إزالة الصورة من الطباعة

فَتوى الرَيسونيّ وآخرين .. في تَسهيل أمرِ الرِدّة عن الدين

مقال آخر من سلسلة المقالات التي خَرَجَ بها علينا علماء "التجديد" الجُدُد، هو مقال د.أحمد الريسوني (المنشور على موقع أون إسلام)، وموضوعه أثرُ الإكراه في عدمِ وجوبِ حدّ الردة في الإسلام. وأقول الحق، أنه خلافاً لمشايعيه في مسائل التجديد المحرّف، كفهمى هويدي ومحمد سليم العوا، قد أجاد في حَبْكِ الدليل، ورجع إلى مصادر معتبرة في الشرع حين مناقشته للمسألة، لكنه جانب الحق، ونفر عن الصواب فيما وصل اليه بهذا النظر.

وقد ناقشتُ في مقال سابق مسألة الإسلام الجديد مقابل مفهوم التجديد في الإسلام (http://www.tariqabdelhaleem.com/coldetails.php?id=456) فليرجع له من شاء.

 والأخطاء الشرعية والعقلية في هذا التخريج والإستدلال كثيرة، تعود إلى مبادئ وأصولَ شرعية، وإلى قواعد عقلية، سنحاول إستعراض بعضها في حديثنا التالي. فقد بنى الريسونيّ دليله على قاعدة شرعِية كُلية، وهي إبطال الأعمال والنيات المتعلقة بالإكراه، ومن ثم فإن "المكرَه على الكفر ليس بكافر، والمكره على الردة ليس بمرتد. وهكذا فالمكره على الإيمان ليس بمؤمن، والمكره على الإسلام ليس بمسلم. ولن يكونَ أحدٌ مؤمنا مسلما إلا بالرضا الحقيقي"اهـ

 وفي هذا الإستدلال مغالطة فاحشة، إذ إن مفهوم المخالفة الذي إعتمده الريسونيّ لا يسلم له إلا في حكم الآخرة. فقوله "وهكذا فالمكره على الإيمان ليس بمؤمن" لا ريب في صحته، ولكن الحديث ليس عن إيمان المرتد حقيقة، فهو مرتدٌ لا يَثبت له إيمانٌ قطعاً، لكنّ الحديث في إعلانه الردّة في الدنيا، وهو مدارُ العقوبة، لا أنه كافر أو غير كافر حقيقة، فالمنافقون كان يعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يُؤمر بقتلهم إذ مدار العمل في الدنيا على الظَاهر، والله يتولى السَرائر من هنا فإن مناقشة هذا الأمر من باب الإكراه، رغم جاذبيته، لا أساس له، ولا يصح كمدخل لهذه القضية إبتداءاً. وهو ما ينقض مناقشة الرَيسونيّ من قواعدها.

ثم حين ناقش الريسونيّ ما ذكره بعض العلماء من نسخ آية الإكراه "لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ " البقرة 256، أتعب نفسه في إثبات أنها ليست بمنسوخة، وإنها كلية شرعية لا يصحّ ما يخالفها، وهو الحق، لكنه لم يسأل نفسه: لِمَ لجأ هؤلاء العلماء إلى إفتراض النسخ؟ والجواب أنهم لم يجدوا بدّا لهم في وجه فيضِ الأدلةِ التي تُحتّم قتلَ المرتد، وأسباب نزول الآية كما قال ابن جرير: "حدثنا ابن يسار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" وقد رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به ومن وجوه أخر عن شعبة به نحوه وقد رواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به وهكذا ذكر مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي والحسن البصري وغيرهم أنها نزلت في ذلك وقال محمد بن إسحق عن محمد بن أبي محمد الجرشي عن زيد بن ثابت عن عكرمة أو عن سعيد عن ابن عباس قوله "لا إكراه في الدين" قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني كان له ابنان نصرانيان وكان هو رجلا مسلما فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم - ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية فأنزل الله فيه ذلك" بن كثير. وهو بيّن في أنها تعنى إكراه الكافر الأصليّ على الإسلام.

ومع التسليم بأن القاعدة عامة كلية، إلا إنها عامة كلية، في مناط من أراد أن يُكره الكافر على الإسلام، وليس لها عمل فيمن أسلم ثمّ إرتدّ. ومن ثمّ فقد أدخل الريسونيّ حكم المرتد تحت قاعدة كلية لا ينتمى لها، فالمسلمون لا يهمهم مصير المرتد في الآخرة، وإنما يتعاملون معه في الدنيا على أنه يفُتّ في عضد الجماعة المسلمة ويهز بناء المجتمع من قواعده، مقارنة بحكم من يقترف الخيانة العظمى في الأحكام الوضعية، وهو ما قرره بن تيمية في معرض مناقشة قول أحمد في إباحة قتال المحاربين من أنّ: "وأن المرتد فالمبيح عنده هو الكفر بعد الإيمان، وهو نوع خاص من الكفر، فإنه لو لم يُقتل ذلك لكان الداخل في الدين يخرج منه – يقصد دون عقاب – فقتله حفظ لأهل الدين وللدين" مجموع الفتاوى ج20ص102. ومن هنا يتكرر خَطأ الريسونيّ ومن شاركَه في مثلِ هذه الفتوى، من أنه يناقش هذا الحكم من باب الإكراه، وهو ليس منه لا جملةً ولا تفصيلاً.

من هنا فإنه لا مشاحة في أنّ قاعدة عدم الإكراه عامّة مُحكمة وغير قابلة للتخصيص، وإنما الأمر هو أنّ حدّ الردة لا علاقة له بهذه القاعدة، ولا يدخل تحتها، فإن من ارتضى العودة إلى الكفر قد ارتضى الردة غير مكرهاً وارتضى الإعلان عنها وقَبِل بحكمها الذى ارتضته الجماعة المسلمة بتوجيه رسولها صلى الله عليه وسلم، فهو ليس بمُكَرَه في ذلك، بل راضٍ مُختار، ولا داعٍ هنا للتعلل بقضايا الأعيان وحكايات الأحوال، التي ذكرها الشاطبيّ في كتاب العموم من موسوعته الأصولية "الموافقات"، للخروج من دلالة الأحاديث على صحة قتل المرتد لما ذكرنا، بل هي أليق بقاعدة أن "التكفير والقتل لترك المأمور به أعظم منه لفعل المنهي عنه" كما قرّر بن تيمية، وليس أكبر من الإسلام مأمور به وبعدم تركه.

كذلك فإن الكافر الأصلي لا يقتل في الإسلام، وهو مقتضى "لا إكراه في الدين"، وهو مناط القاعدة الصحيح، لا من إرتدّ عن الإسلام، وبدّل دينه، وقد جاء فيه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فإقتلوه"، والذي لم يُورِده الريسونيّ غفلة أو تدليساً، وهو نصّ في المسألة، إلا إذا ذهب الريسونيّ مذهب المعتزلة والرافضة ومن تابعهم من متكلمي عصرنا كمحمد عمارة، في اعتبار أن الأحاديث لا حجة فيها إلا المتواتر منها، وهو ما يظهر أن الريسونيّ قد تجنّب الإفصاح عنه لما عَرَفَ من وَبال ذلك على من يراه.

ثم، ما أورد الريسونيّ من تفسير لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: قال"لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلـه إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة" البخارى ومسلم والترمذى. من ربطه وصف التارك لدينه بوصف التارك للجماعة، فهو نتيجة أنه سبق إلى نتيجة رفض حكم المرتد أولا ثم علل على أساس هذا الفهم ما جاء من أدلة. فأولا، الصفة التي جاءت في الحديث جاءت في صيغة صفتان لموصوف واحد، في مناط واحد، فلا يصح أن يُفهم منها أنً التارك لدينه في الحديث، غير المفارق للجماعة بل إن التارك لدينه مفارق للجماعة بطريق اللزوم، إذ الدين هو الولاء لله ولرسوله، وهو من أبواب التوحيد، فمن خلع الإسلام فقد خلع الولاء، ومن خلع الولاء للإسلام فقد فارق الجماعة، هكذا بكل بساطة وبدون تعقيد أو تقعيد، وقد قال بن تيمية في بيان أنّ القتل هو للمرتد عامة دون أن يكون محارباً: "وأيضا، فالمرتد يقتل لكفره بعد إيمانه، وإن لم يكن محارباً" مجموع الفتاوى ج20، ص99.

ثمّ، قد ثَبُت إجماعُ علماءِ الأمة، المعتدّ بإجماعهم، في كافة العُصور من عَهد الصَحابة، إلى عَصر التخلّف الديني الذي نعيشه، على أنّ المُرتد عقوبتُه القتل. بل لم يذكره أحد من محققى العلماء و الأئمة في باب الإكراه، ومن أراد فليراجع على سبيل المثال باب وعدم إعتبار هذا الإجماع فيه تعدٍ على جمع لا حصر له من العلماء، ورميهم بالجهالة، من حيث أنّ الأمر الذي عرضه الريسونيّ ليس متعلقاً بمناط، بل هي تأصيل لحكم شرعيّ بناءاً على قاعدة شرعية، كأنهم لم يرونها على مرّ هذه القرون! كما أن الريسونيّ لم يتعلل في هذه المخالفة بما تعلل به القرضاوى وسليم العوا في حُكمِ ديّة المَرأة من أنّ هذه المَسألة لم تكن مُلِحّة لدي هؤلاء العلماءِ كافة!

 وبالله التوفيق