل عليها من كتاب أو سنة، فإنه، كما نحسب، قد وثق فيما قام به سابقوه من تأسيس واستدلال عليها، فلم يذكر أدلة أو فروعا لهذا السبب. وقد يدون البعض تلك المرحلة من النضج بما كتب القاضي الباقلاني[4] ت 403 في الأصول إذ يعد كتبه نهاية مرحلة التطور بعد الشافعيّ، إلا إننا لا نرى ذلك إلا إن كان جهد الجويني في بحثه في البرهان ليس فيه أية إضافة لجهد الباقلانيّ فيه.

      (23) "المستصفي" للإمام أبي حامد الغزالي الشافعي ت 505: وهذا الكتاب يعتبر تطوراً في حدّ ذاته، يقفز بعلم الأصول خطوات من وراء ما حصّل الباقلاني والجويني، وذلك لأسباب سنوردها إن شاء الله. ومما يلحظ أن وفاته جاءت بعد قرن كامل من وفاة الباقلاني، وبينهما الجوينيّ، فهذا قد حدث فيه ولا شك، نظر متجدد في الأصول، ونحسبه كان على يد المالكية.

      والغريب الذي نلاحظه أن المالكية، في تدوين أصولهم، لم يذكروا المصلحة المرسلة، رغم إنها عمود من أعمدة مذهب مالك، وعليك بمراجعة واحد من أهم كتب القرن الخامس الهجري ونقصد "إحكام الأصول في أحكام الأصول" لأبي الوليد الباجي الأندلسيّ[5] ت 474، ومختصره "الإشارة في أصول الفقه"، فلا تجد فيه حديث عن المصلحة المرسلة! بل تجده توسع كثيراً في مناقشة القياس والعلل وأشكالها وطرق استنباطها ونقضها. وما نحسب ذلك إلا لما كان من معاصره ابن حزم الظاهريّ، الذي أنكر القياس ابتداءً،  من أثر عليه. لكن، نجد الشافعية هم من ذكروا "الاستصلاح" أو "المصلحة" كالغزالي ومن بعده العز بن عبد السلام، حتى جاء الشاطبيّ المالكيّ فوضعها في موضعها وبّين أهميتها في الأصول المالكية.

      ثم نعود إلى المستصفي، فنجده، ككثيرٌ غيره ممن سبقه، يجعل علم أصول الفقه من أشرف العلوم إذ يجمع بين العقل والسمع " وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل"[6]. وسننظر في هذا الموضع من ابحث إلى الكتاب من زاوية معينة وهي طريقة التدوين، وهي الزاوية التي تعنينا في هذا الجزء من البحث. لكن لنا اليه عودة في المطلب الثاني إن شاء الله تعالى.

      والغزاليّ في كتابه، متكَلّمٌ للنخاع، ينصر علم الكلام للنهاية، واسمعه يقول، وإن طال الاقتباس "فإذا، الكلام هو المتكفل بإثبات مبادىء العلوم الدينية كلها فهي جزئية بالإضافة إلى الكلام فالكلام هو العلم الأعلى في الرتبة إذ منه النزول إلى هذه الجزئيات فإن قيل فليكن من شرط الأصولي والفقيه والمفسر والمحدث أن يكون قد حصل علم الكلام لأنه قبل الفراغ من الكلي الأعلى كيف يمكنه النزول إلى الجزئي الأسفل قلنا ليس ذلك شرطا في كونه أصوليا وفقيها ومفسرا ومحدثا وإن كان ذلك شرطا في كونه عالما مطلقا مليئا بالعلوم الدينية وذلك أنه ما من علم من العلوم الجزئية إلا وله مباد تؤخذ مسلمة بالتقليد في ذلك العلم ويطلب برهان ثبوتها في علم آخر فالفقيه ينظر في نسبة فعل المكلف إلى خطاب الشرع في أمره ونهيه وليس عليه إقامة البرهان على إثبات الأفعال الاختياريات للمكلفين فقد أنكرت الجبرية فعل الإنسان وأنكرت طائفة وجود الأعراض والفعل عرض ولا على الفقيه إقامة البرهان على ثبوت خطاب الشرع وأن لله تعالى كلاما قائما بنفسه هو أمر ونهي ولكن يأخذ ثبوت الخطاب من الله تعالى وثبوت الفعل من المكلف على سبيل التقليد وينظر في نسبة الفعل إلى الخطاب فيكون قد قام بمنتهى علمه وكذلك الأصولي يأخذ بالتقليد من المتكلم أن قول الرسول حجة ودليل واجب الصدق ثم ينظر في وجوده دلالته وشروط صحته فكل عالم بعلم من العلوم الجزئية فإنه مقلد لا محالة في مبادىء علمه إلى أن يترقى إلى العلم الأعلى فيكون قد جاوز علمه إلى علم آخر"[7]. فهو، رحمه الله، يعتبر أنّ علم الكلام هو الأصل، وسائر العلوم الشرعية من جزئياته!

      وقد قسّم الغزالي كتابه تقسيم حسنّ جميل، يتفهه العقل ويتقبله، فقد شبه العلم بالشجرة المثمرة التي لها مستثمر وثمرة، قال "مثمر ومستثمر وطريق في الاستثمار:
      والثمرة هي الأحكام أعني الوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة والحسن والقبح والقضاء والأداء والصحة والفساد وغيرها
      والمثمر هي الأدلة وهي ثلاثة الكتاب والسنة والإجماع فقط
      وطرق الاستثمار هي وجوه دلالة الأدلة وهي أربعة إذ الأقوال إما أن تدل على الشيء بصيغتها ومنظومها أو بفحواها ومفهومها وباقتضائها وضرورتها أو بمعقولها ومعناها المستنبط منها
      والمستثمر هو المجتهد ولا بد من معرفة صفاته وشروطه وأحكامه"[8].

      والأهم، إنه قد قدّم بمقدمة سماها "منطقية"، وبيّن إنه لا مشكلة فيالاستغناء عن قراءتها، لمنه رأي إنها مما يجب على العقل أن يستوعب ما فيها. ونحن مؤيدوه في هذه النقطة، وإن كان قد تطرق فيها إلى بعض ما تطرق اليه كل أصحاب الكلام من تعريف للحد والرهان وما إلى ذلك، مما يخرج عن فن الأصول في ذاته. لكنه تطرق في المقدمة إلى الاستقراء في الفصل الثاني من دعامة البرهان، قال "أما الاستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات"[9]، ولم يذكره في أي موضع بالكتاب بعد ذلك، إلا ما كان من تعرضه لمسألة الكليّ والجزئي في معرض حديثه عن القطع والظن في الأدلة[10]. والاستقراء، كما سنرى في المطلب الثاني من هذا البحث أمرٌ كان من المتوقع أن يستغرق أكثر من ذلك في كتاب المستصفى، لكن لكلّ أمر ميقات، وميقات هذا كان في القرن الثامن مع الإمام الشاطبيّ لا الغزاليّ، كما سنرى بعد.

      ثم إذا تصفحنا الكتاب، ونظرنا في طريقة تناوله لعرض الموضوع، مما هو أصل النظر في مطلبنا هذا، وجدنا أنه قد بدأ بمضوعات كلامية مثل الحسن والقبح. وقد كان على خطى الجوينيّ في عرض الأصول ومناقشة ما يعارض مذهبه فيها، دون الرجوع إلى ذكر أمثلة أو أدلة من الكتاب والسنة. ونحن نرجع هذا إلى ما ذكرنا مسبقاً، من إنّ كتب الأصول التي دّونت على كافة المذاهب الفقهية، قد استغرقت الأدلة علي تلك القواعد، فكأنها قد أقامت الدعائم لصحة تلك القواعد الأصولية، ولم يعد هناك كبير حاجة إلى إعادتها، لتواترها عند أصحاب هذا الفن.

      خلاصة المطلب الأول من البحث

      (24) إذا عدنا إلى سؤالنا الذي طرحناه من قبل، عن "المدارس الأصولية"، وهو السؤال الأول المطروح في هذا البحث: هل أنصف المتأخرون في وصفهم لتدوين علم أصول الفقه إنه انقسم إلى مدرستين، مدرسة الشافعية والمتكلمين، ومدرسة الحنفية؟ وجدنا الجواب فيما قدمنا واضح بيّن. فإنه ليست هناك مدرستين مختلفتين، إذ لو كانتا لظهر اختلافهما في موضوعات الأصول وقواعده وأبوابه، لا في شكل تدوينه واستدلاله، فالأخير هذا أمرٌ صوري شكليّ لا أكثر ولا أقل، فلا يصح أن يوصف بأنه مدرسة بذاته، بل الأصح والأوجه أن يقال إنه طريقة أو توجه. ولعل الإمام أبو زهرة قد لحظ هذا المعنى إذ أسماها "اتجاهات" لا مدارس في كتابه عن مالك.

      وقد وضعنا سبباً معقولاً لما ظهر من تطورٍ بين تدوين الشافعي للرسالة وتدوين الجويني والغزاليّ، من حيث الانتهاء من تعقيد القواعد وتأصيل الأصول، وعدم الحاجة، فيما رأوا، إلى إعادة تكرار الأدلة، بل اكتفوا بالحديث في درجة أعلى في درجات الأدلة إلى القواعد ذاتها لا إلى جزئياتها. ولا يمكن أن نتصور أنّ هؤلاء العلماء قد دوّنوا ما دوّنوا دون تمحيص لما يقولون أو نظرٍ دقيق فيما يكتبون، فإن هذا يكون تنقيص معيب لهم لا داعي له في المقام.

      والعودة إلى ما كان عليه التدوين على طريقة الشافعي، أحب الينا من حيث إنه يربط القلب والعقل بالكتاب والسنة، ويجعل مرجعهما الآية والحديث، لكننا لا نرى مفراً من تغطية كلّ تلك الأبواب التي نشأت بعد عصر الشافعي، وأن يكون لها ترتيب يتعارف عليه أهل الصنعة والفن. كما لا نرى مانعاً من استخدام بعض المصطلحات المستحدثة بعد الشافعيّ، كالكليّ والجزئي، فإنه، أولاً، لا مشاحة في الاصطلاح، والاعتراض على ذلك ظاهرية في النظر لا داعي لها. وثانياً، فإن "المصطلح" في حدّ ذاته هو عامٌ يشمل كلّ أفراده، أيّا كانت تلك الأفراد، فإنكار استخدامه، أو استخدام ما جدّ منه، إعراض عن حقيقة عامة موجودة في الخارج، يحتاجها النظر ويستشرف لها العقل، ذات العقل الذي ساءله خالقه فقال "أفلا تعقلون".

      ونسأل الله إنارة البصيرة، فالعقول قاصرة إلا من أمدّ الله بمدد من عنده.

      يتبع إن شاء الله تعالى  (المطلب الثاني، في تطور الأصول بين الغزاليّ والشاطبيّ)

      د طارق عبد الحليم

      10 فبراير يناير 2015 – 21 ربيع ثان 1436

      [1]  مما يسترعي النظر تخريج القاضي أبي زيد في اعتباره الحديث إن صح مفيداً للعلم القطعي، وأن إفادته للعمل هي من عند أنفسنا من ناحية الرواية. راجع تقويم الأدلة ص 25.

      [2]  تقويم الأدلة، طبعة دار الكتب العلمية، تقديم وتحقيق الشيخ خليل الميس

      [3]  عن "الآراء الأصولية للإمام أبي بكر الصيرفي" ابراهيم عقون ص 86.

      [4]  قال الذهبي "الإمام العلامة، أوحد المتكلمين، مقدم الأصوليين، القاضي أبو بكر، محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن قاسم، البصري، ثم البغدادي، ابن الباقلاني ، صاحب التصانيف، وكان يضرب المثل بفهمه وذكائه"، كما قال عنه القضي عياض المالكي "هو الملقب بسيف السنة، ولسان الأمة، المتكلم على لسان أهل الحديث" سير الأعلام ج17، وقد عرف عنه الرجوع عن مذهب الكلام في نهاية عمره كذلك.

      [5]  هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث الباجي، القرطبي القاضي المالكي. برع في القرآن والحديث وعلومِهما، والفقه والأصول، والعربية وقواعدها، والعقليات وتوابعها، وكان شاعراً، ومعاصراً لابن عبد البر وابن حزم والخطيب البغدادي. راجع تفاصيل ترجمته في مقدمة كتاب الإشارة لمحمد على فركوس.

      [6]  المستصفي ج1 ص 4

      [7]  المستصفى ج ص 6

      [8]  المستصفي ج1 ص 7

      [9]  المستصفي ج1 ص 39

      [10]  المستصفى ج1 ص 176