إزالة الصورة من الطباعة

الديموقراطية .. وحربها على الإسلام!

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد

فإن الموضوع الذي نحن بصدده، ليس جديدا في ذاته، فقد تحدث الكثير عن حرب الغرب الصهيو-صليبي على الإسلام كدين يعتقده أكثر من ربع سكان الأرض، ظاهراً!

لكن الجديد هنا، هو ما يحمله عنوان الموضوع من مفارقة، هي في ذاتها دليل على فشل الديموقراطية وكشف عوارها، وبيان دورها الحقيقي في التلاعب بالشعوب.

الديموقراطية، كأيديولوجية سياسية تطبيقية ، تقدم حلاً للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وكيفية اختيار الحاكم المشرّع في حياة من ارتضوها، قدمها أول أمرها الفيلسوف البريطاني الأشهر جون لوك في القرن السابع عشر. وهي شديدة الصلة بالأيديولوجية السياسية التي تندرج الديموقراطية تحت جناحها، ونعني بها "الليبرالية" Liberalism!

والليبرالية تصدر أساساً من مبدأ الحرية، حرية الاختيار في كل أمر من الأمور، وتدير بموجب مبدئها تفاصيل الممارسات الاجتماعية في حياة من ارتضوها فكراً. لكنها في ذات الوقت الذي تقدم فيه الديموقراطية حلاً، فإنها تعترف، في مبادئها بأن الحكومة، وإن بنيت على الديموقراطية، فإنها في نهاية الأمر، قد تكون قيدا وخطرا على حرية الأفراد (1). 

فالعلاقة هنا بين النمط الاجتماعي والنظرية السياسية واضحة قوية لا انفصام فيها. وحين يتحدث منظرو الديموقراطية عن احتمال كمون خطر في الممارسة في الحكومات الديموقراطية، إنما يعنون بهذا تراكم البيروقراطيات التي تمثل قيودا، في آخر الأمر، على المواطنين.

أما نحن، فننظر للمسألة من منظور آخر، يرتبط بأيدلوجية الإسلام، كنظام للحياة، لا "كدين" للعبادة وفي دورها كالنصرانية وغيرها. الإسلام، كما هو معروف، نظرية متكاملة تربط كافة أنشطة الإنسان، عقلية وعملية، أدبية وعلمية، سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وعمرانية، فتخاطب عقله وروحه وغريزته جميعا، لترسم لها كلها مساراً في الحياة، ينظم علاقاتها بينها وبين نفسها، وبينها وبين ربها، وبينها وبين من حولها، وما حولها. فهي تنظم العلاقة بين العبد والرب، والعبد والعبد، والحاكم والمحكوم، على أتم طريقة يمكن للحي، الذي يعيش في دنيا هي أبعد ما تكون عن الكمال في شبكة علاقاتها بسبب البشر أنفسهم، يمكن للحي أن يعيش بها على أفضل وجه ممكن. وتقوم هذه الأيديولوجية على مبادئ معروفة، الإيمان بوجود خالق حكيم عليم للإنسان، وأنه وضعه على هذه الأرض اختبارا وبلاء، وأن الإنسان راجع إلى به ليُسأل عما فعل.

ذلك هو حجر الأساس في أيديولوجية الإسلام. على النقيض من أيديولوجية الليبرالية التي تضع الإنسان وحده في الكون، ثم تترك له حرية اختيار ما يراه في شأن الخالق، فينكره إن أراد، ويعبده إن أراد. يتخذه حجراً حينا، وبشرا حينا، وبقرا حيناً، كما يشاء، أو يجعله وهم من الخيالات استحدثه العقل البشري ليريحه من عناء الفكر!

وفي كلا الأيديولوجيتين، تجد المبادئ الأخلاقية، وطرق التعامل والتصرف في كل دقيقة من دقائق الحياة الاجتماعية، مرسومة مقررة. الفرق الأساسي، هو أن تلك المبادئ العامة ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، بينما هي متغيرة مضطربة تتغير وتتبدل في الأيديولوجية الليبرالية حسب اختلاف الجماعة والعرف والزمان، لا ثبات لها على الإطلاق. فما هو ممنوع قبيح في أيديولوجية الإسلام ممنوع قبيح دائما وأبدا، وما هو واجب حسن، فهو واجب حسن دائما وأبدا.

بينما في الليبرالية، تجد المرأة زمنا هي أصل الفساد في الكون، ملعونة أينما كانت، نُحرق علنا بدعوى السحر، ثم تجدها إلهة على الناس هي المقدمة وهي المقرِرَة! تجد اللواط مذموما ممنوعا ساعة ثم تجده مباحا مطلوبا حينا آخر. فلا أساس لشيء قبيح أو حسن، إلا حسب هوى "الجمهور" ومزاجه، في زمان ومكان.

وهم يطلقون على هذا مبدأ الحرية. حرية الاختيار المطلقة التي تفجر، حسبهم، طاقات الإنسان، لتقديم الأفضل.

فإذا رجعنا إلى عنوان المقال، وحاكمنا الليبرالية حسب مصدرها الرئيس وقاعدتها الركينة، الحرية، حرية الاختيار، وجدنا إنهم فيها كاذبون منافقون، لا يفعلون ذلك إلا مع اتجاهات معينة، لا تتعارض إجمالا مع منطقهم وأيديولجيتهم في النتيجة، وإن تعارضت شكلا في الممارسة. حينئذ تراهم يحاربونها حربا هينة لينة، لا يُقصد بها القضاء عليها، بل الحد من أتباعها لحماية عدد أتباعهم، وحتى يكون هناك "العدو" لضبط بوصلة حركة الحكومات "الديموقراطية"! وخير مثال هو روسيا وإيران، دون دخول في التفاصيل.

ونتساءل، أين مبدأ حرية الاختيار الليبرالي من أولئك الذين اختاروا أيديولوجية الإسلام، ورضوا بها؟! أين الممارسة الديموقراطية، وليدة الليبرالية في حفظ حق اختيار الحكومات للشعب، دون ترجيح كفة على كفة بالمعونة الخسيسة كما يفعلون مع حكام العرب؟!

وإن رجعنا إلى الفقرة الأسبق، والتي قلنا فيها إن ادعاءهم هو أن حرية الاختيار المطلقة التي تفجر، حسبهم، طاقات الإنسان، لتقديم الأفضل، فإن هذا خطأ محض ومغالطة كونية تاريخية، بل وجريمة ضد الإنسانية جمعاء!

فإن ما فجرت الليبرالية في أوروبا منذ القرن السابع عشر، بل وقبله، إلا الاحتلال وسرقة الشعوب، ونهب ثرواتها، ومنعها من حرية الاختيار لنفسها بالتمام واستعبادها. وأنتجت الليبرالية في أمريكا الشمالية كلها جمع من السفاحين الذين قضوا على السكان الأصليين، فأبادوهم بكل وحشية واستولوا على أرضهم، تماما كما يفعل مواليهم من بني صهيون اليوم في فلسطين.

ومن الناحية الأخلاقية، فحدث ولا حرج، عن انتشار الزنا والعهر والمخدرات والقضاء على عقول شبابهم بالألعاب والتخييلات والأبطال الخارقة الموهومة، اللواط باسم المساواة، وسيطرة النساء العاهرة على المجتمعات باسم النسوية، وكافة أنواع الخراب الاجتماعي، تجدها ممثلة في النظام الليبرالي. فهم يقودون العالم إلى دمار شامل، يحول البشر إلى عبيد مخدرين مهلوسين لطبقة من الصهاينة تملك أمرهم كله على قمة الهرم الحاكم. والكاتب ليس من هواة ولا مروجي نظرية المؤامرة، لكن في كل نظرية وإن فسدت، جوانب من الحق، وإلا لم تجد بينها أتباعا من الخلق. فإن مؤامرة الليبرالية أوضح من أن تحتاج إلى دليل خاص إلا لأعمى البصر والبصيرة. لو كانوا يؤمنون بما يعلنون، لسمحوا بكل الأيديولوجيات أن تنتشر وتدعو أتباعها، فإن الأمر يعود آخر الأمر للغالبية التي تقرر نهج الحياة التي ترتضيه.

لكن الخطر الذي تحدث عنه جون لوك، قد نخر في قلب الأيديولوجية ذاتها، إذ إنها، آخر الأمر، من عمل وتقديم وتنفيذ بشرٌ لهم أهواء وأغراض وتوجهات تحكم تصرفاتهم. وهو ما تخلصت منه أيديولوجية الإسلام. المبادئ مقررة ثابتة، من خرج عليها وجب إقصاؤه وعزله بلا تمييز. فإن استمرأ الشعب فسادا وولغ فيه فهو ممارس لليبرالية الكافرة، شاء أم أبى، وجاءه عقاب الخالق وجرت عليه سننه.

ليست هناك ليبرالية ولا ديموقراطية على الأرض. ولا يمكن لها أن توجد، كما قرر ويل ديورات، صاحب الموسوعة التاريخية الهائلة "قصة الحضارة"(2) حيث قال في ورقة نشرها عام 1930، بعنوان “هل تموت الديموقراطية؟"(3) ما نصه:

" The complexity of industry; the geographical expansion of America; the development of intricate foreign relations; the possibility of war; the replacement of political problems by economic problems, arising by hundreds every day before officials, elected not for economic knowledge but for political skill; the consequent diversion of power from elected incompetents to appointed experts and boards -- all these factors have cooperated to make the "free and equal" vote a delusion, and democracy unreal, a pretty window dressing for the rule of machines adept in herding votes, distributing favors, utilizing crime and

barring the road to office for all but the subservient and corrupt." (4)

"تعقيد الصناعة؛ التوسع الجغرافي لأمريكا. تطوير العلاقات الخارجية المعقدة؛ احتمال الحرب. استبدال المشاكل السياسية بالمشاكل الاقتصادية، التي تنشأ بالمئات كل يوم أمام المسؤولين، المنتخبين ليس للمعرفة الاقتصادية ولكن للمهارة السياسية؛ وما يترتب على ذلك من تحويل السلطة من المنتخبين غير الأكفاء إلى الخبراء والمجالس المعينة - كل هذه العوامل تعاونت لجعل التصويت "الحر والمتساوي" مجرد وهم، والديمقراطية غير حقيقية، وهي نافذة جميلة لحكم الآلات الماهرة في قطيع الأصوات، توزيع الحسنات، واستغلال الجريمة، وقطع الطريق على الجميع إلا الخاضعين والفاسدين."

ومع الرؤية الثاقبة لديورانت في هذه الورقة، إلا إنه كان متفائلا في نهايتها، ورآها، أي الديموقراطية، وإن كانت حلما، فإنه يمكن تحقيقه إن أصررنا على أن نحلم به! وهذا بطبيعة الحال قد ثبت أنه وهم كذلك، كما رأينا في المائة عام التي تلت كتابة هذه الورقة!

د طارق عبد الحليم

29 يناير 2024 – 19 رجب 1445

 الهوامش

[1] Liberalism: a political doctrine that takes protecting and enhancing the freedom of the individual to be the central problem of politics. Liberals typically believe that government is necessary to protect individuals from being harmed by others, but they also recognize that government itself can pose a threat to liberty [2] Story of Civilization, Will Durant. [3]“Is Democracy Dying” The Mentor and World Traveler, XVIII (June 1930), page 74. [4]https://will-durant.com/democracy.htm