فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      قيام دولة الإسلام .. بين الواقع والأوهام – دراسة سياسية تحليلية 5

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد

      انتهينا في المقال السابق إلى أنّ هناك إشكاليات قاتلة في البناء الفكري والشرعي لدي الجماعات الحرورية في العراق والشام، وهي تتعلق بالبيعة وبأهل الحلّ والعقد، أو "المُمَكِّنُون"، الذين يُمَكَّنون لأمام أو أمير.

      وما ذكرته آنفا، أن أهل حلّ وعقد، في محلة معينة، يمكن أن يعقدوا بيعة خاصة، لحرب أو جهاد، في تلك المحلة بذاتها، والتي لهم فيها أو على أهلها، كلاماً مسموعاً. أما من وراء ذلك، فهو تعدٍ على حدود الله، وتسوّرٍ على حقوق الآخرين، لا ترضي به شريعة ولا يقبله عرف، ولا ينطبق في واقع. وهذا هو ما حدث في بيعة البغدادي، الخاصة بالحرب، والتي أقرها له أمراء الجهاد في خراسان، بشرطها، فإذا به يحوّلها إلى بيعة عامة، دون أن يُسميها بذلك، ويستخدم اسم "الدولة"، الذي لا يصاحب إلا بيعة عامة، بل ويمتد بها إلى الشام، تأكيداً على حقيقة ما يراه وشيعته، من إنها بيعة عامة، دون أن يسمونها بذلك لعلمهم أن لن يطير لهم بها جناح!

      فالإشكالية هنا، هي:

      • اعتقاد أن جمع من المجاهيل على المستوى الإسلامي، وإن كانوا معروفين محلياً لأهل محلتهم، يمكن أن يكونوا أهل حلّ وعقد بالنسبة لجموع المسلمين في أي مكان آخر. وهو ضد طبائع الناس، ومعاكس لفائدة أهل العقد ابتداءً، إذ إن قد شُرِعَ الأخذ برأيهم، لحقيقة إمكانهم السيطرة على كلّ من يطلب منهم أميرهم البيعة، لا مجرد أنهم "أهل حل وعقد" صورياً. وهو التصور المريض الذي نشأت عنه هذه الحرب بين المسلمين.
      • تحويل بيعة هؤلاء النفر إلى بيعة عامة على الحقيقة، تجب التوبة على من لا يأخذ بها، ثم مدّ أثرها إلى الشام، حيث لا قدر لهؤلاء النفر ولا سمع ولا طاعة.

      المُمَكَّن له: وهو الأمير أو الإمام

      والحديث عن الإمام حديث ذو شجون. فقد أصبح "الإمام" عند أهل السنة اليوم، أقرب إلى أسطورة "الإمام الغائب" عند الشيعة. فالسنة يؤمنون بوجوب نصب إمامٍ، وهو صحيح، لتنتظم به أمور الدين والدنيا، كما عبر عن ذلك فقهاؤنا القدماء. كما أنه مطلوب عقلاً وعرفاً. فإن الجماعات الإنسانية عامة لا تحيا إلا بزعامة، تأخذ بزمام الأمور، فتقيم المعوج، وتصلح الفاسد، حسب ما تصطلح عليه تلك الجماعة من سياسات وتصورات ومبادئ، وضعية أو شرعية.

      لا يصلح الناس فوضى لا سُراة لهم     ولا سُراة إذا جُهَّالهم سادوا

      لكنّ أمر تنصيب إمام للمسلمين اليوم، بات أمراً في غاية الصعوبة والتعقيد. بل تواجهه إشكاليات لا حصر لها، عملياً وواقعياً. وما ذلك لعدم وجود من تتحقق فيه الشروط الشرعية التي عدّها الفقهاء القدامى، بل لعدم وجود الشروط التي يمكن فيها وبها تعيين هذا الإمام، وتنصيبه واقعاً لا وهماً ولا خيالاً، وانتفاء الموانع التي تمنع من ذلك، وهي أكثر من أن تُحصى.

      فإنه قبل أن يُنصّب إمام لإمامة، ونعنى بها الإمامة العظمي، التي تعم كافة أقطار الإسلام، وتُلزم بسطوتها كافة المسلمين، يجب أن يكون هناك مسلمون يلتزمون بها، ومكانٌ محصّنٌ تقع فيه. وهم، إن واصلنا الحديث عن مكونات "التمكين"، المُمَكّن فيه، وهي الأرض التي يُمَكّن للإمام عليها، دون منازعة. والمُمَكِّنون وهم "أهل الحل والعقد" من بين جموع المسلمين الراضين بهم، ومن ثم، بما يقررونه. وهؤلاء والمُمَكِّنون يجب أن يكون لهم السطوة الشرعية على من يُطلب منهم البيعة لذاك الإمام الذي اختاروه. أمّا أن يختار جمعٌ من الناس، يعتقدون، أو يعتقد من اختلرهم من حملة السلاح، أنهم أهل حلّ وعقد، في محلة، فينصبون أحداً، ثم يطلبون من كافة المسلمين القبول به، فهذا استدعاء للفتنة، بل هي الفتنة بعينها.

      وقد رأينا ما يمكن أن يحدث حين يستبدل الخارجون عن منهج أهل السنة جمعاً لا هنا ولا هنالك بأهل الحلّ والعقد في تصورهم الصحيح المؤدى لجمع الشمل لا لتفرقته،. ثم كيف إنّهم خرجوا على مشايخهم ومعلميهم، الذين هم أصلح ما يكونوا اتصافاً بأهل الحلّ والعقد، كالمقدسي وأبي قتادة والسباعي والعلوان والحدوشي وغيرهم كثير من أهل الفضل في بلاد المسلمين، فاختاروا لأنفسهم، وأهل حلهم وعقدهم طلبة علم، أو أقل من ذلك، كالعدناني والبنعلي، ومن ليس لهم في عالم الشريعة ناقة ولا جمل، إلا التتلمذ على أيدى هؤلاء الأفاضل، ولا قيمة لهم، احترما وتبجيلاً إلا بين حاملي السلاح من جماعتهم ثم عدد من الناس لا يعلمه بحالهم إلا الله، في بلدة من بلاد العراق، فإذا، بقدرة قادرٍ، هم أهل الحلّ والعقد الذي تسرى كلمتهم على مسلمي الدنيا، ويُقتل من يخالف اختيارهم!

      وقد ذكرنا أنّ كافة الممالك والأراضي التي يعيش عليها "مسلمون" اليوم، ليس فيها تمكين، لا لإمام ولا لإسلام. بل المسلمون[1] فيها عبيد خاضعون لأحكامٍ لا يرضونها لا يومنون بها، بل يسجنون ويقتلون ويعذبون إن طالبوا بتمكينها. ثم إن كافة المسلمين، الذين نجوا بعقيدتهم من كفر العلمانية، أو الإلحاد، هم شتات في البلاد. والعلماء الذين يثقون بهم، ويمكن أن يكون لهم السطوة الشرعية على غالبهم، هم إما في السجون أو مكممي الأفواه في بلادهم، أو هاربون إلى الغرب. وهو موقف يستدعى تطويراً لمواجهة هذه المسألة، نتعرض له في القسم الثالث إن شاء الله "الإطروحات".

      أمّا إمارة الجهاد، فهذا أمرٌ قد سار عليه الناس منذ نشأة الحركة الجهادية في أنحاء الدنيا، لا غضاضة فيه، بل ثابت بالسنة والقياس. ويجب فيه مراعاة التسلسل التنظيميّ، حتى لا ترتبك الأمور. كما حدث حين نزع البعذاديّ يداً من طاعة للشيخ الفاضل أيمن الظواهري.

      وتبرز من الشروط السبعة التي ذكرها العلماء، أبدع في تحقيقها الجويني، حيث قال، متحدثاً عن صفات الاستقلال المكتسبة  ولواحقها "توقد الرأي في عظائم الأمور، والنظر في مغبات العواقب، وهذه الصفة ينتجها نحيزة العقل ويهذبها التدريب في طرق التجارب،  والغرض الأعظم من الإمامة جمع شتات الرأي، واستتباع رجل أصناف الخلق على تفاوت إراداتهم، واختلاف اخلاقهم ومآربهم وحالاتهم، فإن معزم الخبال والاختلال يتطرق إلى الأحوال من اضطراب الآراء، فإذا لك يكن الناس مجموعين على رأي واحد لم ينتظم تدبير، ولم سيتتب من إيالة الملك قليل ولا كثير، ولاصطلمت الحوزة واستؤصلت البيضة"[2].

      وهذا النص درة من درر الجويني في هذا الأمر. فإنه بلا عقل للإمام المختار، يؤدى به إلى جمع الشمل وشتات الآراء المختلفة، التي إن لم تجتمع قامت الحرب، وفقدت الإمامة غرضها، فإن الإمامة ذاتها لا معنى لها على الأرض، إلا أن تكون فرقة بين الفرق المتناحرة، لا أكثر، وهو ما رأيناه في بيعة أبي بكرٍ الصديق رضى الله عنه. إذ توالت البيعات عليه من كلّ مكانٍ، بمجرد أن سلمّ له عمر رضى الله عنه صفقة يده، دون مغالبة. فإن تحجج أحدٌ بفعل معاوية رضى الله عنه في عدم التسليم لعليّ، قلنا، هيهات، هذا ليس بناقض على الإطلاق، إذ مغالبة معاوية لم تكن عن رفضٍ لعليّ رضى الله عنه بذاته، بل قد سلّم له من حيث الكفاية والدراية والاستحقاق، لكنها كانت أولويات بالنسبة اليه، يجب أن تراعى قبل استقرار البيعة، وهي حدّ قتلة عثمان رضى الله عنه. والخروج عن رأي إمام اجتمعت عليه غالب فئات المسلمين، في أمرٍ اجتهاديّ، فيه بغي عليه.

      والإشكالية هنا، في الفكر الحروري الحديث، هو أنهم يريدون أن يثبتوا "دولة"، وإمام أو أمير أو رئيس لها، سمه ما شئت، دون المبايعين لها، أو المُمَكِّنِين منها، بل ودون الأرض التي يُمَكّن عليها. "فالدولة"، ومن ثمّ الإمام أو الأمير أو الرئيس، يأتي أولاً، ولو بشكليات تشبه الشرعية صورة، ولا توافقها مقصداً ولا حقيقة، بل تناقضها على ظول الخط، من حيث صارت يداً للأعداء يقتلون المسلمين المخالفين لهم، بدلاً من قتل النصيرية، وهذا هو عين الضلال، ولب الفساد والإفساد. فهم، باختصار يجعلون السبق للإسم قبل تحقق الفعالية على الأرض. ومن كان هذا منتهى عقله وآخر دربته، فكيف بالله عليك يحقق "الغرض الأعظم من الإمامة جمع شتات الرأي، واستتباع رجل أصناف الخلق على تفاوت إراداتهم، واختلاف اخلاقهم ومآربهم وحالاتهم"!

      هذا الخلل العميق في فهم منظومة الإمامة، وعلاقتها بقيام "دولة" هو من أشدّ الأمور اضطراباً في الفكر الجهادي عامة والحروري خاصة.

      يتبع إن شاء الله

      تكملة الاشكاليات 6: قيام الدولة الإسلامية في مواجهة الخارج:

      د طارق عبد الحليم

      11 يونيو 2014 – 13 شعبان 1435


      [1]  وأقصد بالمسلمين أولئك الرهط الذي لا يزال على التوحيد، ومحبة الله ورسوله، لا شعب السيسي على سبيل المثال.

      [2]  الغياثي ص96