فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      قيام دولة الإسلام .. بين الواقع والأوهام – دراسة سياسية تحليلية 3

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد[1]

      إقامة الدولة:

      سبق أن قررنا بعض الإشكاليات التي تُطرح على الفكر الجهاديّ، خاصة الحروريّ، بشأن إقامة "دولة". ونعيد القول الذي سبق أن قررناه من قبل بهذا الشأن، في رسالتنا المفتوحة إلى قادة تنظيم البغداديّ، قلنا فيها "التعامل مع مصطلح "الدولة"، وما جرّه ذلك المصطلح من أزمات على ساحة الحركة الإسلامية كلها في الشام. فقد انطلقت "الدولة" من قناعات وتصورات، لا أقول إنها أخطأت فيها، قدر ما أقول إنها قد خُلّط عليها أمرها فيها، فاستصحبت أفكارا وأوضاعا سياسية وتركيبات اجتماعية لا تنطبق على أرض الواقع من ناحية، ولا تسير على نهج الشرع أو رواية التاريخ من جهة أخرى، حتى وإن أقر عليها الشيخان أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، وهي إنها "دولة".

      وقد ساءلت في مقال سابق لي، لا بأس من نقل جزء منه هنا لأهميته، قلت "غموض مفهوم "الدولة" لدى مسؤوليها، وبالتالي لدى أتباعها ومن يتبع الأحداث. فالدول، من حيث هي دول، لا تزال تنظيمات اجتماعية، تقوم بأدوار معينة، في مجالات الحياة، وهو ما قد تقوم به جبهات أو إمارت، أو ماشئت. وفي رأينا أن توصيف "الإمارة" أقوى من توصيف "الدولة"، إذ توصيف الدولة أمرٌ لا دلالة عليه في الشرع، بل هو تاريخي وضعي، أمّا الإمارة، فهي مما ثبت شرعاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته وتابعيهم. ومن تمسك بتعبير الدولة إنما وقع في شرك تسمية محدثة، وتعريف وضعيّ، بنكهة إسلامية! وإلا فيجب أن يتحدد معنى "الدولة" المقصودة هنا، وما تشبيهها بدولة المدينة إلا إسقاط لتسميات مؤرخين مُحدثين على وضع الجماعة المسلمة في المدينة وقت النبوة. ولم يكن معروفا أيامها "دولة" مكة في مقابل "دولة" المدينة. وما هذا التمسك إلا أثر من الآثار الخفية لسايكس بيكو[2]، التي تعطي تعبير "الدولة" احتراماً وحقوقاً أكثر من الإمارة أو الولاية أو الخلافة".

      الشاهد أنّ تنظيم "الدولة" هنا، قد ألزم نفسه، وعامل غيره، بمفهوم غير واضح ولا مستقر. فإن عنى بإطلاق لفظ "الدولة" ما يقصد به القانونيون في العصر الحديث، فلابد لها من عاصمة، وحدود مستقرة، لا تتغير كل فترة حسب ما تفقد من أرضٍ، أو تستولي عليها. وأظن أن "الدولة" لا تقصده، من حيث إنه اتباع لمفهوم سايكس بيكو في تقسيم أرض الله! وقد كانت الدولة الكندية عرضة للإنقسام عام 1996، من قبل الجزء الفرنسي فيها، وكانت تستعد لتغيير كلّ ما هو متعلق بكيانها إن حدث الانشقاق، إذ تغير الحدود يملى تغيرات كثيرة تتبعه، في منطق الدول الحديثة. وإن لم تكن تقصد هذا المصطلح بمعناه الوضعيّ، فلماذا تحارب دونه، وتوالى وتعادى دونه، بل وتغرس في عقول أتباعها وأنصارها كلّ هذا التحيز والتعصب للمصطلح، حتى إنهم يفاصلون عليه. ثم إن "المدينة المنورة" لم تكن دولة، ولم يُطلق عليها أحدٌ اسم الدولة إلا المؤرخين المحدثين في القرن الماضي. ولذلك قال د أيمن الظواهري "ليس هناك شيء الآن في العراق اسمه القاعدة، ولكن تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين اندمج بفضل الله مع غيره من الجماعات الجهادية في دولة العراق الإسلامية حفظها الله، وهي إمارة شرعية تقوم على منهج شرعي صحيح وتأسست بالشورى وحازت على بيعة أغلب المجاهدين والقبائل في العراق". فكما قلنا في مقالنا السابق، إن توصيفها الحقيقي في العراق هو "الإمارة"، وهي بإذن الله مشروع دولة، إن التزمت بالسنن.

      بل إن حركة حماس، التي تتحكم في قطاع غزة منذ سنين، لا تعتبر دولة على وجه الحقيقة.

      إذن، فنحن نرى أن "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ليست إلا إمارة شرعية، تقوم على تنظيم جهادي على الأرض، وإن اختار لنفسه أن يسمي كيانه "الدولة". ونرى أنّ هذا كان مقنعاً في وقتٍ ما بالعراق، من حيث أنّ هناك دولة المالكيّ الرافضية، ودولة الأكراد ذات الحكم الذاتي، فلم لا يكون هناك "دولة" للسنة، إغاظة للعدو، واستعدادا لما هو آت؟[3]" اهـ

      ولنتحدث هنا بشكل أكثر تفصيلاً في هذا الأمر، وسأطرق هذا الموضوع بشكلٍ أحسبه جديد، يناسب ما نحن فيه. فنقرر أنّ هناك وجهان أساسيان في موضوع إقامة الدولة.

      1. الدولة الإسلامية شكلاً وتنظيما:. وهذه الوجه يتعلق أساسا بثلاثة نقاط بارزة:

      التمكين: والتمكين ركن من أركان إقامة الدولة، لا شرط من شروط إقامتها. والفارق هنا أنّ الركن يقع من داخل العمل، أمّا الشرط فيقع من خارجها. وهذه من النقاط التي خفيت على مؤسسي ما أطلقوا عليه "الدل الإسلامية"، إذ عدوا التمكين شرطاً، والشروط من أوصافها أنها قد تكون شروط صحة أو شروط كمال، كما يمكن أن يؤجّل الشرط لسبب من الأسباب، أو يصح العمل دونه في بعض الصور. أمّا الركن فلا. فلا دولة دون تمكين، قولٌ واحد. كما لا صلاة دون تكبير، ولا حج دون وقوف بعرفة. والتمكين كلمة ليس لها حدّ محدود بمعنى أنه يصف كلّ ما يقع في حيزها، وما يخرج عنه.

      والتمكين له شقان:

      المُمَكَّن فيه: وهو الممالك والأراضي التي يقع عليها التمكين، ولا معنى لتمكين إلا بها، وإلا كان التمكين كعدمه، وهماً لا أكثر. وقد أكثر الناس في الحديث عن هذا الأمر، لكن نتفرد هنا بما يستحق النظر خاصة ما نرى أنه فات على أكثرهم. وهو أنّ ما كتبه القدماء من حدود وتعريفات للتمكين، تعتمد كلها على أنّ هناك مُمَكَّن فيه ابتداءً. ومن ثم، تحدثوا عن الأئمة إن عدموا، أو تنازعوا أو شبه ذلك. وما ذلك إلا لأنهم انطلقوا في تنظيرهم من واقع وجود "أمة" وخلافة وعسكر وجيوش، ثم انعدم الإمام، كما في غياث الأمم، أو انحرف أو خرج عليه خارج، كما في الماوردي وغيره. ومن ثم، ناقشوا شرائط الإمام، والتمكين في ظلّ أرض موجودة ودول قائمة بعناصرها، يمكن أن يُمَكَّن فيها.

      وادرس هذا الذي كتبه الجوينيّ في "غياث الأمم"، لتعرف مصداق ما ذهبنا اليه. قال في معرض حديثه عن التسليم لإمامٍ ولو من غير عقد بيعة "..أن قصر العاقدون وأخروا تقديم إمام، وطالت الفترة وتمادت العسرة وانتشرت اطراف المملكة وظهرت دواعي الخلل .."[4]. ومثل هذا منتشرٌ في أنحاء الكتاب، يبني عليه أحكام نصب الإمام إنْ غاب لكن دون غيبة المُتَمَكَّن فيه، وهو الأرض والناس، وباختصار "الأمة". ومن ثم، فإننا نحسب أنّ كثرة من كتب في هذا الأمر، اعتماداً على كتب المتقدمين، لم ينتبه لهذا الفرق العظيم بين الحالين، حال وجود المُتَمَكن فيه (الأمة، الأرض..) فيه دون المُتَمَكِن (الإمام)، بينما نحن نتحدث في انعدام وجود الاثنين المُتَمَكن فيه (الأمة، الأرض..) فيه والمُتَمَكِن (الإمام). بينما تتحدث طائفة الحرورية عن إيجاد المُتَمَكِن (الإمام)، قبل إيجاد المُتَمَكن فيه (الأمة، الأرض..)[5]! وهذا قلبٌ للحقائق وقصور فهم لما تدل عليه كتب السلف، ونقص في الوعي بما عليه الماضي، والحاضر، ومن ما يكون عليه المستقبل.

      ولقائل أن يقول: كيف هذا، والأمر اليوم هو على ما تصف، ويصف القدماء، وهاهي أراضي المسلمين منتشرة، وممالكهم متسعة، ودواعي الخلل فيها ظاهرة، أفليس هذا ما يصفه الجوينيّ؟ قلنا، لا والله بل هو فرق دقيق لا يفطن له إلا القليل. ذلك أنّ تلك الممالك محكومة ابتداءً بمن هم متمكنين فيها تمكناً أصلياً، لعقود بل قرون، ويحكمون فيها بغير ما أنزل الله، وبقوانين العلمانية. فهي ليست ممالك إسلامية البتة، بل لن يخضع منها أحدٌ لو دعي إلى إمامٍ على ما وصف الجوينيّ. بل إن ما قصد اليه القدماء هو وجود ممالك تقبل بحكم الله أصلاً، وإن مزقتها الخلافات واختلت فيها وسائل الحكم، لكنها لا تزال أرض إسلامٍ، وممالك مسلمة، مُمَكَّن فيها للإسلام، دون إمام. فتنصيب الإمام هو، حين ذاك، واجب الوقت، سواءً ببيعة أو بشوكة أو بغير ذلك لتحقيق المراد من حكم الله للعباد. لكن، هل هذا ما نحن عليه اليوم؟ غن تجاوزنا عن أنّ الأصل في الناس اليوم الإسلام، وهو ما لا تقول به طوائفٌ بدعية، فإن هذا لا يمنع أنّ الممالك لا يد للإسلام فيها، ولا تمكين.

      إذن، فإن السعي اليوم لتنصيب إمام، هو لغوٌ لا ينطبق عليه أيّ من حيث القدماء. بل الواجب هو استلهام المنهج الذي نظر به القدماء في هذه المسائل، مسائل الإمامة والبيعة، ثم توجيه النظر بما يليق بما نحن فيه اليوم من حال.

      وهذه، فيما نرى، هي الإشكالية الكبرى التي نرى كافة من تحدث في هذا الأمر قد وقع في حبائلها، ولم ينتبه لها، فراح ينقل نصوصاً ويحشد أقوالاً، دون التفكر فيما تقع عليه من مناط. وللأسف، فإن هذه الثقافة، ثقافة النقولات والاستشهادات هي التي باتت تسيطر على كتابات أكثر من نرى على الساحة اليوم من طلاب علم أو رويبضاته، إلا شيوخ الدعوة وعلمائها. فترى المقال أو البيان حشداً هائلاً من نصوص ونقولات، يخرج به صاحبه، أو يخرّجه بما لا يدل عليه أصلاً ولا فرعاً، والله المستعان.

      ولعل ما ذكرنا هنا، هو ما أشارت اليه كتابات عدد من علماء الأمة ومشايخ الجهاد، من ضرورة النظر إلى "الأمة" واعتبارها. وهو ما سنكشف عن الاتصال بينه وبين ما عرضنا في الحلقة الثالثة من هذه السلسلة "الأطروحات".

      وهذا التمكين، يحتاج، كما ذكرنا، إلى أرضٍ مُمَكَّن فيها، لا ينازع فيها غير المُمَكَن، وأن تكون هذه الأرض ذات حدود معروفة ثابتة، ليدفع عنها الصائل وتحمى بيضتها وأموالها، كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه سلم، والخلفاء كلهم من بعده. ولا يستلزم ذلك أن لا يُنتقص منها في حينٍ من الأحيان، لكن يبقى مركزها محفوظاً محمياً برياً و بحريا والأفضل جوياً كذلك، لتبقى لها صورة "الدولة" أو "الإمارة" قائمة على الأرض، لا على الورق وفي البيانات.

      والتمكين، ليس فيه حدّ معروف جامع مانع، بل هو أقرب بالتعريف التطبيقي من التعريف المنطقي أو اللفظي أو التعريف بالماهية. كما نقول "ما التفاحة"، فيشار اليها "بهذه". إذ تختلف صوره وحدوده من وضع إلى آخر، فيقال "من المُمَكَّن" فيقال فلاناً. ولهذا علامات وأمارات يجب أن يتحقق أقلها ليمكن أن يطلق اللفظ، كما أنه لا يقال عن بذرة التفاح أنها تفاحة. وهذه العلامات والأمارات، هي ما أشار اليه العلماء في كتبهم من أنه يحصل التمكين لصاحب القوة والمنعة والشوكة، القادر لى حفظ الأمة وحماية الديار والذب عن البيضة ودفع الصائل وقطاع الطرق وزجر اللصوص ومعاقبتهم، وإقامة الحدود الشرعية، وإرهاب العدو، وتحصين الحدود.

      ومن هنا فإنه لا يقال لمن استولى على أرضٍ ما، وسط مملكة لا يزال ينازع العدو المغتصب في كلّ شبرٍ فيها، عسكرياً، أنها مُمَكّن فيها، إلا بالاستعمال اللفظيّ للكلمة، لا الاصطلاحيّ، والأقرب أنها أرضٌ "محررة"، لا مُمَكَّن فيها. ومن هنا جاء قول من قال بجواز عدم إقامة بعض الحدود في تلك المناطق، لعدم التمكين بأقل حدوده مما ذكرنا، بما يصلح أن يقال أن المسلمون "مُمَكَّنون" فيها.

      يتبع إن شاء الله تعالى

      تكملة الإشكاليات:4

      المُمَكِّنون والمُمَكَّن له: أي أهل الحل والعقد والإمام

      د طارق عبد الحليم

      28 رجب 1435 – 27 مايو 2014


      [1]  راجع إن شئت المقال الأول والثاني من هذه السلسلة لتكتمل الفائدة http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72610 & http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72619

      [2]  ولنا في مفهوم سايكس بيكو كلام في مقالٍ سابق، نعود اليه بعد إن شاء الله.

      [3]  راجع مقالنا " خطاب مفتوح إلى جماعة الدولة - الإنصاف فيما يجرى على أرض الشام من اختلاف" بتاريخ 19 أبريل 2014، http://www.tariqabdelhaleem.net/new/Artical-72582

      [4]  راجع "غياث الأمم في التياث الظلم" للجويني ص221، طبعة دار الدعوة

      [5]  وهو ما سبق أن أشرنا اليه إشارة سريعة من قبل في إحدى مقالاتنا حيث ذكرنا أن هذا من قبيل وضع العربة أمام الفرس، لا خلفه!