إزالة الصورة من الطباعة

فقه البدائل!

فقه البدائل!

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

البديل لغة: هو الخلف والعِوض، أي هو الشيء الموازي لشيء أخر، المماثلٍ له.

وفي الاستعمال العاديّ، كما في المصطلح الاستعمالي الشرعي لا يُشترط أن يكون البديل مماثلاً لبديله، بل يمكن أن يكون أقل منه أو مماثلا له، أو أفضل منه.

قال تعالي " أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير" في البديل الأقل، وقال تعالى "يستبدل قوما غيركم" في البديل الأفضل.

وقد جرى هذا المصطلح على الألسنة في العصور الحالية المتأخرة، بشكل واسع، في مقامات شرعية، وفي محلات اجتهادية، لتبرير استبدال أمر تكليفي بأمر آخر أقل فائدة وأضعف دليلاً، بدعوى المصلحة الشرعية، من باب احتمال أخف الضررين لدرأ اعلاهما.

كما جرى المصطلح على ألسنة الكثير في المجال السياسي لتبرير القبول بغير الكفء من الناس أو غير المقبول من العمل.

وبطبيعة الحال، فقد سخر المائعون والساقطون والمبدلون والتابعون، وكافة فئات الراضخين والمروجين للكفر والفجر والهوان، بل وبعض من دخل عليهم الزور ذاك من الإسلاميين، سواء منهم المغرضين أو المخدوعين، هذا المصطلح، في عبارة مشهورة "وما البديل إذا" أو أليس بأحسن من غيره"!

والقاعدة الشرعية التي تنص على "تحمل أدنى المفسدتين درءا لأعلاهما"، أو "تحمل أقل الضررين"، هي قاعدة صحيحة، بشرط مراعاة مناطاتها وشروط تطبيقها، وإلا فهي سلاح مخيف في يد العابثين المارقين.

وأول ما يجب علينا فهمه هو أن تلك القاعدة تنحدر من الدليل الشرعي الاجتهاديّ "المصلحة المرسلة"، أو "الاستصلاح" كما يسميها بعض الأصوليين. فتطبيق أي من فروعها يجب أن يخضع لضوابطها وشروطها.

والمصلحة المرسلة أو الاستدلال المرسل، مبنية على المرسل المناسب المعتبر، كما هو معروف لأهل الأصول. وتعريفها "أنها المصلحة التي لم يشهد الشرع باعتبارها أو إلغائها، وإن لاءمت تصرفات الشرع على الجملة دون دليل خاص معين". مثال ذلك جمع المصحف وتضمين الصناع، وقتل الجماعة بالواحد. كما إنّ لها أمثلة على اعتبارها في كافة المذاهب، وإن اختلفت تسميتها، مثل جعل استيلاد الأب جارية الابن سببًا لنقل الملك إليه عند الأحناف، ونفي المخنث عند الشافعية، وتضمين الأجير المشترك عند الحنفية، أما المالكية فهو أصل كبير من أصول مذهبهم.

لكن هناك ضوابط محكمة على استعمال هذا الدليل، تتبين بتتبع خطوات العلة القياسية، لتحديد الوصف المناسب المرسل الملائم. وهذه الضوابط يمكن إجمالها في التالي:

ألا يخالف اعتبار تلك المصلحة نصاً في الكتاب أو السنة الثابتة. وهذا معنى قولنا في التعريف "لم يشهد الشرع بإلغائها".

ألا تكون مصلحة متوهمة غير حقيقية، مثل ألا تكون مما اتفق عليه العقلاء من الناس، مثل ما اعتبره البعض مصلحة في أن تصرف أموال الزكاة على المشاريع العامة والمرافق وما إلى ذلك نظرًا إلى أن الغرض الرئيسي للزكاة هو جلب المصلحة العامة وهذه الأمور هي مصالح للعباد فيصح أن تُصرف فيها الزكاة وهذا المصلحة مُتوهمة بلا جدال، لأنها معارضة للنص الثابت في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين..}

ألا تعارض مصلحة أكبر منها وتحول دون تحققها.

أن تكون قطعية الثبوت لا مظنون وقوع المصلحة فيها.

وقد احترز ابن تيمية في هذا المقام على تسمية المصلحة المرسلة، من حيث يوهَم بأنها محكومة بالعقل، فقال "والقول الجامع أن الشريعة لا تهمل مصلحة قط، بل إن الله تعالى قد أكمل لنا الدين وأتم النعمة فما من شيء يقرب إلى الجنة إلا وقد حدثنا به النبي ﷺ وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولكن ما اعتقده العقل مصلحة، وإن كان الشرع لم يرد به فأحد الأمرين لازم له إما أن الشرع دل عليه من حيث لم يعلم هذا الناظر أو أنه ليس مصلحة" الفتاوي جـ 11/ص 344. فموقف ابن تيمية أنه إما أن تكون المصلحة ثابتة في الشرع بطريقٍ ما، أو هي ليست بمصلحة. وكلام ابن تيمية هذا حق، إذ أن القول بأن المصلحة ما لا يدل عليه دليل مُطلقًا قول باطل، وهذا ما لا يقصده العلماء في بحث المصالح المُرسلة.

المهم هنا، هو أن اختيار البديل الذي يركن إليه المسلم، تحت دعوى أقل الضررين، إما أن يكون مستنداً على دليل صحيح، يأخذ في الاعتبار الضوابط التي ذكرنا، أو هو محض هوى وتحكم عقل لا حقّ فيه، كما ذكر ابن تيمية. وأقل الضررين لا يتعين إلا بمراعاة قول الشارع في الأمر. فإن جاء نصٌ فلا محل لاعتبار مصلحة أو مفسدة إلا ما جرى بها النصّ، ولا بديل. هذا أمرٌ محسوم عند العالم بالشرع. وتجاوز النص لا محل له على وجه الإطلاق.

ويجب هنا أن نبيّن أنّ السكوت على ضرر، أتت الشريعة بعدم قبوله، وبين اعتباره بديلٌ ممكن، هما أمران مختلفان في الحكم.

فمثلاً، لو أن هناك حاكم كافر بالله، يحكم بالعلمانية بلا مواربة ولا خفاء، لكنه جيد في احترامه لشعبه وعمله لترقيته دنيويا، فهو أفضل حاكم كافر يذل شعبه ويضطهد الناس ويسرق الثروات ويقتل المسلمين. لكن، لا يصح مناصرة أيهما على السواء، بل الأوفق هو في الصمت على الثاني، لا في نصرته والافتخار بأعماله الطيبة والثناء عليه في المحافل! وذلك من حيث أنّ الصمت عملٌ مشروع بنص حديث رسول الله ﷺ في الصحيحين عن أبي هريرة "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت". لكن ليس هناك مجال لمدحٍ أو ثناءٍ أو موافقة على أي أمر من الأمور، خاصة والموضوع متشابه على العامة، وسيكون الثناء ولو على عمل حقٍ بابا لتصحيح ما خرب من عقيدته وكفره، وهو باب يجب سدّه بالتمام.

فلا بدائل إلا بما وافق الشرع وتابع الحق. والأمر ليس بالعقل، بل بالدليل، ورحم الله امرأ عرف حدّه فوقف عنده.

د طارق عبد الحليم

8 يونيو 2022 – 9 ذو القعدة 1443