فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      قيام دولة الإسلام .. بين الواقع والأوهام – دراسة سياسية تحليلية 7

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      الأطروحات

      إنشاء الدولة في النظر الإخواني

      فلنقرر أولاً وقبل كل شئ أنّ التوجه الإخوانيّ السلمي الديموقراطي، لن يُنشأ دولة إسلامية، مهما توهّم أتباعه، ودع عنك التوجه السروريّ، فلهؤلاء نظرة لدينهم لا تطابق لها مع معنى التوحيد أصلاً. الأطروحة الإخوانية فاشلة بكلّ معايير العقل والشرع والواقع. فالشرع يعاكس المبدأ الديموقراطيّ على طول الخط. إذ الديموقراطية هي تقنين ما تراه الغالبية الشعبية صالحاً، وتجريم ما تراه فاسداً. وهذا النظر لا محل له في دين الإسلام البتة. إذ الصالح هو ما أحله الله وأوجبه، والفاسد هو ما حرمه الله في شرعه، دون استثناء. ثم إن العقل يشهد أنّ الغالبية الشعبية عادة هي من العوام الجهلة، فبأي منطق عقليّ يوكل لها تحديد الصالح والفاسد. فإن قيل: بل يوكل إلى ممثليها، قلنا: هي عين المسألة، كيف تحدد ممثليها ممن يوثق فيهم ابتداءً، بغير معايير الدين والخلق؟ ثم إن العادة والواقع قد استقر على عدم جدوى هذا التوجه، لمضادته لمصالح الدول الكبرى، وأذنابهم من رؤساء وملوك وأمراء العرب. ويكفي تجربة الجزائر والسودان ومصر وليبيا وتونس واليمن والكويت في إثبات أن حكومة إسلامية لن تأتي بالحل الديموقراطيّ، كما لن يتمكن مصاب بسرطان الرئة من معالجة دائه بالإكثار من التدخين!

      إذن يجب أن يحذف هذا الخيار من برنامج المخلصين المصلحين الأتقياء، ويُترك للعابثين المُخلطين العملاء.

      أطروحات إنشاء الدولة في النظر السنيّ

      بعد هذا البيان في مفهوم الدولة، وبعض ما يحيط به من متعلقات تختص بالوضع الحاليّ، فسنعاود النظر في الإشكاليات المعروضة، ونعقب عليها، ثم نحاول أن نتصور طريقاً لإقامة الدولة المَنشودة.

      حتى نلتزم الوضح في حديثنا، فإننا نرى أن لا طريق إقامة دولة إسلامية، تحكم بالشريعة، في هذا الواقع الذي تحدثنا عنه، إلا عن الطريق الجهادي، الذي يستهدف إزالة حكم، وإحلال حكم بديل. هي عملية هدم وبناء كامل. هدم لنظام قائم، من جذوره، بكل مؤسساته، وتصوراته، وبناء نظامٍ بديلٍ يقوم على التصو الإسلاميّ، ومن ثم تقوم عليه كلّ مؤسساته.

      هذا هو الهدف المنشود. لكن الطريق اليه، لا يتم، ولن يتم، فيما نرى، في قفزة واحدة، مما نحن فه اليوم، إلى هذا الواقع الذي نحلمبه. ومن يتصور هذا، ويعمل عليه، هو إما واهم أو مغفل، أو كلاهما، كما هو الال فيما تفعل اليوم جماعة الحرورية البغدادية. وسنتوسع في هذا الصدد فيما يأتي.

      ناقشنا فيما سبق من مقالات، موضوع التمكين ومكوناته. وقررنا أنّ

      الوضع اليوم يختلف كلية عن المناظ الذي تحدثت عنه كتب السياسة الشرعية، ونظّر له علماء السنة القماء. إذ نحن ننطلق من أرض عاش عليها الإسلام أكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان، كحاكم متمَكن، وإن تغيرت أشكال الدول وأسمائها. ولا يزال تعيش على أرضها بقايا "أمة"، آمنت يوما به الدين، ومكنته، ورَضت به، وأقامت حياتها على أساسه تصوّراً وتطبيقاً.

      مفهوم التمكين هنا يأتي بمعنى خاص، وهو "استعادة" السيطرة على أزمة الأمور، بطريق القوة، في "دولة" قائمة بالفعل، أو في جزء متحيزٍ من أرضها، يمكن "لأهلها" حمايته والدفاع عنه.

      ونقول "استعادة السيطرة" إذ إن هذه الأرض هي أرض مسلمة ابتداءً، وهو معنى لا يجب أن يغيب عن أذهان "الأمة" أو أولئك المقاتلين للحصول على هذه السيطرة.

      ونقول "بطريق القوة"، إذ لا طريق إلا القوة المسلحة إزالة حكم الطغاة الطواغيت وإزاحتهم عن هروشهم، بهدم قوتهم العسكرية والأمنية، التي يتقوون بها.

      ونقول في "دولة قائمة بالفعل، أو جزء مُتحيّز منها"، إذ هي عملية استعادة لا إنشاء من عدم، بل هي تحرير لأرض مغتصبة. والتحيّز هنا ضرورة واقعية على الأرض، إذ إن انتشار المقاتلين على مسافات متباعدة، لا يعنى تمكيناً حقيقياً، ولا يتوافق مع مفهوم الدولة، لا شرعاً ولا وضعاً.

      ونقول "يمكن "لأهلها" حمايته والدفاع عنه" إذ إن الأصل هو أنّ أهل المحلة قابلون للمجاهدين، مرحّبون بهم، بلا ضغط أو تهديد. وذلك من حيث أن عملية التحرير والسيطرة ليست كما حدث في الفتوحات الأولى، للأسباب التي قدّمنا. فإن لم يكن أهل المحلة قابلين، لم يكن هناك تمكين، بل هو شكلٌ آخر من أشكال الاحتلال، يؤدى إلى تخالفٍ وتقاتل.

      "الأمة" و "الحاضنات الشعبية"

      ولا نرى ذلك يتم إلا من خلال "الحاضنة الشعبية المُسلمة"، أو ذلك الجزء من "الأمة السّنية" التي تعيش على تلك الأرض.

      ولابد هنا أن نبيّن مفهوم "الأمة" عند أصحاب الفكر الحروريّ. فهؤلاء يرون أنّ الأمة هي كلّ من ناصرهم ووافقهم فكراً وعملاً، وأنّ قلبها هو المقاتلين من حاملي السلاح. وهونفس المنطق العسكري الذي تتعامل به الديكتاتوريات على مر التاريخ، كما كان هتلر وموسوليني وستالين. القوة العسكرية هي الأمة، لا غيرها. ومن وافقهم وخضع لهم خضوع الذليل الموافق، فهو "مقبول" لديهم، مجرد مقبول. ومن خالفهم فكراً أو عملاً، فهو مرتد يستحق القتل على الفور دون رحمة. ولا يغرنك أقوالهم، فهم يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما ينكرون. أصحاب هذا الفكر لا يعترفون بأمة سبقت وجودهم، أو خرجت على مراسيمهم. ومن ثمّ، هاجموا الحاضنة الشعبية، وهو حق أريد به باطل. فكما بيّنا من قبل، أنه إن أريد بالحاضنة الشعبية ذلك الخليط من الكفار والمرتدين العلمانيين والمسلمين، كما تراها الإخوان، فهي حاضنة غير مبروكة، لن تنتج إلا خداجاً، وهو ما رفضناه ردناه سابقاً. وإن أريد بها المسلمون ممن لا يوال يحب الله ورسوله، مطيعهم وعاصيهم، فهي التي تقوم عليها "الأمة"، كما كان "أهل المدينة" من الأنصار هم "الحاضنة الشعبية" لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

      فمفهوم "الأمة" مغلق محدود بالموافق في الفكر الحروريّ. وهو منفتح متنوع، محكوم بالكتاب والسنة وفهم القرون الثلاثة الأولى الفضلى.

      ولا نرى هذا التنافر بين المنهجين إلا نابعا من الفهم العقديّ الأصلي لموضوع الإيمان. فالحرورية يرون أنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص، بل هو عندهم ثابت، بينما أهل السنة يرون أن الإيمان يزيد وينقص، وأن المسلم تقع منه الطاعة كما تقع منه المعصية بدرجاتها دون الكفر بيقين. ونحن نعلم أنّ حرورية هذا الزمن لا يصرحون بهذا القول، بل يردونه ما استطاعوا. لكن القول في هذا ليس اليهم، إذ لا يقر صاحب بدعة ببدعته، وهو يعلم تفاصيلها، ويعلم أن مخالفيه يعلمون تفاصيلها. إنما الحكم هنا يرجع إلى تصرفاتهم التي تحكم على عقيدتهم وفهمهم للإيمان وحدّه. فهذا النظر إلى الإيمان هو الذي يبرر تكفيرهم لمن خالفهم، وإلباسهم أفعال معصية، لباس الكفر، والقتل عليه.

      ولا يخفي ما في هذا التوجه من نفاق ظاهر. إذ يمكن للموافق المصاحب لهم أن يرتكب معاصٍ، أو حتى كفراً مما يرونه كذلك، فيغفر له، أو يعاقب عليه كما في السنة، لكن نفس الفعل من المخالف المفارق يُعتبر كفراً لا معصية فيه، يُقتل عليه. وانظر إن شئت كيف قتلوا أبو سعيد الحَضرمي لأخذه بيعاتٍ من بعض عوام أتباع الجيش الحرّ "المرتدين"، بينما هم أنفسهم قبلوا بيعات بعثيين من العسكريين بين صفوفهم الأولى، وأتباع للأركان في بموحسن مؤخراً، غير تعاونهم مع النصيرية في حصار وقتل مسلمي الدير!

      الأمة إذن هي مفهوم هلاميّ في الفكر الحروري، يتغير حسب موقع أفرادها وجماعاتها من تنظيمهم بالذات، لكنه واضح جليّ في المفهوم السنيّ. وهو الذي أشار اليه الشيخ المجاهد أسامة بن لادن من قبل، حين فرح بالربيع العربيّ، واقترح إقامة مجلس شورى لدعمهم وتوجيههم، وما أقره الشيخ المجاهد أيمن الظواهريّ في كلّ قوله، ضداً لما قالته الخوارج البغدادية.

      فالساعين لإقامة الدولة الإسلامية المنشودة، يجب أن يلتزموا بهذا المفهوم للأمة، وأن يتبنوا الحاضنة الشعبية في صراعها للوصول إلى الوجود، ثم البقاء.

      وقد تحدثنا عن "حاضنات شعبية" بصيغة الجمع، من حيث إنّ ذلك يتمشى مع مفهومنا للتمكين، وهو أنه استعادة السيطرة في أماكن متعددة من أرض الإسلام. ومن هنا، فإن "الدولة" قد تنشأ في أماكن متعددة، مستخدمة لحاضنتها الشعبية الخاصة. وهو أمرٌ طبيعي بالنسبة لتعدد العادات والخصائص والطبائع، ومن ثم طرق التعامل والتعاون والمقاومة. ومن هنا كذلك، يفترق مفهوم "الدولة" أو "الإمارة" عن مفهوم "الخلافة".

      يتبع إن شاء الله.

      تكملة الأطروحات 8

      د طارق عبد الحليم

      19 يونيو 2014 – 21 شعبان 1435