فضح العرورية العوادية

    وسائل الإعلام

      مقالات وأبحاث متنوعة

      البحث

      سؤال عن عصمة الأنبياء من المعاصي

      سؤال عن عصمة الأنبياء من المعاصي

      هل الأنبياء عليهم السلام معصومون من المعاصي

       

      سأل سائل:

      السلام عليكم ورحمه الله وبركاته

      فضيله الشيخ الدكتور هانى السباعى

      اما بعد: فأرجوم من فضيلتكم التكرم بالرد على سؤالى سواء بمقال او فى خطبه الجمعه

      السؤال هل الانبياء معمصمون من الخطأ؟ واذا كانت الاجابه بنعم فما تفسير قوله تعالى (انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر). وقوله تعالى (ووضعناا عنك وزرك) وقوله تعالى فى سيدنا موسى (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} وفى دعاء سيدنا نوح على قومه.

      سؤال من سائل آخر يتعلق بنفس الموضوع. هل يجوز القول بأن الأنبياء قد أخطأت ولم تذنب ؟ ! فسيدنا محمد قد حرم على نفسه العسل من قبل كذلك عندما عبس وتولى أن جاءه الأعمى فهل يجوز القول بذلك ؟ !

       

      الجواب

       

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد. اعلم رحمني الله وإياك أن أحد الفضلاء قد سألني عام 2006 في منتدى الحسبة قديما فأجبت عن سؤاله ومن ثم سأعيد الإجابة بمناسبة سؤالك وأجيبك وبالله التوفيق.

      بالنسبة لمسألة هل الأنبياء معصومون من الخطأ؟

      لقد أجمع العلماء على تنزيه الأنبياء عن اقتراف الكبائر لكنهم اختلفوا في اقتراف الأنبياء صغائر المعاصي قبل النبوة أو اقترافهم خطأ قبل أن ينزل الوحي ليصحح له الخطأ؟

      فجمهور العلماء ينزهون الأنبياء من كل عيب سواء الصغائر قبل النبوية أو بعد النبوة وقد أجاب وأحسن الجواب العلامة القاضي عياض المتوفي سنة 541هـ بمدينة مراكش بالمغرب في كتابه الماتع (الشفا بتعريف حقوق المصطفى) في عرضه لهذه المسألة ورد على شبهات المجيزين المعاصي للأنبياء؛ أختار منها هذه الفقرات لزيادة الفائدة وخاصة لمن ليس لديه كتاب الشفا:

      يقول القاضي عياض (في عصمة الأنبياء قبل النبوة): "وقد اختلف في عصمتهم من المعاصي قبل النبوة، فمنعها قوم، وجوزها آخرون. والصحيح إن شاء الله تنزيههم من كل عيب، وعصمتهم من كل ما يوجب الريب ، فكيف و المسألة تصورها كالممتنع، فإن المعاصي و النواهي إنما تكون بعد تقرر الشرع.

      وقد اختلف الناس في حال نبينا صلى الله عليه وسلم قبل أن يوحى إليه، هل كان متبعاً لشرع قبله أم لا؟ فقال جماعة: لم يكن متبعاً لشيء، و هذا قول الجمهور، فالمعاصي على هذا القول غير موجودة ولا معتبرة في حقه حينئذ، إذ الأحكام الشرعية إنما تتعلق بالأوامر والنواهي و تقرر الشريعة.

      ثم اختلف حجج القائلين بهذه المقالة عليها، فذهب سيف السنة، ومقتدى فرق الأمة القاضي أبو بكر إلى أن طريق العلم بذلك النقل وموارد الخبر من طريق السمع، وحجته أنه لو كان ذلك لنقل، ولما أمكن كتمه وستره في العادة، إذ كان من مهم أمره، وأولى ما اهتبل به سيرته، ولفخر به أهل تلك الشريعة، ولاحتجوا به عليه، ولم يؤثر شيء من ذلك جملة.

      وذهبت طائفة إلى امتناع ذلك عقلاً، قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعاً من عرف تابعاً، وبنوا هذا على التحسين و التقبيح، و هي طريقة غير سديدة، و استناد ذلك إلى النقل كما تقدم للقاضي أبي بكر أولى وأظهر .

      وقالت فرقة أخرى بالوقف في أمره صلى الله عليه و سلم وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك، إذ لم يحل أحد الوجهين منها العقل ، و لا استبان في أحدهما طريق النقل ، وهو مذهب أبي المعالي .

      وقالت فرقة ثالثة: إنه كان عاملاً بشرع من قبله ، ثم اختلفوا : هل يتعين ذلك الشرع أم لا ؟ فوقف بعضهم عن تعيينه، و أحجم. و جسر بعضهم على التعيين و صمم . ثم اختلفت هذه المعينة فيمن كان يتبع، فقيل نوح ، و قيل إبراهيم ، و قيل موسى ، و قيل عيسى صلوات الله عليهم . فهذه جملة المذاهب في هذه المسألة .

       والأظهر فيها ما ذهب إليه القاضي أبو بكر، و أبعدها مذاهب المعينين ، إذ لو كان شيء من ذلك لنقل كما قدمنا ، و لم يخف جملة ، و لا حجة لهم في أن عيسى آخر الأنبياء ، فلزمت شريعته من جاء بعدها ، إذ لم يثبت عموم دعوة عيسى ، بل الصحيح أنه لم يكن لنبي دعوة عامة إلا لنبينا صلى الله عليه و سلم ، ولا حجة أيضاً للآخرة في قوله : أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، و لا للآخرين في قوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، فتحمل هذه الآية على اتباع في التوحيد ، كقوله تعالى : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) [ سورة الأنعام  الآية : 90 ] .

      وقد سمى الله تعالى فيهم من لم يبعث ، و لم تكن له شريعة تخصه ، كيوسف بن يعقوب على قول من يقول: إنه ليس برسول. و قد سمى الله تعالى جماعة منهم في هذه الآية شرائعهم مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، فدل أن المراد ما اجتمعوا عليه من التوحيد و عبادة الله تعالى .

      وبعد هذا فهل يلزم من قال بمنع الاتباع هذا القول في سائر الأنبياء غير نبينا صلى الله عليه وسلم ، أو يخالفون نبيهم ؟.

      أما من منع الاتباع عقلاً فيطرد أصله في كل رسول بلا مرية . و أما من مال إلى النقل فأينما تصور له و تقرر اتبعه . ومن قال بالوقف فعلى أصله . و من قال بوجوب الاتباع لمن قبله فيلتزمه بمساق حجته في كل نبي.[1]

      شبهات المجيزين الصغائر على الأنبياء والرد عليها:

      لقد عقد القاضي عياض فصلاً (في الرد على من أجاز عليهم الصغائر والكلام على من احتجوا به في ذلك) حيث قال: "اعلم أن المجوزين للصغائر على الأنبياء من الفقهاء و المحدثين و من شايعهم على ذلك من المتكلمين احتجوا على ذلك بظواهر كثيرة من القرآن و الحديث إن التزموا ظواهرها أفضت بهم إلى تجويز الكبائر وخرق الإجماع، وهو ما لا يقول به مسلم ، فكيف وكل ما احتجوا به مما اختلف المفسرون في معناه ، و تقابلت الاحتمالات في مقتضاه ، وجاءت أقاويل فيها للسلف بخلاف ما التزموه من ذلك، فإذا لم يكن مذهبهم إجماعاً ، وكان الخلاف فيما احتجوا به قديماً ، و قامت الدلالة على خطأ قولهم ، و صحة غيره، وجب تركه، و المصير إلى ما صح. وها نحن نأخذ في النظر فيها إن شاء الله .

      فمن ذلك قوله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه و سلم :

      (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) [ سورة الفتح الآية : 2 ] .

      وقوله : (واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [ سورة محمد الآية : 19 ] .

      وقوله : (ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك) [ سورة الشرح الآية : 2 ، 3 ] .

      وقوله : (عفا الله عنك لم أذنت لهم) [ سورة التوبة الآية : 43 ] .

      وقوله : (لولا كتاب من ا لله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) [ سورة الأنفال الآية : 68 ] .

      وقوله: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى) الآية.

      وما قص من قصص غيره من الأنبياء ، كقوله : (وعصى آدم ربه فغوى) [ سورة طه الآية : 121 ] . وقوله: (فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) [ سورة الأعراف الآية : 190 ] . وقوله : (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) [ سورة الأعراف الآية : 23 ] . و قوله ـ عن يونس : (سبحانك إني كنت من الظالمين) [ سورة الأنبياء الآية : 87 ] .

      وما ذكر من قصته و قصة داود، وقوله: (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) [ سورة ص الآية : 24 ، 25 ] .

      و قوله: (ولقد همت به وهم بها)، وما قص من قصته مع إخوته .

      و قوله ـ عن موسى : (فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان) [ سورة القصص الآية: 15 ] . و قول النبي صلى الله عليه و سلم في دعائه : اغفر لي ما قدمت و ما أخرت، وما أسررت وما أعلنت و نحوه م ن أدعيته صلى الله عليه و سلم .

      و ذكر الأنبياء في الموقف ذنوبهم في حديث الشفاعة .

      و قوله : إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله .

      وفي حديث أبي هريرة : إني لأستغفر الله و أتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة .

       وقوله تعالى عن نوح : (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين).

      وقد كان كما قال الله له: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) [ سورة هود الآية : 37 ]. و قال عن إبراهيم: (والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) [ سورة الشعراء الآية: 82 ]. و قوله ـ عن موسى: (تبت إليك) [ سورة الأعراف الآية : 143 ]. وقوله: (ولقد فتنا سليمان) ... إلى ما أشبه هذه الظواهر"[2].

      الرد على أدلة المجيزين صدور المعاصي من الأنبياء:

      "قال القاضي رحمه الله : فأما احتجاجهم بقوله : ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر : فهذا قد اختلف فيه المفسرون ، فقيل : المراد ما كان قبل النبوة و بعدها.

       وقيل: المراد ما وقع لك من ذنب وما لم يقع ـ أعلمه أنه مغفور له.

      وقيل: المتقدم ما كان قبل النبوة، والمتأخر عصمتك بعدها ، حكاه أحمد بن نصر.

      وقيل: المراد بذلك أمته. و قيل : المراد ما كان عن سهو و غفلة ، و تأويل ، حكاه الطبري، واختاره القشيري. و قيل : ما تقدم لأبيك آدم، وما تأخر من ذنوب أمتك، حكاه السمرقندي و السلمي عن ابن عطاء. وبمثله والذي قبله يتأول قوله : واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات، قال مكي : مخاطبة النبي صلى الله عليه و سلم ها هنا هي مخاطبة لأمته .

      وقيل: إن النبي صلى الله عليه و سلم لما أمر أن يقول : وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ـ سر بذلك الكفار، فأنزل الله تعالى: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر الآية، و بمآل المؤمنين في الآية الأخرى بعدها، قاله ابن عباس، فمقصد الآية: إنك مغفور لك غير مؤاخذ بذنب إن لو كان . قال بعضهم : المغفرة ها هنا تبرئة من العيوب.

      وأما قوله: (ووضعنا عنك وزرك * الذي أنقض ظهرك) ، فقيل : ما سلف من ذنبك قبل النبوة، و هو قول ابن زيد و الحسن، و معنى قول قتادة .

      وقيل: معناه أنه حفظ قبل نبوته منها، و عصم، ولولا ذلك لأثقلت ظهره ، حكى معناه السمرقندي . و قيل: المراد بذلك ما أثقل ظهره من أعباء الرسالة حتى بلغها، حكاه الماوردي، و السلمي. و قيل: حططنا عنك ثقل أيام الجاهلية، حكاه مكي .

      وقيل : ثقل شغل سرك و حيرتك وطلب شريعتك حتى شرعنا ذلك لك، حكى معناه القشيري .

      وقيل المعنى: خففنا عليك ما حملت بحفظنا لما استحفظت، وحفظ عليك .

      ومعنى أنقض ظهرك، أي كاد ينقضه، فيكون المعنى على من جعل ذلك لما قبل النبوة ـ اهتمام النبي صلى الله عليه و سلم بأمور فعلها قبل نبوته، وحرمت عليه بعد النبوة، فعدها أوزار، وثقلت عليه ، وأشفق منها .

      أو يكون الوضع عصمة الله له و كفايته من ذنوب لو كانت لأنقضت ظهره .

      أو يكون من ثقل الرسالة، أو ما ثقل عليه وشغل قلبه من أمور الجاهلية ، وإعلام الله تعالى له بحفظ ما استحفظه من وحيه.

      وأما قوله : (عفا الله عنك لم أذنت لهم) فأمر لم يتقدم للنبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى نهي فيعد معصية، ولا عده الله تعالى عليه معصية ، بل لم يعده أهل العلم معاتبة. وغلطوا من ذهب إلى ذلك ، قال نفطويه: وقد حاشاه الله تعالى من ذلك ، بل كان مخيراً في أمرين، قالوا: و قد كان له أن يفعل ما شاء فيما لم ينزل عليه فيه وحي، فكيف وقد قال الله تعالى : (فأذن لمن شئت منهم) . فلما أذن لهم أعلمه الله بما لم يطلع عليه من سرهم أنه لو لم يأذن لهم لقعدوا، وأنه لا حرج عليه فيما فعل، وليس عفا هنا بمعنى غفر، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق. ولم تجب عليهم قط ، أي لم يلزمكم ذلك.

      و نحوه للقشيري، قال: وإنما يقول العفو: لا يكون إلا عن ذنب ـ من لم يعرف كلام العرب، ومعنى عفا الله عنك  أي لم يلزمك ذنباً.

      قال الداودي: روي أنها تكرمة. وقال مكي: هو استفتاح كلام، مثل أصلحك الله وأعزك. وحكى السمرقندي أن معناه عفاك الله.

       وأما قوله في أسارى بدر : (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم). فليس فيه إلزام ذنب للنبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه بيان ما خص به وفضل من بين سائر الأنبياء، فكأنه قال: ما كان هذا لنبي غيرك، كما قال صلى الله عليه و سلم: أحلت لي الغنائم، ولم تحل لنبي قبلي .

       فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم) [سورة الأنفال الآية : 67].

      قيل: المعنى بالخطاب لمن أراد ذلك منهم، و تجرد غرضه لعرض الدنيا وحده، والاستكثار منها، و ليس المراد بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عليه أصحابه، بل قد روى عن الضحاك أنها نزلت حين انهزم المشركون يوم بدر، واشتغل الناس بالسلب وجمع الغنائم عن القتال، حتى خشي عمر أن يعطف عليهم العدو.

      ثم قال تعالى : (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، فاختلف المفسرون في معنى الآية، فقيل: معناها لولا أنه سبق مني أن لا أعذب أحداً إلا بعد النهي لعذبتكم .

      فهذا ينفي أن يكون أمر الأسرى معصية .

      وقيل : المعنى لو لا إيمانكم بالقرآن ، و هو الكتاب السابق فاستوجبتم به الصفح ـ لعوقبتم على الغنائم. ويزاد هذا القول تفسيراً و بياناً بأن يقال : لو لا ما كنتم مؤمنين بالقرآن ، وكنتم ممن أحلت لهم الغنائم لعوقبتم ، كما عوقب من تعدى.

      وقيل : لولا أنه سبق في اللوح المحفوظ أنها حلال لكم لعوقبتم .

      فهذا كله ينفي الذنب و المعصية، لأن من فعل ما أحل له لم يعص، قال الله تعالى: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا [سورة الأنفال الآية : 69 ].

      وقيل: بل كان صلى الله عليه و سلم قد خير في ذلك، و قد روي عن علي رضي الله عنه، قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فقال: خير أصحابك في الأساري، إن شاءوا القتل، وإن شاءوا الفداء، على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم. فقالوا: الفداء ويقتل منا. وهذا دليل على صحة ما قلناه، وأنهم لم يفعلوا إلا ما أذن لهم فيه، ولكن بعضهم مال إلى أضعف الوجهين مما كان الأصلح غيره من الإثخان والقتل، فعوتبوا على ذلك، وبين لهم ضعف اختيارهم وتصويب اختيار غيرهم، و كلهم غير عصاة ولا مذنبين، وإلى نحو هذا أشار الطبري.

      وقوله صلى الله عليه وسلم في هذه القضية: لو نزل من السماء عذاب ما نجا منه إلا عمر. إشارة إلى هذا من تصويب رأيه ورأي من أخذ بمأخذه ، في إعزاز الدين وإظهار كلمته، وإبادة عدوه، وأن هذه القضية لو استوجبت عذاباً نجا منه عمر ومثله، وعين عمر لأنه أول من أشار بقتلهم ، و لكن الله لم يقدر عليهم في ذلك عذاباً لحله لهم فيما سبق.

      وقال الداودي: والخبر بهذا لا يثبت، ولو ثبت لما جاز أن يظن أن النبي صلى الله عليه و سلم حكم لما لا نص فيه ولا دليل من نص، ولا جعل الأمر فيه إليه، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك.

      وقال القاضي بكر بن العلاء: أخبر الله تعالى نبيه في هذه الآية أن تأويله وافق ما كتبه له من إحلال الغنائم و الفداء، وقد كان قبل هذا فادوا في سرية عبد الله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي بالحكم بن كيسان و صاحبه، فما عتب الله ذلك عليهم، وذلك قبل بدر بأزيد من عام.

      فهذا كله يدل على أن فعل النبي صلى الله عليه و سلم في شأن الأسرى كان على تأويل و بصيرة، و على ما تقدم قبل مثله ، فلم ينكره الله تعالى عليهم ، لكن الله تعالى أراد ـ لعظم أمر بدر و كثرة أسراها ، و الله أعلم ـ إظهار نعمته ، و تأكيد منته ، بتعريفهم ما كتبه في اللوح المحفوظ من حل ذلك لهم، لا على وجه عتاب و إنكار وتذبيب. هذا معنى كلامه"[3] أهـ

      أقول: قال القرطبي المتوفى سنة 671هـ في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: " هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابا من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم. والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان. ولهم هذا الإخبار بقوله "تريدون عرض الدنيا". والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ الفدية. هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره. وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم ينه عنه حين رآه من العريش وإذ كره سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعبد الله بن رواحة، ولكنه عليه السلام شغله بغت الأمر ونزول النصر فترك النهي عن الاستبقاء، ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات. والله أعلم" أهـ

      عود إلى القاضي عياض في الشفا:

      "وأما قوله : (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى) [ سورة عبس الآية : 1 ] .

      فليس له إثبات ذنب له صلى الله عليه و سلم، بل إعلام الله أن ذلك المتصدي له ممن لا يتزكى ، وإن الصواب والأولى ـ لو كشف لك حال الرجلين ـ الإقبال على الأعمى .

      وفعل النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل، وتصديه لذلك الكافر، كان طاعة لله و تبليغاً عنه واستئلافاً له، كما شرعه الله له، لا معصية، ولا مخالفة له.

      وما قصه الله عليه من ذلك إعلام بحال الرجلين وتوهين أمر الكافر عنده والإشارة إلى الإعراض عنه ، بقوله : (وما عليك ألا يزكى) [ سورة عبس الآية : 3 ] . وقيل : أراد بـ [ عبس ]، و [ تولى ] ـ الكافر الذي كان مع النبي صلى الله عليه و سلم ، قاله أبو تمام" أهـ[4]

      أقول: قال القرطبي في جامعه: "الرابعة: قال علماؤنا: ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأن النبي صلى الله عليه وسلم مشغول بغيره، وأنه يرجو إسلامهم، ولكن الله تبارك وتعالى عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصفة؛ أو ليعلم أن المؤمن الفقير خير من الغني، وكان النظر إلى المؤمن أولى وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الأمر الآخر، وهو الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم، وإن كان ذلك أيضا نوعا من المصلحة، وعلى هذا يخرج قوله تعالى: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى" [الأنفال: 67] الآية على ما تقدم. وقيل: إنما قصد النبي صلى الله عليه وسلم تأليف الرجل، ثقة بما كان في قلب ابن مكتوم من الإيمان؛ كما قال: (إني لأصل الرجل وغيره أحب إلي منه، مخافة أن يكبه الله في النار على وجهه).

      الخامسة: قال ابن زيد: إنما عبس النبي صلى الله عليه وسلم لابن أم مكتوم وأعرض عنه؛ لأنه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه، فدفعه ابن أم مكتوم، وأبي إلا أن يكلم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يعلمه، فكان في هذا نوع جفاء منه. ومع هذا أنزل الله في حقه على نبيه صلى الله عليه وسلم: "عبس وتولى" بلفظ الإخبار عن الغائب، تعظيما له ولم يقل: عبست وتوليت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له فقال: "وما يدريك" أي يعلمك "لعله" يعني ابن أم مكتوم "يزكى" بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين، بأن يزداد طهارة في دينه، وزوال ظلمة الجهل عنه."أهـ[5]

      عود إلى ردود القاضي عياض:

      "وأما قصة آدم عليه السلام ، و قوله تعالى : (فأكلا منها) بعد قوله: (ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. و قوله ألم أنهكما عن تلكما الشجرة، و تصريحه تعالى عليه بالمعصية بقوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى)، أي جهل.

      وقيل أخطأ، فإن الله تعالى قد أخبر بعذره بقوله: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ، قال ابن زيد: نسي عداوة إبليس له، وما عهد الله إليه من ذلك بقوله: إن هذا عدو لك ولزوجك الآية. وقيل : نسي ذلك بما أظهر لهما. وقال ابن عباس: إنما سمي الإنسان إنسانا لأنه عهد إليه فنسي .

      وقيل : لم يقصد المخالفة استحلالاً لها ، ولكنهما اغتراً بحلف إبليس لهما : (إني لكما لمن الناصحين) ، وتوهما أن أحداً لا يحلف بالله حانثاً.

      وقد روي عذر آدم بمثل هذا في بعض الآثار. وقال ابن جبير : حلف بالله لهما حتى غرهما ، و المؤمن يخدع. و قد قيل: نسي، ولو ينو المخالفة ، فلذلك قال : ولم نجد له عزما ، وأي قصداً للمخالفة. وأكثر المفسرين على أن العزم هنا الجزم و الصبر.

      وقيل : كان عند أكله سكران ، وهذا فيه ضعف، لأن الله تعالى وصف خمر الجنة أنها لا تسكر، فإذا كان ناسياً لم تكن معصية، وكذلك إن كان ملبساً عليه غالطاً، إذ الاتفاق على خروج الناسي والساهي عن حكم التكليف.

      قال الشيخ أبو بكر بن فورك وغيره: إنه يمكن أن يكون ذلك قبل النبوة، ودليل ذلك قوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى * ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى)، فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان. وقيل: بل أكلها متأولاً، وهو يعلم أنها الشجرة التي نهي عنها، لأنه تأول نهي الله عن شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل: إنما كانت التوبة من ترك التحفظ، لا من المخالفة. وقيل: تأول أن الله لم ينهه عنه أو نهي تحريم.

      فإن قيل: فعلى كل حال فقد قال الله تعالى: وعصى آدم ربه، وقال: فتاب عليه وهدى . وقوله في حديث الشفاعة: و يذكر ذنبه، وقال: إني نهيت عن أكل الشجرة فعصيت، فسيأتي الجواب عنه وعن أشباهه مجملاً آخر الفصل إن شاء الله.

       وأما قصة يونس فقد مضى الكلام على بعضها آنفاً، وليس في قصة يونس نص على ذنب، وإنما فيها : أبق وذهب مغاضباً وقد تكلمنا عليه.

      وقيل: إنما نقم الله عليه خروجه عن قومه فاراً من نزول العذاب .

      وقيل: بل لما وعدهم العذاب ثم عفا الله عنهم قال : و الله لا ألقاهم بوجه كذاب أبداً .

      وقيل: بل كانوا يقتلون من كذب فخاف ذلك .

      وقيل: ضعف عن حمل أعباء الرسالة . و قد يقدم الكلام أنه لم يكذبهم .

      وهذا كله ليس فيه نص على معصية إلا على قول مرغوب عنه .

      وقوله: (إذ أبق إلى الفلك المشحون) قال المفسرون تباعد .

      وأما قوله : إني كنت من الظالمين ، فالظلم وضع الشيء في غير موضعه ، فهذا اعتراف منه عند بعضهم بذنبه، فإما أن يكون لخروجه عن قومه بغير إذن ربه، أو لضعفه عما حمله، أو لدعائه بالعذاب على قومه. و قد دعا نوح بهلاك قومه فلم يؤاخذ.

      وقال الواسطي في معناه : نزه ربه عن الظلم ، وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافاً واستحقاقاً. ومثل هذا قول آدم و حواء: (ربنا ظلمنا أنفسنا)، إذ كانا السبب في وضعهما غير الموضع الذي أنزلا فيه، واخراجهما من الجنة، و إنزالهما إلى الأرض.

       وأما قصة داود عليه السلام فلا يجب أن يلتفت إلى ما سطره فيه الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، و نقله بعض المفسرين. ولم ينص الله على شيء من ذلك ، و لا ورد في حديث صحيح . والذي نص عليه قوله : (وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب * فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) [ سورة ص الآية : 24 ، 25 ] .

      وقوله فيه : أواب. فمعنى فتناه : اختبرناه. وأواب: قال قتادة : مطيع. وهذا التفسير أولى .

      وقال ابن عباس، وابن مسعود: ما زاد داود على أن قال للرجل: انزل لي عن امرأتك وأكفلنيها ، فعاتبه الله على ذلك ، ونبهه عليه ، وأنكر عليه شغله بالدنيا ، وهذا الذي ينبغي أن يعول عليه من أمره.

      وقيل: خطبها على خطبته. و قيل : بل أحب بقلبه أن تستشهد .

      وحكى السمرقندي أن ذنبه الذي استغفر منه قوله لأحد الخصمين : لقد ظلمك ، فظلمه بقول خصمه. وقيل: بل لما خشي على نفسه ، وظن من الفتنة بما بسط له من الملك و الدنيا .

      وإلى نفي ما أضيف في الأخبار إلى داود من ذلك  ذهب أحمد بن نصر، وأبو تمام ، وغيرهما من المحققين. وقال الداودي : ليس في قصة داود وأوريا خبر يثبت، ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم. [ وقيل: إن الخصمين اللذين اختصما إليه رجلان في نعاج غنم، على ظاهر الآية ].

      وأما قصة يوسف وإخوته فليس على يوسف فيها تعقب، وأما إخوته فلم تثبت نبوتهم فليزم الكلام على أفعالهم. وذكر الأسباط وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحاً في كونهم من أهل الأنبياء. قال المفسرون: يريد من نبئ من أنباء الأسباط .

      وقد قيل : إنهم كانوا حين فعلوا بيوسف ما فعلوه صغار الأسنان، ولهذا لم يميزوا يوسف حين اجتمعوا به، و لهذا قالوا : أرسله معنا غداً نرتع و نلعب ، وإن ثبتت لهم نبوة فبعد هذا ، والله أعلم.

      وأما قول الله تعالى فيه: (ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) فعلى طريق كثير من الفقهاء المحدثين أن هم النفس لا يؤاخذ به، وليس سيئة، لقوله صلى الله عليه و سلم ـ عن ربه : [ إذا هم عبدي بسيئة فلم يعلمها كتبت له حسنة ]، فلا معصية في همه إذاً .

      وأما على مذهب المحققين من الفقهاء والمتكلمين فإن الهم إذا وطنت عليه النفس سيئة. وأما ما لم توطن عليه النفس من همومها و خواطرها فهو المعفو عنه.

      هذا هو الحق، فيكون ـ إن شاء الله ـ هم يوسف من هذا، ويكون قوله :( وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم) [ سورة يوسف الآية : 53 ] .

      (أي) ما أبرئها من هذا الهم، أو يكون ذلك منه على طريق التواضع والاعتراف بمخالفة النفس لما زكي قبل و برىء ، فكيف وقد حكى أبو حاتم عن أبي عبيدة ـ أن يوسف لم يهم، وأن الكلام فيه تقديم و تأخير، أي: ولقد همت به، ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، و قد قال الله تعالى ـ عن المرأة: (لقد راودته عن نفسه فاستعصم). و قال تعالى : (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) . قال تعالى : (وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي) الآية. قيل في ربي الله تعالى . و قيل : الملك. وقيل : هم بها، أي بزجرها ووعظها وقيل هم بها، أي غمها امتناعه عنها. وقيل هم بها: نظر إليها .

      وقيل هم بضربها ودفعها. وقيل هذا كله كان قبل نبوته.

      وقد ذكر بعضهم: ما زال النساء يملن إلى يوسف ميل شهوة حتى نبأه الله، فألقى عليه هيبة النبوة، فشغلت هيبته كل من رآه عن حسنه. وأما خبر موسى صلى الله عليه و سلم مع قتيله الذي وكزه فقد نص الله تعالى أنه من عدوه، قال: كان من القبط الذين على دين فرعون. ودليل السورة في هذا كله أنه قبل نبوة موسى . وقال قتادة: وكزه بالعصا، ولم يتعمد قتله، فعلى هذا لا معصية في ذلك.

      و قوله: (هذا من عمل الشيطان). وقوله: (ظلمت نفسي فاغفر لي) قال ابن جريح: قال ذلك من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر.

      وقال النقاش: لم يقتله عن عمد مريداً للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمة، قال: وقد قيل: إن هذا كان قبل النبوة، وهو مقتضى التلاوة.

      وقوله تعالى ـ في قصته: وفتناك فتونا، أي ابتليناك ابتلاء بعد ابتلاء. قبل في هذه القصة وما جرى له مع فرعون. وقيل: إلقاؤه في التابوت واليم ، وغير ذلك.

      وقيل: معناه أخلصناك إخلاصاً، قاله ابن جبير ومجاهد، من قولهم: فتنت الفضة في النار إذا خلصتها. وأصل الفتنة معنى الاختبار، وإظهار ما بطن، إلا أنه استعمل في عرف الشرع في اختبار أدى إلى ما يكره. وكذلك ما روي في الخبر الصحيح ، من ان ملك الموت جاءه فلطم عينه ففقأها..الحديث .. ليس فيه ما يحكم به على موسى بالتعدي وفعل ما لا يجب له، إذ هو ظاهر الأمر، بين الوجه، جائز الفعل، لأن موسى دافع عن نفسه من أتاه لإتلافها ، و قد تصور به في صورة آدمي ، و لا يمكن أنه علم حينئذ أنه ملك الموت ، فدافعه عن نفسه مدافعة أدت إلى ذهاب عين تلك الصور التي تصور له فيها الملك امتحاناً من الله ، فلما جاءه بعد ، وأعلمه الله تعالى أنه رسوله إليه استسلم. وللمتقدمين و المتأخرين على هذا الحديث أجوبة هذا أسدها عندي، وهو تأويل شيخنا الإمام أبي عبد الله المازري. وقد تأوله قديماً ابن عائشة وغيره على صكه و لطمه بالحجة ،  فقء عين حجته ، وهو كلام مستعمل في هذا الباب في اللغة معروف.

      وأما قصة سليمان وما حكى فيها أهل التفاسير من ذنبه وقوله : (ولقد فتنا سليمان) ، فمعناه ابتلينا، و ابتلاؤه: ما حكي عن النبي صلى الله عليه و سلم انه قال : لأطوفن الليلة على مائة امراة أو تسع وتسعين كلهن يأتين بفارس يجاهد في سبيل الله. فقال له صاحبه : قل إن شاء الله ، فلم يقل . فلم تحمل منهم إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل . قال النبي صلى الله عليه و سلم : والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله .

      قال أصحاب المعاني : والشق هو الجسد الذي ألقى على كرسيه حين عرض عليه ، وهي عقوبته و محنته. و قيل بل مات فألقي على كرسيه ميتاً. وقيل : ذنبه حرصه على ذلك و تمنيه.

      وقيل: لأنه لم يستثن لما استغرقه من الحرص ، و غلب عليه من التمني.

      وقيل: عقوبته أن سلب ملكه، و ذنبه أن احب بقلبه أن يكون الحق لأختانه على خصمهم .

      وقيل : أوخذ بذنب قارفه بعض نسائه. و لا يصح ما نقله الإخباريون من تشبه الشيطان به ، وتسلطه على ملكه تعالى و تصرفه في في أمته بالجور في حكمه، لأن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا، و قد عصم الأنبياء من مثله. وإن سئل : لم لم يقل سليمان في القصة المذكورة : إن شاء الله فعنه أجوبة:

      أحدها : ما روي في الحديث الصحيح أنه نسى أن يقولها ، و ذلك لينفذ مراد الله تعالى .

      و الثاني : أنه لم يسمع صاحبه و شغل عنه .

      و قوله : (وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي) . لم يفعل هذا سليمان غيره على الدنيا و لا نفاسة بها ، و لكن مقصده في ذلك ـ على ما ذكره المفسرون ـ ألا يسلط عليه أحد كما سلط عليه الشيطان الذي سلبه إياه مدة امتحانه على قول من قال ذلك .

      و قيل : بل أراد أن يكون له من الله فضيلة و خاصة يختص بها كاختصاص غيره من أنبياء الله و رسله بخواص منه.  وقيل : ليكون ذلك دليلاً و حجة على نبوته ، كإلانة الحديد لأبيه، و إحياء الموتى لعيسى، و اختصاص محمد صلى الله عليه و سلم بالشفاعة ، و نحو هذا.

      وأما قصة نوح عليه السلام فظاهرة العذر، وإنه أخذ فيها بالتأويل وظاهر اللفظ، لقوله تعالى : (وأهلك)، فطلب مقتضى هذا اللفظ، وأراد علم ما طوي عليه من ذلك ، لا أنه شك في وعد الله تعالى، فتبين الله عليه أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم لكفره وعمله الذي هو غير صالح، وقد أعلمه أنه مغرق الذين ظلموا، و نهاه عن مخاطبته فيهم ، فووخذ بهذا التأويل ، وعتب عليه، وأشفق هو من إقدامه على ربه لسؤاله ما لم يؤذن له في السؤال فيه، و كان نوح ـ فيما حكاه النقاش لا يعلم بكفر ابنه.  و قيل في الآية غير هذا ، و كل هذا لا يقضي على نوح بمعصية سوى ما ذكرنا من تأويله وإقدامه بالسؤال فيما لم يؤذن له فيه، ولا نهى عنه.

      وما روي في الصحيح من أن نبياً قرصته نملة فحرق قرية النمل، فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح ... فليس في هذا الحديث أن هذا الذي أتى معصية، بل فعل ما رآه مصلحة وصواباً بقتل من يؤذي جنسه، و يمنع المنفعة مما أباح الله .

      ألا ترى أن هذا النبي كان نازلاً تحت الشجرة، فلما آذته النملة تحول برجله عنها مخافة تكرار الأذى عليه و ليس فيما أوحى الله إليه ما يوجب معصية ، بل ندبه إلى احتمال الصبر وترك التشفي ، كما قال تعالى : (ولئن صبرتم لهو خير للصابرين)، إذا ظاهر فعله إنما كان لأجل أنها آذته هو في خاصته ، فكان انتقاماً لنفسه، و قطع مضرة يتوقعها من بقية النمل هناك، و لم يأت في كل هذا أمراً نهي عنه ، فيعصى به، و لا نص فيما أوحى الله إليه بذلك ، و لا بالتوبة والاستغفار منه. و الله أعلم" أهـ[6]

      الرد على شبهة أن القرآن صرح بمعصية آدم:

      أجاب على ذلك أيضاً القاضي عياض في الشفا قائلاً: "فإن قلت : فإذا نفيت عنهم صلوات الله عليهم الذنوب و المعاصي بما ذكزته من اختلاف المفسرين و تأويل المحققين فما معنى قوله تعالى : (وعصى آدم ربه فغوى) ، و ما تكرر في القرآن والحديث الصحيح من اعتراف الأنبياء بذنوبهم و توبتهم واستغفارهم ، و بكائهم على ما سلف منهم ، وإشفاقهم. و هل يشفق ويتاب و يستغفر من لا شيء ؟.

       فاعلم ـ و فقنا الله و إياك ـ أن درجة الأنبياء في الرفعة و العلو و المعرفة بالله ، و سنته في عباده و عظم سلطانه، و قوة بطشه ، مما يحملهم على الخوف منه جل جلاله، والإشفاق من المؤاخذة بما لا يؤاخذ به غيرهم ، وأنهم في تصرفهم بأمور لم ينهوا عنها، ولا أمروا بها، ثم أخذوا عليها، وعوتبوا بسببها، أو حذروا من المؤاخذة بها ، و أتوها على وجه التأويل أو السهو، أو تزيد من أمور الدنيا المباحة خائفون و جلون، وهي ذنوب بالإضافة إلى علي منصبهم ، و معاص بالنسبة إلى كمال طاعتهم، لا أنها كذنوب غيرهم و معاصيهم ، فإن الذنب مأخوذ من الشيء الدني الرذل، و منه ذنب كل شيء أي آخره . و أذناب الناس رذالهم ، فكأن هذه أدنى أفعالهم ، و أسوأ ما يجر ي من أحوالهم لتطهيرهم و تنزيههم ، و عمارة بواطنهم و ظواهرهم بالعمل الصالح، والكلم الطيب ، والذكر الظاهر و الخفي ، والخشية الله ، و إعظامه في السر و العلانية ، وغيرهم يتلوث من الكبائر و القبائح و الفواحش ما تكون بالإضافة إليه هذه الهنات في حقه كالحسنات ، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين، أي يرونها بالإضافة إلى علي أحوالهم كالسيئات. وكذلك العصيان الترك و المخالفة ، فعلى مقتضى اللفظة كيفما كانت من سهو أو تأويل فهي مخالفة و ترك. قوله تعالى: غوى، أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها ، والغي: الجهل. و قيل: أخطأ ما طلب من الخلود ، إذ أكلها و خابت أمنيته.

      وهذا يوسف عليه السلام قد أوخذ بقوله لأحد صاحبي السجن: (اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين) [ سورة بوسف  الآية : 42 ] .

      قيل: أنسي يوسف ذكره الله . و قيل : أنسي صاحبه أن يذكره لسيده الملك ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا كلمة يوسف مالبث في السجن ما لبث .

      قال ابن دينار : لما قال ذلك يوسف قيل له : اتخذت من دوني وكيلا ، لأطيلن حبسك . فقال : يارب، أنسى قلبي كثر ة البلوى. وقال بعضهم : يؤاخذ الأنبياء بمثاقيل الذر ، لمكانتهم عنده ، ويجاوز عن سائر الخلق لقلة مبالاته بهم في أضعاف ما أتوا به من سوء الأدب .

      وقد قال المحتج للفرقة الأولى على سياق ما قلناه : إذا كان الأنبياء يؤاخذون بهذا مما لا يؤاخذ به غيرهم من السهو و النسيان ، و ما ذكرته ، و حالهم أرفع فحالهم إذًا في هذا أسوأ حالاً من غيرهم.

      فاعلم ـ أكرمك الله ـ أنا لا نثبت لك المؤاخذة في هذا على حد مؤاخذة غيرهم ، بل نقول: إنهم يؤاخذون بذلك في الدنيا، ليكون ذلك زيادة في درجاتهم ، ويبتلون بذلك، ليكون استشعارهم له سبباً لمنماة رتبهم، كما قال: ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى [ سورة طه الآية :122] .

      قال لداود: فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ سورة ص الآية: 25 ] .

      قال بعد قول موسى : (تبت إليك) : (إني اصطفيتك على الناس) .

      و قال بعد ذكر فتنة سليمان و إنابته : (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب * والشياطين كل بناء وغواص * وآخرين مقرنين في الأصفاد * هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب * وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب) [ سورة ص الآية : 36 ، 40 ] .

      وقال بعض المتكلمين : زلات الأنبياء في الظاهر زلات ، وفي الحقيقة كرامات وزلف ، وأشار إلى نحو مما قدمناه. وأيضاً فلينبه غيرهم من البشر منهم، أو ممن ليس في درجتهم بمؤاخذتهم بذلك ، فيستشعروا الحذر، ويعتقدوا المحاسبة ليلتزموا الشكر على النعم، ويعدوا الصبر على المحن بملاحظة ما وقع بأهل هذا النصاب الرفيع المعصوم ، فكيف بمن سواهم، ولهذا قال صالح المري : ذكر داود بسطة للتوابين.

      قال ابن عطاء: لم يكن ما نص الله تعالى عليه من قضية صاحب الحوت نقصا له، و لكن استزادة من نبينا صلى الله عليه و سلم .

      وأيضاً فيقال لهم : فإنكم و من وافقكم تقولون بغفران الصغائر باجتناب الكبائر . ولا خلاف في عصمة الأنبياء من الكبائر، فما جوزتم من وقوع الصغائر عليهم هي مغفورة على هذا ، فما معنى المؤاخذة بها إذاً عندكم و خوف الأنبياء و توبتهم منها، و هي مغفورة لو كانت ؟ فما أجابوا به فهو جوابنا عن المؤاخذة بأعمال السهو و التأويل .

      و قد قيل : إن كثرة استغفار النبي صلى الله عليه و سلم و توبته ، وغيره من الأنبياء على و جه ملازمة الخضوع و العبودية ، والاعتراف بالتقصير، شكراً الله على نعمه، كما قال صلى الله عليه و سلم وقد أمن من المؤاخذة مما تقدم و تأخر: أفلا أكون عبداً شكوراً. وقال : إني أخشاكم الله ، و أعلمكم بما أتقي .

      قال الحارث بن أسد: خوف الملائكة والأنبياء خوف إعظام و تعبد الله ، لأنهم آمنون . وقيل: فعلوا ذلك ليقتدي بهم، و تستن بهم أممهم ، كما قال صلى الله عليه و سلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً. و أيضاً فإن في التوبة و الاستغفار معنى آخر لطيفاً أشار إليه بعض العلماء، وهو استدعاء محبة الله ، قال الله تعالى: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) [ سورة البقرة الآية : 222 ] .

      فإحداث الرسل والأنبياء الاستغفار والتوبة والإنابة والأوبة في كل حين ـ استدعاء لمحبة الله ! والاستغفار فيه معنى التوبة ، وقد قال الله لنبيه بعد أن غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار [ سورة التوبة الآية : 117 ] .

      وقال تعالى : فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا [ سورة النصر الآية : 3 ]. أهـ[7]

      صفوة القول

      بعد هذا التطواف حول أقوال العلماء بشأن عصمة الأنبياء قال صاحب الشفا: "قد استبان لك أبها الناظر بما قررناه ، ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه و سلم عن الجهل بالله وصفاته، وكونه على حالة تنافي العلم بشيء من ذلك كله بعد النبوة عقلاً وإجماعا ، وقبلها سمعاً و نقلاً ، ولا بشيء مما قرره من أمور الشرع، و أداه عن ربه من الوحي قطعاً عقلاً وشرعاً، وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله وأرسله قصداً أو غير قصد، واستحالة ذلك عليه شرعاً وإجماعاً، و نظراً وبرهاناً، وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعاً، وتنزيهه عن الكبائر إجماعاً وعن الصغائر تحقيقاً، وعن استدامة السهو والغفلة، واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة، وعصمته في كل حالاته، من رضاً وغضب، وجد ومزح، فيجب عليك أن تتلقاه باليمين، وتشد عليه يد الضنين وتقدر هذه الفصول حق قدرها،  تعلم عظيم فائدتها وخطرها، فإن من يجهل ما يجب للنبي صلى الله عليه وسلم، أو يجوز له، أو يستحيل عليه، ولا يعرف صور أحكامه، لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه، ولا ينزهه عما لا يجب أن يضاف إليه ، فيهلك من حيث لا يدري، و يسقط في هوة الدرك الأسفل من النار حديث إذ ظن الباطل به، واعتقاده ما لا يجوز عليه يحل بصاحبه دار البوار. ولهذا ما احتاط عليه السلام على الرجلين اللذين رأياه ليلاً، وهو معتكف في المسجد مع صفية ، فقال لهما: إنها صفية. ثم قال لهما: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، و إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً فتهلكا.

      هذه ـ أكرمك الله ـ إحدى فوائد ما تكلمنا عليه في هذه الفصول، ولعل جاهلاً لا يعلم بجهله إذا سمع شيئاً منها برى أن الكلام فيها جملة من فضول العلم ، وأن السكوت أولى. وقد استبان لك أنه متعين للفائدة التي ذكرناها.

      وفائدة ثانية يضطر إليها في أصول الفقه، و تبني عليها مسائل لا تعد من الفقه، يتخلص بها من تشغيب مختلفي الفقهاء في عدة منها، وهي الحكم في أقوال النبي صلى الله عليه و سلم وأفعاله، وهو باب عظيم ، وأصل كبير من أصول الفقه، ولا بد من بنائه على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في إخباره وبلاغه، وأنه لا يجوز عليه السهو فيه تعالى وعصمته من المخالفة في أفعاله عمداً، وبحسب اختلافهم في وقوع الصغائر وقع خلاف في امتثال الفعل ، بسط بيانه في كتب ذلك العلم.

       وفائدة ثالثة يحتاج إليها الحاكم والمفتى فيمن أضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من هذه الأمور، ووصفه بها، فمن لم يعرف ما يجوز وما يمتنع عليه، و ما وقع الإجماع فيه والخلاف، كيف يصمم في الفتيا في ذلك، ومن أين يدري ؟ هل ما قاله فيه نقص أو مدح ، فإما أن يجترىء على سفك دم مسلم حرام، أو يسقط حقاً، أو يضيّع حرمةً للنبي صلى الله عليه وسلم." أهـ[8] 

      وأخيراً: هذا ما حضرني للإجابة على هذا السؤال أسأل الله أن أكون وفقت في توضيح الإجابة وبالله التوفيق.

      مركز المقريزي للدراسات التاريخية

      hanisibu@hotmail.com

      مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية

      الأمين العام المساعد للتيار السني بمصر

      18 ربيع أول 1434هـ

      30 يناير 2013

       


      [1] القاضي عياض: الشفا بتعريف حقوق المصطفى/دار الفكر/بيروت/1415هـ/ج2 ص129،ص130.

      [2] القاضي عياض: الشفا/المرجع السابق/ج2 ص136، ص137

      [3] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن/ تحقيق د.محمد إبراهيم الحفناوي ود.محمود حامد عثمان/دار الحديث القاهرة/ط2/1416هـ/ج8 ص48.

      [4] القاضي عياض: المرجع السابق/ج2 ص141:ص142.

       

      [5] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن/ج19 ص203 204

      [6] القاضي عياض: الشفا/ج2 ص142:ص149.

       

      [7]  المرجع السابق ج2 ص149:ص152.

      [8] السابق ج2ص152:ص154.