إزالة الصورة من الطباعة

الأسماء والأحكام في شريعة الإسلام - الجزء الثاني

في قيام الحجة

فإذا عرفنا هذا، قررنا أن أصل الدين، التوحيد، لا يسلم لأحد مع عدم وقوع ناقض له، قولا أو فعلا، وأنه إن "قال أو فعل ما هو كفر، كفر بذلك، وإن لم يقصد أن يكون كافراً" وهذ في حق المعيّن، ولا دخل للحجة فيه، إذ إقامة الحجة من تحقق الشروط، والتي رأينا أنها تكون في أحكام الواجبات والمحرمات، وبعض ما يتعلق بإثبات الأسماء والصفات. لكن أمرَ الدعوة أمر آخر. فالدعوة تكون للمشركين أصلا وغيرهم فرعاً. فإن قاطعنا أو جاهرنا بالتكفير في كلّ حال خسرنا المآل. ولها تلطف علماء الدعوة الكبار مع المخالفين والكافرين في بعض الأحوال كما فعل الإمام محمد بن عبد الوهاب

وإقامة الحجة، لها ثلاث مراتب، إيصال الحجة، فهم الحجة وقبول الحجة أو رفضها.

وعلى كل حال، فإننا نوقر حديث رسول الله ﷺ، ولا نتعدى على ما قرر، لكن الأمر هنا هو النظر فيما هو من ثوابت القرآن والسنة كذلك، كما فعلت أمنا عائشة رضي الله عنها فيما جاءها عن أن الميت يُعذب ببكاء أهله عليه، وما فعله مالك رحمه الله في حديث ثبوت خيار البيع. فنميل إلى ما قال ابن عبد البر وبقية الأئمة في التوقف في هذا الحديث، وهو ما نصرته في كتاب الجواب المفيد.

لكن على أية حالٍ، فإنه سواء ثبت هذا الحديث أم لا، فإن النتيجة واحدة في إجراء الحكم في الدنيا. وهي كفر من لم يُسلم ويؤمن برسالة محمد ﷺ. وقد أعطانا الإمام الجليل ابن القيم المخرج في هذا الأمر بإثبات أربعة ثوابت يجب الإيمان بها على الجملة، " فقال ـ رحمه الله ـ في (طريق الهجرتين) بعد كلامه عن الطبقة السابعة عشر من مراتب المكلفين في الدار الآخرة يوم القيامة، وهي طبقة المقلدين وجهال الكفرة وأتباعهم وحميرهم الذين هم معهم تبعا لهم، قال:

"الله يقضى بين عباده يوم القيامة بحكمه وعدله، ولا يعذب إلا من قامت عليه حجته بالرسل، فهذا مقطوع به في جملة الخلق. وأما كون زيد بعينه وعمرو بعينه قامت عليه الحجة أم لا، فذلك مما لا يمكن الدخول بين الله وبين عباده فيه، بل الواجب على العبد أن يعتقد أن كل من دان بدين غير دين الإسلام فهو كافر، وأن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بالرسول. هذا في الجملة، والتعيين موكول إلى علم الله عز وجل وحكمه، هذا في أحكام الثواب والعقاب. وأما في أحكام الدنيا فهي جارية مع ظاهر الأمر فأطفال الكفار ومجانينهم كفار في أحكام الدنيا، لهم حكم أوليائهم. وبهذا التفصيل يزول الإشكال في المسألة. وهو مبني على أربعة أُصول:

أحدها: أن الله سبحانه وتعالى لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه. (وإن لم يتهيأ لنا معرفة الكيفية في المعيّن).

الأصل الثاني: أن العذاب يستحق بسببين، أحدهما: الإعراض عن الحجة وعدم إرادة العلم بها وبموجبها (بأن تكون متاحة ممكنة ثم لا يبحث عنها). الثاني: العناد لها بعد قيامها وترك إرادة موجبها. فالأول كفر إعراض، والثاني كفر عناد. وأما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة وعدم التمكن من معرفتها (لاحظ اشتراطه عدم قيام الحجة أو عدم التمكن من معرفتها وهو ما ليس بقائم اليوم) فهذا الذي نفى الله التعذيب عنه حتى تقوم حجة الرسل (وهذا في حكم الأخرة لا الدنيا كما نبهنا).

الأصل الثالث: أن قيام الحجة يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، فقد تقوم حجة الله على الكفار في زمان دون زمان، وفي بقعة وناحية دون أُخرى، كما أنها تقوم على شخص دون آخر، إما لعدم عقله وتمييزه كالصغير والمجنون، وإما لعدم فهمه كالذي لا يفهم الخطاب ولم يحضر ترجمان يترجم له...

الأصل الرابع: أن أفعال الله سبحانه وتعالى تابعة لحكمته التي لا يخل بها سبحانه، وأنها مقصودة لغايتها المحمودة وعواقبها الحميدة." اهـ.

وقد بالغ الشيخ الألباني في توصيف "من لم تبلغه الدعوة" حتى كاد أن يجعلهم كل من لم يتكلم العربية! فقال رحمه الله "لو أن قوما أو ناسا بلغتهم دعوة الإسلام محرفةً مغيرةً مبدلةً، وبخاصة ما كان منها متعلقًا في أصولها وفي عقيدتها، فهؤلاء الناس أنا أول من يقول إنهم لم تبلغهم الدعوة؛ لأن المقصود ببلوغ الدعوة على صفائها وبياضها ونقائها، أما والفرض الآن أنها بلغتهم مغيرةً مبدلة، فهؤلاء لم تبلغهم الدعوة، وبالتالي لم تقم حجة الله تبارك وتعالى عليهم". وهذا خطأ منه. فإنهم مطالبون بالبحث ومعرفة الحق، وهو متاح في كل مكان اليوم بأسهل الطرق، بل هذا أثر من بقية تلوث عقيدته بالإرجاء الصريح، من حيث قوله في الإيمان وفصله عن العمل، والاكتفاء بالإقرار.

واعتبار تغيّر الزمان ومدلولات الألفاظ موجودٌ في كلام الأئمة، فقد صرح ابن تيمة رحمه الله في معرض حديثه عن الخطأ المغفور للمتلفظين بكلام مغاير لما ثبت في القرآن من الصحابة "فمن اعْتَقَدَ أَنَّ بَعْضَ الْكَلِمَاتِ أَوْ الْآيَاتِ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ بِالنَّقْلِ الثَّابِتِ كَمَا نُقِلَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا أَلْفَاظًا مِنْ الْقُرْآنِ كَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ: {وَقَضَى رَبُّكَ} وَقَالَ: إنَّمَا هِيَ وَوَصَّى رَبُّك, وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ قَوْلَهُ: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} وَقَالَ: إنَّمَا هُوَ مِيثَاقُ بَنِي إسْرَائِيلَ, وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ, وَإِنْكَارِ بَعْضِهِمْ {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} إنَّمَا هِيَ أَوَلَمْ يَتَبَيَّنْ الَّذِينَ آمَنُوا, وَكَمَا أَنْكَرَ عُمَرُ عَلَى هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ لَمَّا رَآهُ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأَهَا, وَكَمَا أَنْكَرَ طَائِفَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَلَى بَعْضِ الْقُرَّاءِ بِحُرُوفِ لَمْ يَعْرِفُوهَا حَتَّى جَمَعَهُمْ عُثْمَانُ عَلَى الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ".[3] فيجب اعتبار ما ذكره ابن تيمية من أن ذلك مقرون بوقوع التواتر وقيام الحجة. فمن أنكر آية أو قراءة في عصر التدوين غير من أنكرها بعد ذلك من تدوين المصحف وتواتره بين أيدي الناس. ومنْ من الناس اليوم لا يعرف الإسلام أو اسم نبينا ﷺ ووجود القرآن الكريم، فهم في الغرب يعلنون في تلفازهم كل عدة أيام أنّ هناك من حرقه، حرّق الله عليهم دنياهم!

كذلك عن خطأ الاجتهاد وأنه يكون في المسائل العلمية والخبرية، لا مجرد الأمور الفقهية قال "وَالْخَطَأُ الْمَغْفُورُ فِي الِاجْتِهَادِ هُوَ فِي نَوْعَيْ الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَمَنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَ شَيْءٍ لِدَلَالَةِ آيَةٍ أَوْ حَدِيثٍ وَكَانَ لِذَلِكَ مَا يُعَارِضُهُ وَيُبَيِّنُ الْمُرَادَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ مِثْلَ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ الذَّبِيحَ إسْحَاقُ لِحَدِيثِ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى؛ لِقَوْلِهِ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُوَلِقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍكَمَا احْتَجَّتْ عَائِشَةُ بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الرُّؤْيَةِ فِي حَقِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا يَدُلَّانِ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ"[4].

أما من ذكرت له الآيات والأحاديث، سواء كان من المتحدثين بالعربية أصلا، أو من تُرجمت له، فقال لا أفهم المقصود، ولم يقبلها، فهذا تظل صفة الكفر ملازمة له، سواء كان مسلما بالميلاد، وخرج عن الدين بمكفّر فهو مرتد، أو من كان كافراً أصلياً.

وليس هناك في هذا الباب مما يثبت إلا تلك العوارض المذكورة في كتب الأصول، فمنها ما هو دائم أو كالدائم كالجنون والعته، أو مؤقتٌ كالنوم والنسيان، ومنها ما هو صفة ترتفع بالحجة كالجهل وهو ما بيّنا حكمه. ففهم الحجة هنا محدود بوصول مال هو لازم منها، وهو أن هناك ربّ هو الله ﷻ ودينٌ اسمه الإسلام، ورسول اسمه محمد ﷺ، وكتابٌ اسمه القرآن، كلٌّ ذلك بلغة يفهمها، فإن لم يبحث عن المزيد ويطلب الحق، فهو يموت على الكفر على ما هو ثابت لدينا من الأدلة الظاهرة، ونسير فيه سيرة ابن القيّم التي أوضحها في كلامه.

كلّ ذلك جارٍ على من هو كافرٌ أصلي، أو مسلم بالميلاد ممن كذب أو أنكر أو جهل شيئا مما ينقض أصل التوحيد، ويضاده وينقضه، فأنه في بقائه على الناقض للتوحيد أو حال موته وهو على الكفر، فهو كافر، اسماً وحكماً، لا يصلى عليه ولا يُدفن في قبور المسلمين. أما من كذب أو أنكر شيئا من المتواترات أو المعلومات من الدين بالضرورة أو خالف مواضع الإجماع، فهذا يجب أن تقوم عليه الحجة بالرسالة، وهو ما تحدثنا عن حدودها ومعناها[5].

د طارق عبد الحليم

22 صفر 1444 – 18 سبتمبر 2022

 

[1] شرح القواعد الفقهية أحمد الزرقا، طبعة دار القلم القاعدة 42، ص 235، واللفظ له

[2]  الجواب المفيد ص 24 وبعدها https://tariq-abdelhaleem.net/ar/post/73404

[3]  مجموع الفتاوى ج20، أصول الفقه ص 35

[4]  مجموع الفتاوى، السابق ص 33

[5] راجع هذه النقاط بتوسع في كتاب الجواب المفيد الباب الثاني وبعده